لم يخطئ بهجت عثمان في اختيار الكلمات ورصفها على الغلاف بأناقة لافتة ببساطتها لتكون ”التفسير” الصاعق لعنوان الديوان الجديد للشاعر مريد البرغوثي ”ليلة مجنونة”:
“ إذا الأهل أنتم، سأبكي طويلاً،
وإن خدعتني عيوني وكنتم سواكم،
وكنتم بعيدين عن كل هذا
تعالوا…”
ولأن ”الحياة أغنى من كل طرق كتابتها”،
و”لأن النظر إلى الإنسان بصفته سوبرماركت، مقسماً إلى أقسام للبضائع المنفصلة، هو أمر بالغ السذاجة في الحياة، وبالغ الضرر في الكتابة”،
… فقد قدم مريد البرغوثي لديوانه الجديد ببيت من شعر أبي تمام:
“ كأن به ضغناً على كل جانبٍ
من الأرض، أو شوقاً إلى كل جانب”.
وجعبة مريد البرغوثي ناضجة، والرسائل فيها مرتبة، و”إذا الشمس في أول العمر، ينتظر الريف خطوته”… لكن العناوين الآن مطموسة ”لست أدري لمن سوف أوصلها، فلا أحد يرتجي خطوتي”، مع ذلك يوالي مريد الكتابة ويبعث بمكاتيبه كأي فلسطيني، إلى كل العناوين:
“ .. وأود لو ورَّثت مفتاحاً
لأولادي، بجانب كومة الأقفال..
….
لكنني من آخر القرن المهيأ للرحيل
يقيم في العالم العربي حفلة بؤسه
… راغب في عشقه
أو راغب في حرقه
لا فضل لي، لكنني
عاري ومجدي كله أني هنا
عاري ومجدي كله أني هنا”.
وُفِّق مريد البرغوثي الى اختيار منفاه داخل ”وطنه”. أو أنه الآن داخل وطنه المنفي. لم يعد النفي وقفاً على الأفراد، أوطاننا منفية عنا بقدر ما نحن منفيون عنها وفيها:
“ أحلامي ركبت، أمس، قطار الليل
ولم أعرف كيف أودعها
وأتتني أنباء تدهوره في وادٍ
ليس بذي زرع
(ونجا سائقه من بين الركاب جميعاً)
فحمدت الله، ولم أبكِ كثيراً
فلديَّ كوابيس صغرى
سأطورها إن شاء اللهإلى أحلام كبرى
… وفي يأسي أتذكر
أن هناك حياة بعد الموت
ولا مشكلة لديَّ.
لكنني أسأل:
يا الله،
أهناك حياة قبل الموت”!
أما انتقام مريد البرغوثي فقد شمل ”الأصنام” جميعاً: صنم القائد الفرد الذي قالت له العرّافة العجمية ”ستموت إن لم تستشر أحداً”، فاستلّ مرآة ورفعها ونظر ثم يسألها، ويكسرها ”مخافة أن يعوّدها على حق الكلام” وصنم ”الرحيم” الذي أعمل السيف فيمن معه ”حتى لم يبق من قومه أي حي ليسمعه”، و”صنم يسوق على رمال البحر أربع نسوة” ويسحبهن خلفه مرحاً وهنّ مغلفات بالسواد من النقاب إلى العباءة والحقيبة والحذاء”،
وبعد ”رأس الزرافة” يجيء ”الوسام المرتجف”، ثم ”زعيم الحزب”:
“ الصنم الحزبي
يتناول أدوية الشيخوخة في مكتبه
ويبدل سماعة الأذنين
ليلقط أي دبيب يدنو من منصبه
ويساعده فحلان من الحراس
على حمل الكرسي، مساءً، للبيت،
يغمره الاطمئنان إلى زوجته النائمة يساره
ويحط أصابعه اليمنى فوق الكرسي
ويمسكه مغتبطاً، وينام”!
وبعد ”قبعة النرجس” يجيء دور ”المفسر” أو الناطق الرسمي باسم الدين وصاحب الزمان، الذي ”في عينه ورع، ولكن عينه الأخرى تهيّئنا ولائم ”للذئاب”، ثم ”الصوينمات” و”المئتان”:
“ قريتي حفنة من بيوت،
والصنم
مئة من تماثيله في الشوارع
لا يبتسم!
هل ظلمناه؟ عفواً،
ففي مئة غيرها يبتسم”!.
إنها مطالعة بليغة ”ضدهم” جميعاً. ومريد يعرفهم، وقد قاربهم، وضاحكهم، ولاعبهم، وحاول استغفالهم فاستغفلوه، وكان يعرف، ثم وجد وسيلته للانتقام، وقد استخدمها بكفاءة عالية، وبفنية أعلى.
ولكم هو هائل الغنى ”صندوق الجدة” ذاك الذي كاد يحتوي القضية وتاريخها وشهداءها والخارجين عليها والداخلين إليها جميعاً، ومعها الزمن مطوي كالشراشف وقد ”رتّبته من ارتباكات الجفون أمام سيدها العريس إلى جنازتها القليلة في المطر”:
“ هل ضاعت رسائله؟
هنا أشلاء أغلفة
طوابع لم تزل ترسو بها سفن الخليج
وأرزة ونقوش تونس، بحر قبرص
رسم أهرام وتمثال عراقي وكرتٌ من أثينا
… صور لجارتها الجديدة
(دائماً جيرانها جدد..)
ومفتاح لبيت غابر في اللد
عنوان لبيت في ضواحي القدس
صورة عقد إيجار لبيت ضيق في الشام
…. وليت العمر رتِّب هكذا يا جدتي
قومي على كتفي ومرّي في الزمان غريبة
وتأملي ما تبصرين،
من ارتباكات الجفون أمام سيدك العريس
إلى جنازتنا جميعاً في المطر..”.
تختلط السخرية بلذعة الموت، وتشرق من قلب الحزن ابتسامة الذاهب إلى قدره بثقة القاهر يأسه بإرادته:
“ وسيهمس الشهداء للشهداء
هل متنا غلط؟!”
ولسوف تتوالى الأسئلة حتى ينحطم بعضها فوق بعض و”نغادر كلنا هذا الحداء”.