… ولأن »الحرافيش« كالشعراء يتّبعهم الغاوون، فلقد اجتهدت أن أكون »غاوياً«، ونجحت في حالات كثيرة في الاقتراب بل وفي مجالسة »أمير الحرافيش« نجيب محفوظ.
اقتفيت أثر »حرفوش« متطوع وكان، بعد، تحت التمرين اسمه »بهجت عثمان«، وكان عليَّ أن أتخفّف من اسمي ومهنتي وأن أدجّن فضولي حتى لا أزحم المجلس المكتظ بالفضول.
من »قهوة علي بابا« المطلة كالشرفة على ميدان التحرير في الصباح الباكر، إلى المكتب في »الأهرام« المزدحم بالأخيلة وأطياف الزوار الآتين للصورة التي تمنحهم رتبة »المثقف« ظهراً، إلى كازينو قصر النيل، عند السادسة من مساء كل خميس، فإلى الموعد الأثير والمشوق: سهرة الحرافيش.
من منزل الراحل محمد عفيفي، أحد ظرفاء عصره، في منطقة الهرم بالجيزة، بالحديقة الصغيرة حوله، التي كانت تشكل نهاية الامتداد للمساحة الخضراء في ريف القاهرة الذي سرعان ما التهمه الاسمنت وعلب الكبريت المزدحمة بعيدانها البشرية المتكاثرة باستمرار.
.. إلى منزل توفيق صالح، مخرج الفيلم الواحد، يتيمة الدهر، والإنسان الرقيق الحاشية والمعتذر في كل لحظة عن لطفه وعن لثغه بحرف »الراء« على الطريقة الفرنسية، والذي كان يحرص على استكمال مشهد »السهرة« ببعض الحيل السينمائية مما يضفي عليها حيوية تكاد تخرج بها من تقليديتها الرصينة.
.. إلى منزل »توأم الروح«، عادل كامل، كاتب الرواية الوحيدة، يتيمة الدهر الأخرى، برغم أن حياته الشخصية هائلة الغنى بالطريف والغريب والمثير من الوقائع والأحداث الخارجة عن المألوف والتي لا بد من أن »عمنا نجيب« قد استخدمها مجتزأة أو محوّرة أو مظلّلة ببعض خياله في أكثر من واحدة من رواياته الممتعة.
ربما في السهرة الثالثة أو الرابعة، وبعد كثير من التنبه والتحول والتأمل، استطعت أن أجلس هادئاً، مضفياً بإرادتي قدراً من الطبيعية على وجودي مع ذلك النفر المتبقي أو المنتدب نفسه لاستبقاء »الحرافيش«.
على أن »لبنانيتي« كثيراً ما آذتني، إذ تستدرّ سيلاً لا ينتهي من الأسئلة السياسية في منطلقها، لأن لبنان كان ولعله ما زال جرحاً عربياً مفتوحاً يكشف حال الأمة، ويقدم دليلاً على صراعاتها المتعددة: ضد الآخر، ضد الخارج، وضد الذات.
والأسئلة تفسد على الذاهب طلباً للأجوبة غايته، إذ كان نجيب محفوظ ومعه بعض أقرانه الحرافيش يستدرجونني بهدوء شديد إلى موقع الشارح والمجيب والموضح وأحياناً قارئ الغيب.
لا أثر للترف في السهرة الغنية »بنجومها«.
الشراب عادي جداً، بل لعله »أقل« مما يجب، و»المازات« شعبية جداً، وطبيعية جداً، حتى ليعتبر »الفستق الحلبي« المحمول من بيروت »إفساداً« واستعراضاً نافراً لقدرات لا وظيفة لها، أما الأكل البسيط فيحمل كل مشارك منه نصيبه، مع مراعاة ألا يتطلب مجهوداً في الإعداد أو عند الانصراف.
نجيب محفوظ حاضر متى شاء، غائب معظم الوقت مهوّماً مع رؤاه وأفكاره،
ولأن سائر »الحرافيش« يعرفون أنه ضعيف السمع، فلقد يتهامسون في أمر ولقد يتضاحكون لنادرة مبهجة أو لحبكة ظريفة، فيفاجأون بأن »شيخهم« الذي يقفل سماعته حين يشاء ويفتحها متى »اشتبه« بطلاوة الحديث، قد سمع همسهم »المهرّب«.
