رحلة داخل »ذاكرة القرن« .. نقولا زيادة!
لا يهدأ الحنين إلى القاهرة ولا يستكين شوقك إليها، بل يرافقك وأنت عائد منها أكثر مما كان في قلبك وعينك وفكرك من حنين وأنت ذاهب إليها.
لكن السفر مع »ذاكرة القرن« إلى القاهرة متعة إضافية.
ولأن المعني هو الدكتور نقولا زيادة فإنك لا تستطيع أن تنسبه إلى القرن الماضي الذي أحياه ساهراً كله، بل لا بد من أن تزيد فتقول انه يطل أيضاً على الألفية الثالثة ويحاول أن يحفر اسمه على شجرتها التي تسمق الآن مرتفعة نحو الأبهى والأخطر من التحولات والثورات المولدة للثورات.
كنا في الطريق للمشاركة في ندوة »أيام لبنانية في مصر« »1840 1940: قرن عبرت فيه الصحافة، السينما، الشعر والموسيقى من بيروت إلى القاهرة«… كما تقول بطاقة الدعوة التي لم توزَّع، أو هي لم تصل، أو هي وصلت فأهملتها الكثرة الغالبة من المعنيين بموضوعها، وذلك حديث آخر.
وبدأ نقولا زيادة شغبه الظريف في الطائرة، فسعد به المضيفون والركاب وسعد هو بابتسامات المضيفات وملاطفتهن وبعض اللمسات، مع نظرات خاطفة إلى الجميلات من الراكبات.
فتى عند تخوم الرابعة والتسعين من عمره. تحسبه عجوزاً فيكاد يدعوك الى المنازلة. تمد يدك لمساعدته في النزول أو الصعود فيكاد يلويها وهو يرشقك بابتسامة التحدي الودود.
الأناقة كلاسيكية، واللياقة سلطانية، والثقافة الراسخة في أكاديميتها تمتد فروعها من التاريخ إلى الشعر والرواية والمقالة، ومن أدب الشراب إلى ظرف المجالسة، ومن الغزل الطيار إلى دفء الملامسة للنواعم.
يساهرك حتى يغلبك النوم، ويكاد يحملك إلى فراشك، فإذا نزلت في الصباح مبكرا لموعد وجدته في »اللوبي« يقرأ جريدته ويكمن للطرائد كي يسبق إلى قنصها.
لا يضجرك بالأحاديث المبتورة النهايات التي يتميز بها العجائز، ولا يثقل عليك بقصص من حياته إلا إذا أعوزته كشاهد على حدث، أو عند استذكار كبير من الغائبين، أو لتوكيد الحنين الكامن ملء الصدر والجوانح لفلسطين التي غاب عنها وغُيِّبت عنه ولن يرى منها مدينته الناصرة ولا ملعب صباه في جنين ولا الغاليات من مدنها وقراها التي يستذكر بيوتها وساحاتها والشجر وألوان الشبابيك.
ولأنه من مواليد دمشق، فهو لا يقل تعلقا بها عن الناصرة، ثم لأنه عاش نصف حياته في لبنان فهو عنده في منزلة فلسطين، ولأن القاهرة عاصمة العرب جميعا فهو منها، ولأنه يعرف الأرض العربية من أقصى المغرب؛ اغادير، إلى أقصى شبه الجزيرة العربية في اليمن السعيد، فهو يكاد يكون »عربي« كل الأمكنة وكل الأزمنة العربية: الانتصارات القليلة والانتكاسات الكثيرة، ووجدانه يتسع لديوان الشعر العربي كما للتاريخ المكتوب معززا بما عاشه وعايشه وتلمسه بيديه وعينيه وأذنيه والشفاه!
بعد محاضرته التي ارتجلها ثم كتبها في ما بعد، بغير أن يسهو أو ينسى أو يُلحن أو يخطئ في لفظ أو ينطق كلمة بغير تشكيل، كان له تعقيبه على كل محاضرة ومداخلة في كل من حلقات الندوة الثلاث… وكان يحتد وهو يواجه المخطئ أو المحرِّف أو الخارج عن أو على الموضوع.
على أن صورة »ذاكرة القرن« لا تكتمل إلا إذا نادمته وساهرته وسمرت معه، وحققت معه مقولة الأخطل الصغير في »أدب الشراب«.
ولقد وُفّقنا إلى سهرة انتشينا فيها بالطرب الأصيل، ودماثة المضيف ورقة الصحبة بحيث سنضيفها إلى »ذاكرتنا« التي يكللها تاج الشيب المهيب والمؤكد للفتوة.
أما المنظم فكان مدير دار الأوبرا (الصغيرة) في القاهرة محمد سالم، وأما المشرف العام والمرتب والطاعم والساقي وضابط الإيقاع والذي لم نكد نتعرف إلى ملامحه كاملة لرقته، فهو أحد مؤسسي »جمعية أهل الفن الأصيل«، وكان اسمها عند إطلاقها »جمعية صباح فخري«، ثم ارتؤي توسيعها لتشمل الخالدين من المطربين والمطربات والموسيقيين والعازفين، وظل صادق أمين »الدينامو« والحارس والحافظ لها.
لم أعرف كثيرين لهم من أسمائهم مثل نصيب صادق جورج أمين من اسمه.. ولا أقول زيادة حتى لا أستفز نقولا زيادة الذي كلما لفظنا الكلمة اعتبرها نداء أو لفت نظر أو ملاحظة فرد التحية بأحسن منها!
احتشد في السهرة التي انعقدت على عجل ستة مطربين، كلهم ممن يختزن في ذاكرته الألحان التي عاشت وتعيش وستعيش لأنها صادرة عن الوجدان وتعبّر عنه، لكن نقولا زيادة صار »شامياً« فأعلن عن انحيازه إلى عبد الكريم الشعار، فكان يلكزني كلما حلّق هذا المطرب جميل الصوت قليل الحظ في سماء النغم بصوته العفي، ليقول لي: »غلبنا المصاروة«!
ولعل أكثر ما أفرح عمنا نقولا، كما درجت تسميته بين الساهرين، أن عبد الكريم قد استجاب للمولود في دمشق فغنى له »يا مال الشام« ثم استجاب كرة أخرى فغنى له »يا طيره طيري يا حمامه… طيري على دمر والهامه«،
ولقد قفز ذو التاج الأبيض، ذات لحظة، ليصحح كلام المغني مستعيدا ما كان يسمعه في طفولته في المقطع الأخير… فبدلاً من »اسواره وخاتم الماس«، أصر نقولا زيادة على »سيكارة وبصة نار«!
على أننا جميعا افتقدنا في السهرة ذلك الرفيق الرقيق، الطيب جدا، المبدئي جدا، المتواضع بقدر عمق ثقافته: يعقوب شدراوي… بغير أن ننسى سائر شركائنا في الكلام بطلب من الدبلوماسية النشيطة رنا المقدم، التي نظمت وأشرفت وتابعت، واسترضت وعوّضت غياب العديد من »شركائها« المفترضين.
كان يعقوب شدراوي قد غادر القاهرة قبلنا، مع مسعود ضاهر ونديم نعيمة وإبراهيم العريس ومشاغبين آخرين رموا بعض الحصى في ماء النيل فأحدثت دوامات صغيرة على سطحه، بينما واصل طريقه »نجاشيا« يعزف على ارغوله حاملاً أسراب الحمامات البيضاء التي بفرد جناح.
ولنا عودة إلى حديث الندوة البتراء، والتي كان علينا أن نوقفها على رجل واحدة بعدما امتنع »المصاروة« عن التبرع لنا بالرجل الأخرى… مع اننا حاولنا الانضباط داخل توصيف مي زيادة: »أيها المصريون الكرام، نحن ضيوف عندكم، نزلاء في بلادكم. لكن كرمكم وإخلاصكم ذكّرانا بأن للمواطن أوطانا إذا تجاورت الأحبة، فعرفنا كنوز نفوسكم واقتبسنا بعض عاداتكم، وتعشّقنا موسيقى لهجتكم وأحببنا مصر لأننا أحببناكم«.
ديزي الأمير: الكبرياء عراقية
ليس سهلاً أن تكون صديقاً لديزي الأمير.
فهذه الكاتبة التي تختزن محيطات من الحزن العراقي المعتق، تتعامل مع الناس برقة ملاك وتهذيب ملكي، تختار أصدقاءها بدقة متناهية، ثم انها حتى مع من يحظى بموقع الصديق تحفظ المسافة ربما لأنها تحرص على عدم فقدان تلك القلة المختارة من رفاق القلم أو رفاق الأيام الصعبة أو الشركاء في ذكريات الزمن الجميل.
لقد سعدت بنوع من الزمالة معها، وأستدرك فأقول إنها لم تحترف الصحافة أبدا، وإن كانت قد كتبت فنشرت، وكنت لفترة وقبل إصدار »السفير« أتلقى منها قصصا قصيرة، أو هاتفا ينبّه إلى عمل أدبي جميل لغيرها، أو دعوة إلى لقاء مع نخبة من تلك القلة المصطفاة من الزملاء أو الأصدقاء أو الصديقات، والكل في همّ الكلمة سواء.
ولأن ديزي الأمير جبارة فهي قد استطاعت تحمّل صدمات عديدة، واجتهدت في أن تحول الألم الى مادة أدبية راقية، ونجحت إلى حد كبير في أن تعيد صياغة الحزن فناً جميلاً.
في ديزي الأمير الكثير من ملامح العراق..
وهي مثل العراق عظيمة الغنى، عتيقة الحزن، غزيرة العاطفة، لكن كبرياءها تظل مفتاح السر في شخصيتها.
ومَن يخاطب ديزي الأمير من خارج كبريائها فلن تسمعه، ولن يفهمها.
أينك يا عراق؟! أينك يا عراق؟!
لا تولد الحكاية إلا إذا اختفت الملامح والحدود
تقفز الكلمة من الصفحة الميتة إلى العين المشوقة إلى المعنى، فتحيا. تتنزل الكلمات من العين المجرحة بالرغبة الى الصفحات فإذا هي مروج وخمائل تحتضن همسات العشق وخفقات النبض التي تصطنع الشعر لتسكنه.
