اغتالت انظمة الجهل والقمع العربية على امتداد العقود الماضية، العقل العربي وحق التفكير والسؤال، ثم السؤال، وصولاً الى الحقيقة أو ما يقاربها..
صُيرت الشعوب العربية قبائل متنازعة حتى الإقتتال مما حول العدو الإسرائيلي الى حليف لبعضها ضد بعضها الآخر، في محاولة لتصوير نفسه شريكاً في الماضي والحاضر وصاحب قرار في المستقبل العربي باعتباره يسترهن فلسطين باحتلاله المباشر ويسترهن الإرادة العربية عبر الأنظمة ناقصة الشرعية التي تحكم بدعم الخارج (الأميركي أساساً) والتواطؤ الإسرائيلي.
وها هو رئيس حكومة العدو الإسرائيلي بنيامين نتنياهو يفاخر بأن معظم الدول العربية تقيم بشكل أو بآخر، علناً أو سراً علاقات ممتازة مع “دولته”، متجاوزة واقع احتلال فلسطين وتشريد شعبها ومطاردة فتيانها وفتياتها بالرصاص والاعتقال والمحاكمات العشوائية.
والمواطن العربي يعرف، بالمتابعة اليومية، من هي الدول المعنية، بعد مصر التي قيدتها حتى أخضعتها اتفاقات كمب ديفيد، وقطر التي ذهبت الى واشنطن لرد “عدوان” السعودية عليها نتيجة طمعها بمنطقة “العيديد” فكان ان أقام الأميركيون قاعدة عسكرية فيها، سرعان ما اتسعت أيضاً لقاعدة تركيا..
ان الواقع المر يشهد بأن الدول العربية المستقلة فعلاً والمطهرة أرضها من القواعد العسكرية الأميركية (والفرنسية، أحياناً، والبريطانية، ولو بنسبة أقل) تكاد تعد على أصابع اليد الواحدة.. فالقواعد الأميركية في كل مكان (حتى في حامات اللبنانية) وفي دير الزور وانحاء أخرى من الشمال والشرق في سوريا، وفي الكثير من انحاء العراق، وثمة “تسهيلات” أردنية للقوات الأميركية في الأردن، وكذلك في مصر،.. وقد أفادت الإدارة الأميركية من الغزو السعودي ـ الإماراتي لليمن لمحاولة مصادرة مستقبل اليمن بالتخطيط لإقامة بعض القواعد فيها بذريعة الخطر الإيراني..
لقد اغتيلت أحلام الوحدة العربية بالكيانية معززة بالحماية الأجنبية..
كذلك اغتيلت أحلام التقدم بالاستسلام للتبعية للغرب الأميركي أساساً.
وحتى الكيانية وجدت فرصتها لتكتسب “شرعية ما” مع انحسار الدعوة الى الوحدة وإندثار مجالات التعاون العربي في إطار جامعة الدول العربية العجوز في القاهرة.
ان دول النفط والغاز العربية قد ابتعدت عن “الأخوة الفقراء”، وأنشأت ناديها الخاص، بديلاً من الجامعة العجوز، وإطاراً خاصاً للمصالح المشتركة فيما بينها، بعيداً عن المتسولين الطماعين والحاسدين ممن كانوا أشقاء يوم ان كانت الأحوال معكوسة.
ونادي الأغنياء العرب يتبع مباشرة للإرادة الأميركية: واشنطن تقرر حجم الانتاج وسعر البرميل وأسواق التوزيع.. والعصا لمن عصا!
ثم ان هذا النادي المذهب مستقل في قراراته عن الأخوة الفقراء، وطالما ان له مصلحة في العلاقة مع العدو الإسرائيلي فالمصلحة تتغلب على الأخوة التي عفا عليها الزمن ولم تعد تنفع اليوم فكيف بالغد؟!
.. وإسرائيل، بارتباطها بالهيمنة أساساً منذ الولادة، وبطبيعة تكوينها، أقرب الى أهل النفط والغاز العرب، بالمصلحة، ان لم يكن بوحدة النسب وصلات الرحم..
وهكذا فهي شريكة في نفطهم وفي غازهم، عبر الإدارة الأميركية، أو مباشرة كما باتت القاعدة مؤخراً على ما بشر به نتنياهو.. أما مع الأخوة الفقراء التي يعمي عيونهم الحسد، ويعيشون في ماضي “العروبة” و”أمجاد يا عرب أمجاد” فليس لهم أكثر من “صدقة” يدفعونها للسلطة التي لا سلطة لها في رام الله، وبصورة متقطعة، وإلا بعض “الشرهات” تقدمها لبعض ذوي السلطة الذين لا يعترضون عليها حتى لو سجنتهم.. ودياً! (كما مع الرئيس سعد الحريري..)
ان الوطن العربي مهدد بخسارة هويته الجامعة، والعودة الى عهد الاستعمار والاسترهان السياسي والثقافي والاقتصادي.
ان الدول الأغنى في ديار العرب تكاد تكون محتلة، قرارها السياسي مصادر، وثروتها من النفط أو الغاز لا تملك أن تحدد لها أسعارها وأسواق بيعها، بل ان القرار يأتي من الخارج وينفذه أصحاب العلاقة صاغرين..
أما الدول الفقيرة فتحاول “تدبير” مصادر إعالتها (الأردن، مثلاً) بالقروض والهبات والشرهات، فلا هي تبلغ مبلغ الدول وان كان فيها عرش، ولا هي مؤهلة لأن يتم الاعتماد عليها في معركة تحرير الأرض والإرادة… العرش أغلى من الأرض، وقديماً رضي الأمير عبد الله ابن الشريف حسين بقطعة من أرض سوريا لإمارته ثم انتظر نكبة فلسطين ليصير ملكاً، فيسقط في المسجد الأقصى ولا شهادة..
العراق الغارق في فوضى آثار الاحتلال والخلافات السياسية عاجز عن تشكيل حكومة لأن حروب العشائر والطوائف والمذاهب ما تزال مفتوحة تهدد كيانه ودولته بمخاطر جمة، وتعيد تعميق الانقسام بين مواطنيه، عبر الصراع على السلطة في بلد نهبت ثرواته (بعضها سلبها الاحتلال والبعض الأعظم سرقه أهل السلطة.. بعد “التحرير”..)
أما سوريا فما تزال تعيش مخاطر مصيرية، بينها التهديد بتقسيمها، خصوصاً مع تواجد قوات مسلحة فيها بإرادتها (الروس والإيرانيون) أو من خارج إرادتها (الأميركان في الشرق والأتراك في الشمال)..
برغم ذلك فان واجبنا أن نتفاءل بحيوية أمتنا وقدرتها على النهوض، مجدداً وهذا شعب فلسطين يقدم لنا النموذج الفذ ويثبت أن الحجر أقوى سلاح كمعبر عن الإرادة التي ستظل أقوى من طيران العدو وصواريخه.
ولنتذكر أن هذه الأمة لم تتأخر يوماً عن الإندفاع الى الميدان لتحمي وجودها وحقها في الحياة الكريمة، برغم الصعب.
تنشر بالتزامن مع السفير العربي