أخطأ الكرد في العراق عندما انساقوا وراء غرور مسعود البرازاني في مغامرة “الاستقلال” عن دولتهم ـ الام بعاصمتها بغداد، برغم انهم كانوا يتمتعون بامتيازات الحكم الذاتي، مثيرين حسد اخوانهم في سائر انحاء العراق، الغارقين في فقرهم وتعاسة ماضي الدكتاتورية وحاضر المحاصصة الطائفية التي تهدد الوحدة الوطنية.
لقد أفاد الاكراد، والى أقصى حد، من تجربة الحكم الذاتي داخل إطار الدولة المركزية بعاصمتها بغداد: احتلوا موقع رئاسة الجمهورية وبعض أهم الحقائب في الحكومة، كما في الجيش والشرطة والادارة.
وكانت ولاية الراحل الكبير جلال الطالباني كرئيس للجمهورية عنوان نجاح للتجربة.. في حين كان فشل عرب العراق في رئاسة الحكومة والمجلس النيابي، يشير إلى نقص الايمان بالدولة والاندفاع إلى نهب مواردها والتمييز بين مكونات الشعب العراقي والاهمال المخيف للمناطق التي جاء منها الحاكم الجديد، والذي فاق ما عانته ايام حكم صدام حسين من فقر وبؤس وحرمان مقصود.
نهض اقليم كردستان العراق، وصار مقصد رجال الاعمال العرب والاجانب، وجاءت اليه الشركات الدولية تبني فيه مشروعات عملاقة، بعضها يفيض عن حاجة الاقليم وسكانه، ويحتاج إلى كفاءات وخبرات ميدانية لا يملكونها… في حين ازدادت الاوضاع تردياً في المحافظات العراقية الاخرى، لا سيما الجنوبية منها، فضلاً عن بغداد.
ومؤكد أن هذا النجاح الذي تعزز بهمسات التحريض التي داعبت غرور مسعود البرازاني، قد زينت لهذا “القائد” الذي عاش معظم عمره مهجراً، قبل أن يعود إلى بغداد، لينتقل منها إلى اربيل رئيسا للإقليم الكردي، أن يندفع في مغامرة غير مأمونة، العواقب، مدغدغاً احلاماً غائرة في صدور الاكراد حول “حقهم في دولة لهم”.
ولعل مسعود البرازاني قد أخطأ في فهم بعض تلميحات التحريض او التشجيع المبطن، دوليا، والمكشوف اسرائيلياً.
لعله لم ينتبه إلى أن “التشجيع” التركي كان يستهدف الضغط على بغداد، أكثر مما كان ترحيباً باستيلاد دولة كردية لأربعة او خمسة ملايين كردي في العراق، بينما لدى أردوغان حوالي خمسة عشر مليون كردي يعانون مرارة التمييز العنصري والاضطهاد إلى حد مواجهة انتفاضاتهم المتكررة، بل الدائمة، بالقمع الشديد اغتيالاً او اعداماً أو اعتقالاً وسجنا لمدد طويلة في دولة اردوغان.
كذلك لعل البرازاني قد انساق مع طموحه إلى السلطة فنسي ان حدود اقليمه من الجهة الاخرى: ايران التي فيها ما بين خمسة إلى ستة ملايين كردي، يعيشون فيها كمواطنين.. وان طهران لن تقبل بقيام دولة كردية في شمالي العراق كنواة لمشروع دولة كبرى تجمع الكرد الذين وزعتهم مقاديرهم والتطورات والتحولات السياسية على ثلاث دول (تركيا وايران والعراق).. فضلاً عن أقلية كردية مؤثرة في دولة رابعة هي سوريا يجاهر “قادتها” بمطلب “الادارة الذاتية” ولا يزيدون.
المهم، أن مسعود البرازاني قد اندفع إلى مغامرته غير المحسوبة، بإعلان “الاستقلال” عبر استفتاء حرص على أن يجعله مدوياً في ضجيج مظاهره: التظاهرات المرحبة، الاقبال على التصويت، الزهو بالدبكة والرقص، والتخلي عن اللغة العربية بالمطلق، والابقاء على العلم الوطني العراقي محاصراً بأعلام الاستقلال الكردي..
نسي البرازاني او تناسى الوقائع الثابتة التي تصنع الدول: فكردستان، بالأمر الواقع المعترف بها دوليا، هي جزء لا يتجزأ من جمهورية العراق التي رئيسها كردي، وبعض وزرائها اكراد، وكذلك بعض المحافظين وكبار الضباط… ولا يلغي عراقيتهم أن يستدعيهم البرازاني إلى اربيل.
ثم أن في الاكراد تيارين رئيسيين متقاربين في الحجم وان ظلت الارجحية لتيار البرازاني… فليس تيار جلال طالباني بأقلية، ثم أن ثمة احزاباً أخرى لديها قواعدها الشعبية، وليست مطلقة الولاء لبرازاني، خصوصاً حين يتخذ قراراً مصيرياً مثل “الاستقلال” عن دولة العراق.
هذا في داخل الاقليم.. أما على المستوى العربي فالرفض مطلق، بغض النظر عن موقف الحكومات من بغداد، وكذلك امر الرفض على المستوى الدولي، وان ظل الموقف الروسي ملتبساً، مع الاستعداد للعب دور الوسيط، في حين أن الموقف الاميركي جاء مخيباً لآمال من توقع التأييد.
أما تركيا فقد اتخذت الاجراءات العسكرية الموحية بالاستعداد لحصار الاقليم، مع خطاب اردوغاني ذي نبرة تهديد عالية، وان هي لم تمتنع عن استيراد النفط من اقليم كردستان.
في أي حال، فان حكومة العبادي قد تصرفت بحزم: فأنهت الجدل حول تبعية كركوك، التي اعتبرها البرازاني ضمن دولته، فأرسلت قوة من الجيش العراقي معززة بفصيل من الحشد الشعبي، فاستعادتها إلى حضن الدولة العراقية، من دون اية مقاومة، واسقطت بذلك ادعاء البرازاني بأن كركوك بعض ارض اقليمه، ومن هنا مبادرته إلى رفع علمه فوقها وهو يعلن “استقلال” الاقليم.
واضح الآن أن الامور تسير نحو تسوية مقبولة: تُبقي على نوع من الحكم الذاتي لإقليم كردستان، وانما داخل سيادة الدولة العراقية بعاصمتها بغداد وبرئيس جمهوريتها الكردي فؤاد معصوم، الذي حاول جاهداً لعب دور الوسيط فأفشله غرور البرازاني..
ولقد بادر رئيس الحكومة العراقية حيدر العبادي إلى اعتبار استفتاء الاكراد انتهى وبات من الماضي، داعياً إلى استئناف الحوار من حيث توقف ضمن اطار وحدة الدولة.
وعلى امتداد فترة الازمة كان العراقيون عموماً، عرباً وكرداً، يفتقدون القائد والرئيس العراقي الراحل جلال طالباني، الذي اصر البرازاني على استقدام جثمانه من المانيا، حيث توفي بعد فترة مرض طويلة ومريرة، إلى اربيل، ومن دون السماح بمرور جثمانه ببغداد لتكريمه، ثم انه اوعز برفع العلم العراقي الذي كان يلف جثمانه واستبدله بعلم كردستان، نازعاً عنه عراقيته.. وهو الذي كان رئيساً لجمهورية العراق جميعاً، وبتأييد عربي اجماعي وتأييد دولي مع احترام لتجربته السياسية الغنية..
تنشر بالتزامن مع السفير العربي