لم يكن ينقص الاحتفال بالعشق القديم الكامن إلا رفة رمش أو طرفة عين.
سقط الرمش على حافة الكأس فمشى إلى التهتهة.
أيتها المشتعلة حتى انطفاء آخر الشموس… لماذا لا تتركين لنا فسحة من الظل؟!
أيتها التي لا تعيش إلا في قلب الاحتراق كيف تدعين الخوف من جمرة يغطيها كوم رماد نسي آخر النافخين فيه؟!
هو موعد الوصول، إذاً؟! لكن الرحلة مفتوحة ولا محطات على الطريق البلا نهاية. الطريق خلف الهدف، أمامه، فوقه، فيه. وأنت معلق على حبل مشدود طرفه الأول يمتد في قلب التخيل المتخيل وطرفه الأخير في تيه السديم، خارج الزمان والمكان واللون. ليس لأحد اسم، ليس لشيء ملامح. لا تولد الحكاية إلا إذا اختفت الملامح والحدود.
تتوغل في الصفحات الأخيرة المكتظة بالأجساد المقطوعة الرؤوس والعواطف العاجزة عن اصطناع الزمان، وتهجر بياض صفحات التقديم الذي لا يفعل غير التشويش على الأصل وصورته البهية كوجه طفل.
تتنقل بين القارئ والكاتب حتى تتعب منك السطور فتخلي لك فسحة للقاء.
صوت البعد أجش، عريض، وحشي النبرة، طافح بالغريزة، والقرب تغريدة كناري مهدد بالاختناق. الطرف الأول خلف الظن، والطرف الثاني أمامه، والمسافة رفوف من النوارس، ومن فوق: البحر يطير بأجنحة من زبد.
نظرة، فإذا السطور عمارة بقباب ومندرة، وفوق السطح برج حمام، والفضاء هديل.
ينغلق الرمش على بطن العين فيصير كتابا ينطوي عليك فتصير النص. ولا بد من أن تخرج من النص لتكون. تعيش خارج النص أو يكتبك النص فتتلاشى عبر الفواصل والنقاط المحددة الخواتيم.
ليس الكلام بداية. ليس الكلام نهاية. ليس الكلام بيتاً ومدفأة وكأس نبيذ. وليس ملجأنا الكلام. الكلام سجن قضبانه عيون باردة مفتوحة على عبث الغياب.
الصمت غواية، والهمس ذوب الروح، والاتصال نذير يتهدد الرموش والنوارس والكناري بأن تغرق في ضباب الكلام. دع الكلام لأهل الكلام، واتركِ النص يكمل نفسه بنفسه خارج الكلام.
كلام عابر الفضاء
كانوا في الطائرة، والفضاء يتسع لاعترافات الخاطئين ولا حساب.
في الهجمة الأولى ارتبك قليلا فتأتأ كلاما بلا معنى… وفي الثانية استمع بغير ان يحير جوابا، أما في الثالثة فلم يكن مطلوبا أو متوقعا منه أن يسأل لأن الأجوبة جاءته منها كمطر أسود!
لا أحب بلادي إلا وأنا بعيدة. لا أحب عملي إلا لفترة محدودة. لا أحب الارتباط برجل واحد لأن الرجال أكثر من أن يمكن تلخيصهم في زوج أو عشيق! ولا أحب سن السابعة والعشرين… أحب ان أقرر عمري بما أعيشه حقا من أيامي.
أين المفر؟ أين الأجوبة اللازمة؟ أين المساحة؟ الضوء شاحب، لكن التماعة العينين فضاحة، وهذه الجالسة القرفصاء أمامه والمنطوية على نفسها كعلامة استفهام لا تترك مجالاً للهرب، والنافذة أصلب من أن تكسرها الحيرة وأضيق من أن يهرب عبرها النظر والغرائز.
طلبها راكب آخر، فتنفس الصعداء، كمن أُطلق سراحه من زنزانة انفرادية مع سجّانة متوسطة الجمال لكن لسانها أطول من قامتها.
قال في نفسه: كلام عابر لعابر فضاء في رحلة لن تتكرر، ولكن… لماذا هو؟!
حين عادت إليه وجدته يحاول النوم فغطته بابتسامة قصيرة وهي تغمغم: أرأيتَ أن رجلاً واحداً لا يكفي!
من أقوال »نسمة«
قال لي »نسمة« الذي لم تُعرف له مهنة إلا الحب:
تخاف من الحب ما وقفت متردداً أمام بابه، أما إذا ولجت دنياه فإن الخوف يبقى في الخارج. ولا تستطيع أن تكون محباً في الداخل وكارهاً في الخارج، لذلك عليك أن تحفظ بعض حبك للذين حُرموا من نعيمه. الحب غير قابل للقسمة، ثم انه كمثل روح الله يتسع للجميع، فامنح منه ولا تخف، فلن تنقص »حصة« حبيبك منك، بل هي ستتعاظم كلما أعطيت منها.