اتصل بي زوجها قبل أسبوع من حلول مناسبة عيد ميلادها. تحدث هامسا فهي في المكان وليست بعيدة عن مدى الصوت. قال ما معناه إنه يخطط للاحتفال بعيدها في بيتهما الكائن بالحي البعيد جدا ويريدني أنا وآخرين أن نتكتم على الأمر وأكون أنا أول من يصل من المدعوات والمدعوين وهم خمسة. طلب منها أن تستعد لسهرة خارج المنزل يقضيانها معا كعادتهما في هذه المناسبة من كل عام. خلافا لعادة جديدة لم أعتذر بذريعة بعد المسافة أو الانشغال بالكتابة أو توقع زوار من أهل الحي. قبلت الدعوة ممتنا وأمنت على مؤامرة التكتم مترقبا سهرة فيها إثارة وشلة أصدقاء طال فراقنا.
• • •
وصلت لأجد بيتا أغلب أنواره مطفأة وكلابه لا تنبح وقططه مختفية والهدوء من حوله لا يطمئن. انتظرت في السيارة حتى يحين الموعد المتفق عليه، وعندما حان، نزلت وخطوت في ظلام دامس أحسب حسابا ضد عثرات من ساقين انتابهما كسل أو خمول نتيجة رحلة الساعة وعشرين دقيقة بالسيارة. ضغطت على جرس الباب فانفتح ليستقبلني وجه شديد السمرة وابتسامة حلوة كشفت عن أسنان براقة وناصعة البياض. لم تتكلم صاحبة الوجه الأسمر. انتحت جانبا بمعنى أن أتفضل. دخلت بصمت. أضاءت البهو ثم صالة الاستقبال وتركتني أختار مقعدا مريحا وغابت عن أنظاري. دقائق قليلة مرت قبل أن يظهر أمامي رب البيت وإصبعه على فمه علامة الاستمرار في تنفيذ الخطة. صدرت منه إشارات لم أفهم القصد منها وبعدها نادى بصوت عالٍ على زوجته لتنزل من طابق غرف النوم استعدادا للخروج حسب وعده لها. نزلت وفي لحظة وجدتني واقفا في استقبالها ومهنئا لها حلول المناسبة. لم تعرف ماذا تقول، ولكنها ألقت بنفسها في حضن زوجها تشكره على مفاجأة وجودي في بيتها في هذه الليلة، كهدية منه في عيد ميلادها. رأيت دمعة وهي تمسحها بعد الحضن لعلها كانت دمعة فرح أو دمعة عرفان لزوج نجح في أن يقنعني بالحضور إلى بيتها ليلة عيدها.
• • •
هدأت وهدأنا. سألتني «هل تعرف كم بلغت اليوم من العمر؟». أجبت «أعرف طبعا. يكفي أن أخصم من عمري سبعين سنة أو أقل قليلا فيكون عمرك. وإن نسيت فلن أنسى يوم اتفقنا على أن تعملي معنا، مع هديل غنيم وسيف سلماوي ونانيس خليل ومعي، كنا نعد ونستعد لإصدار مجلة «الكتب: وجهات نظر». تذكرين ولا شك أنه كانت لك مهمة محددة، أن تقرئي وثيقة بعد وثيقة من وثائق الخارجية الأمريكية وتستخرجي للأستاذ هيكل أهم تطورات وأسرار علاقة أمريكا بالعالم العربي خلال قرن من الزمن. كان هيكل وقتها يخطط لكتاب عن أمريكا والشرق الأوسط ينشره تباعا في مجلتنا. كنت يا زميلتي الصغيرة على ما أذكر على وشك التخرج من الجامعة متفوقة وجميلة وهيفاء القوام تماما كابنتيك اللتين رحبتا بى قبل دقائق».
• • •
قبل شهر من اليوم اتصلت بى إحدى أكبر حفيداتي وبالدقة اللازمة هي في حكم أن تكون في مكانة حفيدتي. قالت «يا خالو، أحب أن تعرف أننا قررنا عقد قران ابنتي الأكبر على الشاب الذى اختارته لنفسها قبل عام أو أكثر حبيبا ثم خطيبا وها هي تقرره زوجا. دعوناك لخطوبتهما والآن ندعوك لعرسهما. أما المراسم فكثيرة وأنا واثقة من أنك لن تبخل علينا ببعض وقتك».
• • •
تتفرق مراسم الأفراح، حسب ما شرحت، على امتداد شهر أو أقل قليلا. تذكرت وأنا أتصفح بطاقات الدعوة وأراجع تعليمات تنفيذها ومواقعها مع آخرين في العائلة ومع السائق الذي سوف يتكفل بتسهيل التنقلات، تذكرت أفراح عائلتي عندما كنت طفلا ثم مراهقا كطالب في الثانوي أو الجامعي. كانت الأفراح فرصة للأطفال ليتخلصوا من سيطرة الأهل. نجري صبيانا وبنات بين المعازيم ونتسلل إلى المطابخ ونلعب «الاستغماية» مطمئنين إلى انشغال الأهل والخدم والمربيات عنا. كانت الأفراح متعة للأطفال لا تعادلها متعة أخرى بدليل أننا لا نزال نذكر تفاصيلها إلى أدق وأصغر وأقل الأحداث أهمية.
متعتنا في الأعراس كمراهقين كانت أوسع وأكثر تنوعا. كان ينصب للموسيقيين موقع في سرادق العرس بأعلى البناية التي تقيم فيها العروس. وكانت الراقصات يغيرن ثيابهن في شقتها التي نشأت فيها أو في شقة من شقق الجيران. كثيرا ما حاولنا أن يكون لنا مكان بين كبار السن وفي الوقت نفسه نكثر من التنقل بين الطوابق وفي الشارع نتباهي بالملابس التى اشتريت خصيصا للمناسبة. لم نكن ندرك أننا في هذه السن صرنا هدفا لتقييم خالاتنا وعماتنا وغيرهن من أهل الطرف الآخر في العرس، عرسانا أو عرائس في المستقبل.
• • •
ما أذكره بكل الوضوح الممكن هو منظر الرجال كبار السن من اهالينا و«أهاليهم». أذكر أننا كنا نخشاهم. نخشى غضبهم من الضجة التي نثيرها كأطفال ونغضب من إهمالهم المتعمد لنا كمراهقين ومراهقات أو من نظرات الحسد. كانوا دائما وقورين جدا، أغلبهم يأتي ومعه عصاته يستند عليها أو يطرد بها الكلاب والقطط والأطفال المزعجين دائما. كنا نحسدهم على نعمة كونهم أول فوج يدعى لتناول الطعام الخارج لتوه من المطابخ. أذكر أن بعض أمهاتنا كن حريصات على إبعادنا عن موائد كبار السن تفاديا لرد الفعل من جانبهم، وأن بعضا آخر منهن كن أشد حرصا على تأمين مقاعد لأولادهم حتى بين الكبار. منظر كبار السن بشعرهم الشايب وظهورهم المنحنية وعصيهم وارتفاع نبرة أصواتهم ولمعان أحذيتهم وجواربهم الحريرية المشدودة دائما إلى أعلى وربطات العنق المتدلية إلى ما تحت البطن بكثير ظل محفورا في ذاكرتي أقارنه بمنظر واقعنا، واقع كبار السن في العصر الذى نعيش فيه.
• • •
كان وجود عدد من الأقارب من ذوي العمر المتقدم في المناسبات العائلية مصدر بركة في بعض الأوساط وعزوة في معظمها. حدث هذا عندما كان كبير العائلة يبدو كهلا في شكله وتصرفاته ولم يتجاوز عمره الخمسين. في أيامنا يعيش كبير العائلة حتى سن الثمانين والتسعين وشكله وتصرفاته لا تزال بعيدة عن مواصفات هذا العمر المتقدم في ماضى الأيام. لا وقار كوقار الأولين ولا هيبة وربما لا بركة ما تعودنا عليه في سالف الأزمنة ولا الحكمة المفترضة غالبا في من بلغ هذا العمر.
• • •
أيا كان حكم الزمن، أعترف أننى كنت سعيدا عندما أديت دور هدية عيد الميلاد لرنوش مساعدتي الرائعة بعد مرور سبعين سنة على أول لقاء لنا. أصرح أيضا بصفتي كبير عائلة «جنا» أننى سوف أكون سعيدا بتلبية دعوتها لمشاركتها الاستمتاع بسلسلة من الأفراح والليالي الملاح بمناسبة زواجها.
تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق