بعد أسابيع قليلة تنعقد قمة العشرين في دورة جديدة. لم تتح لي بعد الفرصة لقراءة جدول أعمالها فتخيلته، وبدقة أكبر تمنيت أن يكون، على نحو معين. أعلم أن البند الذي أتخيله أو أتمناه صعب المنال ومع ذلك لا أكف عن التفكير فيما يمكن أن يحدث في القمة أو لها لو فاجأها تطور أو حدث تسبب فيه إنجاز علمي في مجال “الذكاء فوق البشري” أي الذكاء المخلق. كان يمكن أن أفعل ما يفعلون وهو أن أستمر في تأجيل الاهتمام بالموضوع لولا أن تطورات صغيرة ومتناثرة اجتمعت في الأيام الأخيرة وراحت تلح لتفرض نفسها على قائمة اهتماماتي لأعيد ترتيب أولوياتها. كنت مثل كثيرين غيري أتوقع أن تتصدر أعمال قمة العشرين مسألة التجارة الدولية وعواقب الخلل فيها ومستقبل منظمة التجارة العالمية وسياسات الصين التجارية وحروب الرئيس ترامب المزاجية. قد يصدق التوقع، وإن صدق فسيكون حتما على حساب الاستعداد لمستقبل يختلف جذريا عن كل المستقبلات التي حلت بالبشرية، بدأ قبل فترة يطرق الأبواب بنعومة وهو الآن يطرقها بكل ما أوتي من إصرار وعزم وطاقة ذكاء غير معتاد.
***
تستعد اليابان لاستضافة مناسبة رياضية عالمية في موعد لا يبتعد كثيرا عن موعد انعقاد قمة العشرين. رأينا على مختلف الشاشات الإعلامية بعض الانجازات الإنشائية كالملاعب والأجهزة والمساكن ولكن تعمدت اليابان أن تقيم على شاشاتها عروضا خاصة عن إنجاز له قيمة خاصة عندها. كنا مثل غيرنا من مستهلكي إبداعات الثورة التكنولوجية نتساءل كلما سمعنا عن إبداع جديد أطلقته شركة في كوريا الجنوبية أو في وادي السيليكون في كاليفورنيا أو في الصين، كنا نسأل، أين اليابان؟ ولماذا تأخرت؟. الآن نسأل أين أوروبا. فات وقت طويل منذ أن كنا نستهلك إبداعات أوروبية حتى توقفت أوروبا أو كادت تتوقف عن ممارسة الإبداع في مجال التكنولوجيا. وربما نسي أبناء جيلي متى كانت آخر مرة وقفنا منبهرين أمام إبداع أوروبي وانتقل انبهارنا إلى سيل من الإنجازات اليابانية خلناه لن يهدأ، ولكنه بالفعل هدأ بل توقف لفترة طويل. فجأة اشتعلت من جديد روح المنافسة لدى اليابانيين وهاهم يستأنفون مسيرة الإبداع.
لذلك كانت بالفعل مفاجأة أن نشهد في الصور موكبا من حافلات ركاب خالية من سائقين من بني البشر تسير في شارع بمدينة يابانية. كانت مفاجأة ليس فقط لأنها بهذا الإعلان أرادت اليابان توجيه رسالة إلى العالم بأنها تنوى العودة الى الانضمام الى ركب دول قليلة تقود الثورة التكنولوجية ولكن أيضا لأنها اختارت التميز فيما بدأته قبل سنوات عديدة وهو مجال صنع الإنسان الآلي فراحت تبدع في إحدى أهم صناعات العصر، وأقصد صناعة إنسان أذكى من الإنسان الطبيعي.
***
بالأمس نقلت هيئة الإذاعة البريطانية تفاصيل تحقيق إعلامي يكشف عن أن علماء اشتغلوا في صمت على إنتاج كائن غير بشري في حجم لا تراه العين المجردة. هذا الكائن مزود بذاكرة لا تمحى وسعتها هائلة ولا تستهلك من الطاقة إلا أقل القليل. يصرح العلماء بأن هدفهم من هذا الاختراع إطلاق المئات بل الآلاف من هذه الذرات الذكية للغاية في جمع من البشر. يتوقعون أن يستنشق أفراد هذا الجمع أطفالا كانوا أم نساء أم رجالا هذه الذرات لتقيم في صدورهم أو تجري في العروق مع دمائهم. هذه الذرات لديها تعليمات بأن ترسل رسائل منتظمة عن كل ما يفعله أو يفكر في أن يفعله الفرد حامل هذه الذرة. وعلى بعد بعيد جدا أو قريب جدا يوجد عقل غير بشري مزود هو الآخر بذكاء من نوع بالغ يتولى فك شفرة الرسائل وتحليل بياناتها. يأمل العلماء في أن تؤدي دراسة هذه البيانات إلى حصيلة من المعلومات الضرورية لفهم السلوك البشري في كافة الظروف وقياس كفاءة أجهزة الجسم ورشادة التفكير وأداء الفرد خلال عملية اتخاذ القرار والتعرف على أهم المؤثرات التي تتحكم في إرادته سواء كانت مؤثرات خارجية أم جسدية وحسية. يعتقد هؤلاء العلماء، وكمعظم العلماء لابد أن يكونوا مخلصين وموضوعيين، إن حصيلة هذا الإبداع العلمي ستقدم للطب ومهن أخرى والبشرية عامة فوائد عظمى وإن كانوا في ضمائرهم واثقين من أن وزارات الدفاع وشركات الأسلحة ستكون أول من يصادر أو يستخدم هذه الإبداعات.
