أبدأ من حيث انتهى آخرون. انتهوا إلى أن الرئيس دونالد ترامب لم يحقق خلال ما يزيد عن عامين ونصف من ولايته فوزا واحدا في أي خصومة أو نزاع مهم الولايات المتحدة طرف فيه. أعترف، كما صار يعترف زملاء عديدون، أن الرئيس ترامب نجح في إلهائنا. أبدع في إثارة الزوابع حول نزاعات أمريكا مع الخارج. كان بالفعل مجددا في أنماط العمل في ساحة “الميديا” وفي سلوكياته وبخاصة في إبراز دوره في صفقات الحل.
أحيانا كان يبدو لي، ولكثيرين غيري من متابعي ملاحمه، في صورة البطل الممتطي حصانا والمشهر سيفه متحديا طواحين الهواء أن تنزل لتنازله. وغالبا، لم يحقق لأمريكا فوزا واحدا يستحق كل العناء الذي تحملته المؤسسات الدستورية في أمريكا وكل القلق الذي هيمن على بلايين البشر خلال فترة حكمه. قيل إن في اعترافه بالقدس عاصمة لإسرائيل فوز. هو بالتأكيد فوز مطلق لرئيس الوزراء الإسرائيلي ولكنه لترامب فوز غير مكتمل منذ أن تصدى الرأي العربي الواعي والفلسطينيون بخاصة بالرفض لمشروع جاريد كوشنر، المشروع الذي يتضمن اقتراحا للعرب بتصفية قضية فلسطين.
هناك في أرجاء شتى من العالم مقاومة لسياسات الرئيس دونالد ترامب ولشخصه ومبادئه، أو على الأقل ما ظهر منها وانكشف. لن أتطوع اليوم بنقل أو صنع قائمة بنسب الصعود والهبوط في شعبية الرئيس الأمريكي في بلده أولا ثم في بلاد أخرى. لا المساحة تسمح ولا الوقت يسعف. ومع ذلك أستطيع وبكل الإيجاز الممكن التصريح بأن بعض سياسات الرئيس ترامب تجاه قضية فنزويلا قوبلت بمقاومة شديدة في داخل فنزويلا وفي بلاد أخرى في الأميركتين الوسطى والجنوبية. أستطيع أيضا استنتاج أن هذه المقاومة أحبطت هذا البعض من سياسات الرئيس الأمريكي. أحبطت مثلا المواقف المنفعلة من جانبه شخصيا ومن جانب كبير مساعديه في قطاع الأمن والدفاع السيد جون بولتون ذي السمعة الرديئة في عالم الدبلوماسية والسيد مايك بومبيو، ذي السمعة كثيرة التردد عن تعصبه الطائفي وتأثير هذا التعصب في صنع المواقف الرسمية تجاه بعض القضايا الخارجية.
لا تهمني التفاصيل بقدر ما تهمني النتائج. واضح لي تماما، أولا، أن الرئيس مادورو ما زال يحكم، وأن دولا في القارة ترفض النية الأمريكية المعلنة للتدخل في شأن داخلي وتغيير نظام حكم هنا أو هناك. واضح لي، ثانيا، أن جهود رؤساء سابقين في الشأن الكولومبي مكنتهم من التوصل إلى اتفاق سلام أحبطها عودة منظمة فارك المسلحة هذا الأسبوع إلى استئناف الحرب ضد حكومة بوجوتا ومستشاريها العسكريين الأمريكيين. ثالثا، كان واضحا أيضا، أن خضوع الرئيس جايير بولسنارو لشخصية وأهواء الرئيس ترامب وسياساته دفعه للمخاطرة بموقف جلب عليه نقمة زعماء العالم الصناعي المجتمعين في بياريتز في قمة السبع. لم يكن مقبولا منه، حتى ولو بمباركة الرئيس الأمريكي، أن يحرق الأمازون أو يراه يحترق وهو جالس يتسلى بمنظر النيران أو يحسب الاستثمارات الموعود بها بينما العالم يعاني ويشكو من كوارث بيئية متكاثرة ومدمرة. علينا أن نذكر ثم نحلل ونناقش الاحتمال أن يكون ترامب ومستشاروه وحواريوهم بإصرارهم على اللجوء إلى مبدأ مونرو لمنع أوروبا من التدخل في كارثة الأمازون هم في الحقيقة أثبتوا جهلا بحقيقة أن العالم تغير منذ أن تبنت واشنطن هذا المبدأ قبل حوالي مائتي عام. رابعا، لا أستطيع، وحال حلفاء الولايات المتحدة من العرب على ما هو عليه، إلا أن أتبنى عددا من الانتقادات القاسية الموجه كثير منها إلى جامعة الدول العربية وكثير أكثر إلى سياسات حكومة الرئيس ترامب، كلاهما، وأقصد الجامعة وإدارة الرئيس ترامب، لم يبديا الاهتمام الجاد بتحقيق وفاق بين الدول العربية فساهما في السقوط المريع الذي تشهده الأمة العربية في مرحلة لعلها من بين الأسوأ في تاريخنا المعاصر.
لن أثير الآن قضايا تتصل بالأوضاع الناشئة في جنوب شرقي آسيا نتيجة توسع النفوذ الصيني المستمر في بحر الصين الجنوبي وفي وسط آسيا وفي بحار ومحيطات شتى بأكثر وأوسع مما كان في عهد الرئيس باراك أوباما، العهد الذي لا يتوقف الرئيس ترامب عن تحميله مسؤولية نقائص وأخطاء كثيرة. هذا موضوع يستحق مثل موضوعات كثيرة اهتماما مستقلا رغم اتصاله المباشر بحقيقة صارخة وهي أن التوسع الصيني يقضم أجزاء بعد أجزاء من جسد الإمبراطورية الأمريكية ونفوذها. كان من بين ما توقفت عنده أكثر من مرة خلال الأسابيع الأخيرة العدد المتزايد للمواقف الأوروبية الرافضة لسياسات الرئيس دونالد ترامب في أوروبا وخارجها. أوروبا التي هي الجناح الآخر للغرب وبدونه لن يطير هي الآن تقف بالمرصاد رافضة معظم سياسات ترامب الخارجية ومتوجسة شرا من كل خطوة يخطوها باسم الغرب.
عامان ونصف العام وربما كانت ثلاثة أعوام أو أكثر تعرضت خلالها قيادات أوروبا، حليفة الولايات المتحدة على امتداد قرن، لحملة تشهير وانتقادات وتتفيه من جانب الرئيس ترامب منذ بدأ رحلة ترشيحه لمنصب رئاسة الجمهورية. تحملت كثيرا وطويلا. تحملت تدخله الشخصي في شؤون الحكم في كل دولة على حدة وعلى مستوى الاتحاد الأوروبي الذي كان وما يزال ترامب يمقته فكرة وعقيدة وتنظيما. شن حملاته على أقرب حلفاء أمريكا في أوروبا في أسوأ وقت وأصعب وضع. حمل عليهم عندما كانت روسيا تتأهب لتجرب العودة إلى دبلوماسية فرض الإرادة على أوروبا والتحلل من التزاماتها تجاه علاقاتها بدول الجوار في شرق ووسط القارة. استمر في حملته رغم إدراك أوروبا المتأخر لخطر يمكن أن تجسده الصين الزاحفة على بقية العالم بسرعة وتصميم. لم يمنعه قلق الأوروبيين من أن يشجع الإنجليز على الخروج من أوروبا ويحفز سياسيين في بولندا والمجر ورومانيا وإيطاليا على التصدي لألمانيا وفرنسا في موضوعات الهجرة الأجنبية والعلاقات بدول المشرق. هذه الممارسات وغيرها دفعت المستشارة أنجيلا ميركل لإصدار دعوة علنية لاستقلال القرار الأوروبي، قالت لزملائها قادة أوروبا “يجب أن نأخذ مصيرنا بأيدينا”.
بعد ذلك بات واضحا أن الدول الرائدة في أوروبا انتوت الاصطفاف لمقاومة تجاوزات إدارة الرئيس ترامب. اتخذت المقاومة الأوروبية أشكالا متباينة. مثلا راحت ترد على قرارات رفع التعريفة على الصادرات الأوروبية برفع التعريفة الأوروبية على الواردات الأمريكية. ثانيا رفضت إلغاء الاتفاق النووي الموقع مع إيران من طرف واحد، وهي تعلم قدر أهمية وخطورة هذا الرفض على علاقاتها بأمريكا وعلى مكانة الغرب عامة. ثالثا خرجت حكومتا ألمانيا وفرنسا بقرار مفاجئ يكلف الشركات المختصة في الدولتين بالبدء فورا في تصنيع أحدث طائرة مقاتلة في الترسانة الغربية بما يعنى صرف النظر عن رغبة واشنطن في أن تقود هذا المشروع. رابعا: تعمدت دول أوروبية التلكؤ في تنفيذ قرار أمريكي يقضي بوقف التعامل مع كبرى الشركات الصينية العاملة في مجال الإنترنت والتكنولوجيات المتقدمة. خامسا لم يعيروا الرئيس الأمريكي اهتماما يذكر في اجتماع قمة السبع الذي نظمته فرنسا.
لم يغب عن أي من الحاضرين في بياريتز ابتسامة سخرية لم تفارق وجه الرئيس ترامب. لا شك دار بذهنه أن المؤتمر القادم سوف يعقد في ضيافته بولاية فلوريدا وسيحضر فيه من ينتقي بنفسه ولن يستشير أحدا وسيحاول أن يستصدر من القرارات ما يحلم بأن تكون الأساس الذي سوف يقام عليه نظام اقتصادي عالمي جديد. لن توافق الصين سواء دعيت أو لم تدع.. أغلب الظن أنها لن تدع أمريكا تضع مرة أخرى نظاما وتفرضه.. وإن فعلت فسوف نشهد حروبا متنوعة وليس فقط حروب تجارة كالتي نشهد نتفا منها تحذر وتمهد.
تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق