يشكل ما شهدناه خلال الأسبوعين الماضيين دخولاً في مرحلة مفصلية لا عودة من بعدها إلى ما كان عليه واقع حالنا صباح يوم الخميس في 17 تشرين الأول 2019.
ما تحقق في الوعي الجماعي للشعب اللبناني وإدراكه لواقعه السياسي، بقيادة الجيل الأكثر شباباً فيه، قد بات واقعاً جديداً لممارسة السياسة في المرحلة المقبلة في لبنان.
فبعيداً عن المحطات التاريخية التي شهدناها في القرن الماضي، والتي تلت سقوط الإمبراطورية العثمانية واتفاق سايكس ـ بيكو وولادة الكيان الصهيوني، وغيرها من الحسابات التاريخية للقوى الدولية والإقليمية في منطقتنا، توحد المواطنون والمواطنات اللبنانيون للمرة الأولى منذ قيام دولتهم.
بعيداً عن هذا كله، توحدوا خارج هوياتهم الطائفية والسياسية وتحت راية وطنية جامعة تجسدت في رفع العلم اللبناني وغناء النشيد الوطني تكريساً لولادة حسهم بوطن ينتمون إليه ويعيشون فيه جيلاً بعد جيل.
وقد شكل عنوان “مراعاة التوازن الطائفي لحفظ السلم الأهلي في لبنان”، وتجنب العودة إلى حرب أهلية جديدة فيه، مصدر خوف لدى اللبنانيين لفترة طويلة، واستغلت الزعامات السياسية هذا الخوف لتكريس بقائها في السلطة وحماية حصصها في الحكم.
ثار اللبنانيون وانتفضوا على وضع الفشل الذي وصلت إليه السلطة الحاكمة في إدارة الدولة في لبنان، وعلى تعطيل مؤسساتها واستغلالها إلى حد دخول “الحياة” السياسية في البلد في حالة سبات عميق تموت معه إمكانية الحكم.
تراجعت اليوم أولوية تمثيل “مكونات” الشعب اللبناني في مؤسسات الدولة، أمام منظومة أكثر واقعية قوامها الكفاءة والاجتهاد والإنجاز في العمل وحسن ممارسة المسؤولية في الحكم.
لم يعد مقبولاً أن يكون شرط تولي موقع قيادي في الدولة هو الاستزلام لزعيم طائفة، أو حسن إتقان فن المماحكة والكلام عن سياسات مفرغة من مضمونها لا تخدم سوى مصلحة الزعيم وفريقه دون سواهم.
وحتى في ظل استمرار نظام تقاسم مفاصل الحكم على مختلف زعامات الطوائف اللبنانية، فقد بات شرطاً أن يخضع من يمثل تلك “المكونات” في مؤسسات الدولة لمعايير الكفاءة والنزاهة، وللمحاسبة المستمرة على أدائهم في خدمة المصلحة الوطنية، ومعاقبتهم عند استغلال سلطتهم لتغليب مصلحة فريقهم على المصلحة العامة.
من هذا المنطلق، فقد استعاد اللبنانيون مسؤوليتهم كمواطنين، أي حقهم في مساءلة من يمثلهم في السلطة ومحاسبة المقصرين منهم إلى حد الإهمال والاستغلال.
أدرك الناس أنه ينبغي عليهم أن يفصلوا بين ما تمثله الزعامات السياسية والطائفية في لبنان، وبين من يحكم في إدارة الدولة ويتولى شؤون الناس. فالزعيم ليس بالضرورة الحاكم الأصلح، إلا إذا ما استمد زعامته من النجاح الذي يحققه في ممارسة الحكم. أما زعماء لبنان فقد بالغوا على امتداد عقود في التسلط الذي يستمدونه من ممارسات طوائفية وانتهازية وقمعية ترهب المواطنين.
ومن هذا المنطلق كسر اللبنانيون حاجز الخوف من مواجهة السلطة والإفصاح عن التجاوزات والمخالفات في الحكم بأسماء مرتكبيها. ولجمت الثورة من هم في السلطة اليوم ومن قد يأتي من بعدهم لاحقاً، عن تماديهم في استغلال سلطتهم، ليمارسوا عملهم تحت سقف القانون ومدى المساءلة الشعبية لهم.
أما كيفية إصلاح واقع الحال الذي وصلنا إليه، فيبقى رهن الممارسات المقبلة في الحكم وقدر المحاسبة التي ترافقها.
ونذكر من المطالب التي رفعها اللبنانيون خلال ثورتهم، على سبيل المثال لا الحصر، آلية لانتخاب من يمثل الشعب في السلطة، إلغاء الطائفية السياسية في الإدارة، محاربة الفساد، تحديث القوانين المدنية، وغيرها من المطالب المشروعة لقيام دولة حديثة في لبنان.
إنها بداية مرحلة جديدة في تاريخ بلدنا، نرسمها اليوم بإرادتنا ومدى تصميمنا على تحقيقها في المدى القصير، والأبعد، وبعيداً كل البعد عن تحريض الزعامات الصماء التي تحاول يائسة أن تتلاعب بثورتنا لتعيدنا إلى معادلة “فرق تسد” التي لا تتقن سواها.