ولأنهم يعرفون أنه كليل البصر، حتى من خلف النظارتين السميكتين والمعتمتين، فهم قد يلجأون أحياناً إلى الرواية بالإشارة مطمئنين إلى أنه لن يراهم، أو أنه غير معني بأن يرى، ثم يباغتهم بإكمال الرواية أو بالتعليق عليها وكأنه من وضع النص، ومن قرّر التعبير عنه بالإيماء.
إضافة إلى »الباشا«، ثروت أباظة، وإلى الفنان الذي جاء إلى السينما من سلاح الفرسان في الجيش المصري، وكان قريباً من تنظيم »الضباط الأحرار«، أحمد مظهر، ثمّ في الفترة الأخيرة تنسيب الفنانة ناديا لطفي لتكون أول »حرفوشة«، ولو غير منتظمة، لكن انضمامها لم يبدل كثيراً في الجو الرجالي لسهرة الخميس، ولم يخفف حتى من النكات والإيحاءات والتلميحات الجنسية يتبادلها من بات يعيش على الذاكرة في الأمور الحيوية المتصلة بعهد الشباب.
مناخ »الحرافيش« وفدي عموماً، وأيضاً بالذاكرة التي كانت ترى في الوفد حزب الوطنية المصرية، برغم انكساره أمام الملك فاروق مرة وأمام الإنكليز مرات، لكنه الانكسار الذي يجسم قهر إرادة مصر والمصريين، ولا يتصل بضعف رفعة النحاس باشا وسائر القيادة الوفدية أمام السلطة.
من نجيب محفوظ، حمل إلينا الحرفوش بالتطوع، الفنان »المتقاعد« الذي أخذه كبر النفس من الكاريكاتور إلى تكريس ريشته للرسم لأبناء المستقبل، بهجت عثمان، الكتابين الأخيرين: »القرار الأخير« و»أصداء السيرة الذاتية«.
من أصداء السيرة الذاتية لأمير الحرافيش في هذا العصر، نقتبس هنا بعض الفقرات التي تلخص بعضها فكرة رواية بينما يشكل بعضها الآخر رواية لفكرة عظيمة:
الرحمة
البيت قديم وكذلك الزوجان..
هو في الستين وهي في السبعين.
جمعهما الحب منذ ثلاثين عاماً خلت، ثم هجرهما مع بقية الآمال.
لولا ضيق ذات اليد لفر العصفور من القفص.
يعاني دائماً من شدة نهمه للحياة، وتعاني هي من شدة الخوف.
ويسلي أحلام يقظته بشراء أوراق اليانصيب لعل وعسى.
كلما اشترى ورقة غمغم: »رحمتك يا رب«.
فيخفق قلب المرأة رعباً وتغمغم »رحمتك يا رب«.
سؤال وجواب
سأل العجوز السيدة:
معذرة يا صديقة العمر، لماذا تبذلين نفسك للهوان؟
فأجابت بوجوم:
من حقك عليَّ أن أصارحك بالحقيقة، كنت أبيع الحب بأرباح وفيرة، فأمسيت أشتريه بخسائر فادحة، ولا حيلة لي مع هذه الدنيا الشريرة الفاتنة.
ليلى
في أيام النضال والأفكار والشمس المشرقة تألقت ليلى في هالة من الجمال والإغراء.
قال أناس: إنها رائدة متحررة.
وقال أناس: ما هي إلا داعرة.
ولما غربت الشمس وتوارى النضال والأفكار في الظل، هاجر من هاجر إلى دنيا ا” الواسعة.
وبعد سنين رجعوا، وكل يتأبط جرة من الذهب وحمولة من سوء السمعة.
وضحكت ليلى طويلاً وتساءلت ساخرة:
ترى ما قولكم اليوم عن الدعارة؟
الصفح
إعجابي بك يا سيدتي يفوق أي حساب. إنك تنورين المكان بصفاء شيخوختك. تلقين الإساءة بالصمت وتغفرين للمسيئين إليك. فلم أعرف أمّاً قبلك بهذا الوفاء.
قلت لها يوماً:
إنك ضحية القسوة والأنانية..
فقالت باسمة:
بل إني ضحية الحب.
ولما قرأت الدهشة في وجهي قالت:
أنت تتوهم أن سلوكهم معي صادر من قسوة وأنانية، الحقيقة أنه صادر من حبهم الشديد لأبنائهم، وهكذا كنت أحبهم، ومن أجل ذلك قد صفح قلبي عنهم.
الحب المتبادل
قال الشيخ عبد ربه التائه:
»إنهما اثنان، بقوته خلق الأول الآخر، وبضعفه خلق الآخر الأول«.
كاكا نزار وجدار الألم والصورة المشتهاة!
»آه، أيها القدر الغادر، لماذا فعلت بنا هكذا؟!
»لماذا عبثت بمصيرنا؟!
»وتركت أبناءنا في مهب الريح،
»فحطمت أصدقاءنا،
»وجعلت الأعداء يفرحون لمرآنا…«.
لم يستشهد نزار أغري بهذه الأغنية الكردية الحزينة، عبثاً، في كتابه »كاكا والجدار الأكراد بين منازلة الجدران وتفيئها«… فالصفحات الثلاثمئة والعشرون التي كتبها ليست أكثر من تفصيل »بالتطريب« الأوركسترالي لهذا النغم الحزين.
»لم يعايش الأكراد عدواً من أمامهم وبحراً من ورائهم، بل اصطدموا بجدران صلبة من القسوة والاستعلاء والإنكار. جدار من أمامهم وجدار من ورائهم، جدار على يمينهم وجدار على يسارهم، جدران هائلة من البطش أقيمت لتخنق أصواتهم وتقتل أحلامهم.
… لقد نُبذ الأكراد وأنزلوا من قطار الحرية، واستمر استضعافهم واستعبادهم، ولكن ليس على أيدي الاستعمار الخارجي، (الغربي)، بل على أيدي الاستعمار (الإقليمي)، (الشرقي)، كذلك أصبح الأكراد مُستعمَري المستعمرين..«.
في عناوين الفصول ما يشرح مضمون الكتاب كله، ومنها: جدار الجدران سوء تساكن مزمن. إلى متى: كلنا أخوة، كلنا عرب؟. الحدود الحلال والحدود الحرام؟ لا لغة حوار حية سوى الموت؟! تركيا تنزف حمامة وأكراداً؟ سياسة الحجل عندما أراد الكردي أن يثبت دهاءه.. ذبح أخاه. الأكراد فلسطينيو العرب الأكراد والمصافحة المشتهاة (الاتفاق الإسرائيلي الفلسطيني في عين كردية..).
ومع أن العناوين ناضحة بمضمون هذه المطالعة ضد الكرد والعرب والفرس والأتراك (ناهيك بالخارجي الأجنبي) التي كتبها »كاكا« نزار أغري (وكاكا بالكردية تعني الأخ)، فلا بد لاستيفاء المعنى من أن نستشهد بهذه البكائية التي تفوح »عنصرية«، والتي جاءت خاتمة للكتاب:
»الميدان الوحيد الذي أراد الأكراد أن يتفوقوا فيه على أعدائهم ويثبتوا فيه جدارتهم بحقوقهم هو ميدان الموت. لقد تركوا كل شيء وراءهم وراحوا يتسابقون للسقوط عند جدار همجية الأعداء الصلب.
ولهؤلاء لم يكن الموت الكردي مشكلة تتطلب الحل، بل ذريعة للمزيد من الفتك بالأكراد. بدا الأمر كأنه لعبة مسلية. حقاً كان شكلاً من العبث بأرواح الشعب الكردي الذي كانت قياداته تفرّط بها وتسترخصها لإثبات »عدالة القضية«. وهكذا تشكلت حلقة جهنمية: القوى المهيمنة تقتل الأكراد لأنها تعتبرهم خطرين على »الأمة« و»وحدة الوطن« و»سلامة الدولة«، والقيادات الكردية توفر المادة اللازمة لذلك لأنها لا تجيد سوى (سياسة) الموت. (ألم يكن اسم المقاتلين الأكراد هو البيشمركه، أي الذاهبون إلى الموت؟).
… هل يبقى الشعار القائل »كردستان يان غان أي كردستان أو الغناء، مشروع الأكراد للألف المقبل«؟!
ومع الاحترام لكل أحزان كاكا نزار أغري، ولكل مواجع الأكراد في كل مكان وزمان، فإن الكتاب كله عبارة عن صرخة ألم وخيبة ومرارة وانكسار. تضيع فيها الدلالات السياسية وتختلط الأحقاد بالوقائع، والمراجعة النقدية باللوم الدائم للآخر، حيث يفقد القارئ طريقه إلى تمثل حل سوي للقضية الكردية.
ومن الصعب التسليم بما استخلصه نزار أغري من الاتفاق الفلسطيني الإسرائيلي:
»إذا كان من شيء يؤسِّس له الاتفاق الجديد فهو هذا: الوضوح. فالوضوح كان مصادراً بل مغتالاً على يد الظلام المتولد في معمعان المعركة المقدسة.. الوهمية. وكان مؤكداً أن المعركة مقولة منتفخة، وأنها ذريعة للدم المباح والحرية المفقودة والاقتصاد المدمر والعقل المقيّد. وكانت أيضاً أساس السيكولوجية المشوهة: سيكولوجية تهلل ل»حقنا« وتلعن حقوق الآخرين. كل ذلك معطوفاً على قيم أقرب إلى البدائية والاحتفال الغريزي بالذات.
»… شكلت المسألة الفلسطينية الوجه السلبي لصورة الواقع الشرق أوسطي، ونقطة التقاء الحدود القصوى وتربة نمو جميع الأعشاب الضارة… تحت غبارها كانت تطمس الحقائق الأخرى، وكانت المعطيات جميعها تؤطر وتقاس على خلفية تلك الصورة، وكانت المسألة الكردية الفريق الذي دفع باهظاً ثمن الخديعة القاتلة«.
ومع التسليم بأن كثيراً من »الجرائم« قد ارتكبتها أنظمة القمع باسم التحرير، والاستسلام بذريعة الهزيمة، فمن الصعب الموافقة على المقارنة ليس بين الفلسطينيين والأكراد بل بين سائر العرب وإسرائيل، وبالتالي من الصعب تمثل الحل في »المصافحة المشتهاة« وكأن الأكراد هم أهل البلاد الأصليون والعرب (عراقيين وسوريين) وافدون من الخارج، ومدعومون من الخارج، وعاملون للخارج الذي يرعى مشروعهم بوصفه مشروعه أصيلاً.
أما الإيرانيون والأتراك فلهم من يدافع عنهم.
لعل الوجع قد ذهب بقلم نزار بعيداً، فأضاع الحدود هو الآخر… على الطريقة الكردية!
وهذا ظلم شديد يا كاكا، حتى لو كانت إسرائيل منتصرة علينا جميعاً، وضمننا الأكراد، اليوم.
رسائل إلى الضمير المتصل: غنيناكِ الجمعة..
انطلق الصوت عفياً، شجياً ورائقاً، فإذا بالوجوه تشرق وتكتسب قدراً من الصفاء كانت تفتقده، ورأى كل منا جمالاً في الآخر، وقرأ من تيسرت له متعة القراءة قصائد حب في العيون التي تحولت إلى بحيرات من الحنين واللهفة والتشوق إلى لحظة فرح مشتهاة.
تموسقت الأجسام والحركات، وهومت في سماء القاعة العابقة بالدخان أطياف الأحبة الغائبين، وارتعشت كلمات الاستذكار بالوجد: لمثلها يطيب الغناء، وكرسيها الفارغ يستجلب الحزن ويمنع الاكتمال عن ليلة الأنس،
بين لحظة وأخرى كانت صورتها تطل كومضة نور عبر كلمات الأغنية، أو عبر انفجار الوتر بالنغم، أو عبر انعطافة الصوت بذوب الذكرى إلى ذروة الطرب.
لسعد كان عبد الكريم يغني الأمل ويستدعي بهجة الروح،
لكن سعداً الذكي والشفاف سرعان ما استذكرها معنا وأدخلها في »مسرحه« الجديد، فصار اللحن يسري رقراقاً بين القلوب المتقاربة في المنازل المتباعدة.
ليس الآخرون هم الجحيم دائماً.
الحياة أحياناً، وغالباً، هي الآخرون.
وفي الآخرين لكل منا لحنه وقصيدته والمسرحية.
ولربما وجد من كتب إليها ليقول: غنيناكِ، مع سعد وفايزة وديما بصوت عبد الكريم.