وبالفعل يبدو أن الحصيلة الأولى لهذا الإبداع، بعد أن تأكدت غزارة ونوعية ما يمكن أن تجمعه هذه الكائنات الدقيقة وغير البشرية من معلومات، راحت للمسؤولين عن الأمن والدفاع وحماية الدولة من غدر الأعداء وحماية السياسيين من خطط المعارضين. سمعنا عن الإبداع الذي حققه علماء الصين في مجال الذكاء فوق البشري، وأقصد بالذات توفير القدرة لأجهزة الأمن للتعرف من الصور في التو واللحظة على كل البيانات الشخصية عن أي فرد مشترك بالإرادة أو بالصدفة في أي تجمع أو حشد للاحتجاج أو لركوب قطار أو دخول صالة سينما. أضف هذا الإبداع إلى اختراع الكائن الذري المزود بذاكرة لا تنسى ولا تخطئ ثم تخيل ضخامة حجم ما يمكن أن يتحقق من آثار سياسية لو استطاعت جهة ما، دولة أو تنظيم أو جماعة علمية، جمع التجارب الثلاثة خلال رحلة بحافلة تقل قادة العشرين وتسير بسائق غير بشري أو بدون أي سائق ولكن تأتمر بتعليمات ثابتة زودها بها قبل أن تتحرك أو في سيرها عقل غير بشري يتمتع بذكاء خارق.
***
أنا شخصيا تواق لرؤية عشرين ملك ورئيس دولة ركابا يدشنون حافلة يقودها كائن آلي بالغ الذكاء يحمل في مخه المجمع بأيدي بشرية تركيبات إلكترونية تسمح له باتخاذ قرارات بسرعة أكبر ورشادة أكثر من القرارات التي يتخذها عقل بشري. هذا السائق، من مكانه في مقعد القيادة ودون أن يتحرك، يستطيع أن يبث في فضاءات الحافلة كائنات نووية الحجم غير بشرية النوع ولكن بشرية الصنع يستشقها الركاب تعود بعدها فتطلعه على قليل أو كثير من خصوصيات الركاب ودخائلهم. لا شك عندي في أنها ستكون لحظات مثيرة لإنسان طبيعي موجود في مكان آخر وصلته من السائق غير البشري البيانات الكاملة عن كل ركاب الحافلة. أتصوره مقبلا على قراءة ما يدور في أذهان هؤلاء القادة، وهي أذهان مدربة على ألا تثق إلا قليلا بعقول البشر، فما بالنا بعقل غير بشري وإن بالغ الذكاء ومستقل الإرادة وشديد الإخلاص لصانعه الذي خلقه ودربه.
***
أي مستقبل هذا الذي ينتظرنا، بل ويستعجل ذهابنا إليه؟ وأي نوع من الناس سنكون؟ وأي نوع من الدول سوف يهيمن؟ وبأي جيوش وقوات أمن سوف تحمي هذه الدول حدودها وتفرض الهدوء في شوارعها، جيوش من البشر أم من جنود مخلقين ومدربين في المعامل؟ ما حاجة الدول حينئذ إلى حاملة طائرات وغواصات في زمن يستطيع الفرد العادي تخزين عشرات الطائرات الذكية في درج مكتبه يطلقها وقتما شاء لتؤدي ما تكلف به من مهام قتالية أو استخباراتية وتعود إلى مكانها؟. أذكر أن الدول الكبرى كانت قبل مائة عام أو أكثر تجتمع لتحرم استخدام أسلحة بعينها وما يزال التحريم جاريا. أعرف أيضا أن بعض إبداعات الذكاء المخلق أو الصناعي أشد خطورة على حياة البشر وسلامة الدول من كثير من أسلحة محرمة بمواثيق دولية، لكل ذلك وكثير غيره تخيلت الموضوع مدرجا على جدول أعمال قمة العشرين.
تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق