خلص الشعر .. فلتتوقف الانتفاضة!
اكتمل ديوان الشعر العربي الجديد، وموضوعه المفرد »انتفاضة الأقصى«.. وصار »النظم« تكراراً ممجوجاً يسيء الى الموكب المهيب لجنازات الفتية الذين ارتحلوا من قبل ان يعرفوا ما يتجاوز البديهيات فيأخذ الى المماحكة حول جنس الأرض والشمس والقمر ولون الدم!
لم نكن بحاجة الى دليل، لكن التكرار يعلم: ان القاعدة أرقى من حكامها. ان الشعب انبل من سلاطينه. ان الناس للأرض كما الأرض للناس، والأرض أغلى من سلام لا يوفر السلالة لا للأرض ولا لناسها.
الفتية يعرفون كيف يموتون،
والسلاطين لا يعرفون كيف تكون الحياة،
الفتية يصنعون السياسة بدمائهم،
والحكام لا يفهمون ولا يعرفون القراءة، ولذلك تصعب عليهم قراءة الدم فكيف بكتابة السياسة؟!
الفتى الغر، الذي بالكاد عرف المدرسة، يعرف عدوه جيدا: سواء ذلك الجندي الذي يحتل الأرض، او تلك البضائع المستوردة والتي تعود اليه ارباحها، او ذلك السلطان الذي يعمل في خدمة الأجنبي الذي كلما شهر عداءه صار أقرب!
لكن الفتى الغر يريد ان يعرف لمن يعطي حياته؟
الحياة أغلى من ان تهدر عبثاً… وليس الفتية اغبياء او مجانين يخرجون شاهرين دماءهم ليرموا بها في الخواء. انهم يصرخون بنا: هذا شبابنا فاتخذوا منه روحاً وسيفاً وارادة.
تغطي الدماء الشوارع. نضيف الشوارع الى مقدساتنا. تصبح أطهر من بلاط المساجد المهجورة والكنائس التي لا راعي لها.
تفتح المدافع ثغرات في اجساد البيوت. تتهادى الجدران، وقد يتصدع السقف. تسقط صور اللحظات الحميمة وتتبعثر أيام الزمن الجميل في الركام… ثم يخلو الأفق للفراغ.
يوماً بعد يوم تتسع الفجوة بين الدم والقرار.
يخاف السلطان سطوة الدم أكثر مما يخاف بطش الاحتلال.
يبذل الشعب دمه، فيرتعد السلطان، ويندفع ليطلب الطمأنينة من الاحتلال. تغير الدبابات والطائرات على اكواخ الفقراء واشجار الزيتون وبيارات البرتقال لتقتل المزيد من هؤلاء الهائجين والمهووسين ومظلاتهم الواقية، انتقاما لخوف السلطان ممن هزوا أركان اليقين عند من كان في غيبتهم مصدر اليقين.
لم تتبدل اللغة السياسية. لم يتبدل المسلك. لم تنقص السهرات الماضية سهرة واحدة. لم تلغ مناسبات الافراح، ببطاقاتها المذهبة ومدعويها الكثر وصالاتها الفخمة والمغنين والراقصات الكثر… والتي تثير ارتفاع نفقاتها حماسة التزاحم والمنافسة بين المستفيدين من انتهاء زمن النضال وأيامه السوداء.
أخذت الحماسة بعض أولئك الذين يستمدون ثقافتهم من التلفزيونات ويمارسون وطنيتهم فوق شاشاتها، فتباروا في اعلان التبرعات لفتية انتفاضة القدس بشرط ان يثبت استشهادهم بشهادات من الاطباء الشرعيين.
لكن العدد ما فتئ يتزايد، مما يهدد الثروات بالتآكل: لم نحسب الحساب لمثل هذه النفقة الطارئة.
والحماسة تتناقص بقدر ما يتزايد عدد الشهداء والجرحى الذين ينتظرون: من مات أولاً حصد المكافأة، أما من تأخر فذنبه على جنبه!
… ثم انهم في واشنطن مشغولون بالهم العظيم: معرفة من سيكون رئيسهم الجديد. لقد استعانوا بكل أنواع الاحصاءات اليدوية والآلية، البصرية والسمعية واستخدموا كل الأجهزة، وذهبوا الى كل المحاكم، محلية وفدرالية وبين بين، وسألوا العديد من العرافين وأهل التنجيم والتبصير والسحر… فهل نريدهم ان يتركوا مثل هذا الشأن المصيري ليهتموا بهؤلاء الأولاد الذين لا يهتمون بحياتهم فيضيعونها عبثاً؟!
أما في اسرائيل فكيف تريدونها ان تهتم »بالاغيار« بينما قادتها مهتمون بمستقبلها وموقعها في الديموقراطية، وهل ينتخب رئيس الوزراء مباشرة أم في الكنيست؟! هذا بالإضافة الى الصراع بين يسار المتدينين ويمين العلمانيين، ناهيك بالعراك الدائر بين القوميات اليهودية المتوزعة حسب بلاد المنشأ؟!
لا أحد عنده فائض من الوقت للاهتمام بهؤلاء الذاهبين الى الشهادة بغير وعي.. فضلاً عن انهم يفرطون بالنفس التي طالبنا الله سبحانه وتعالى بحفظها ورعايتها!
خلاص! فليهدأ هؤلاء المجانين!
لقد نظم الشعراء قصائدهم، ولحن عباقرة الموسيقى الأغاني الجنائزية؟؟؟ لعباقرة الغناء، زغردت النساء وهتف الشباب وهم يشيعون الشهداء حتى حفيت اقدامهم من مواكبة الجنازات… فلتتوقف المراثي وليعد الناس الى ما يهم الناس في يومهم وغدهم، خارج الدمع والدماء!
توت بري لحرير أصلي
صغاراً كنا، ودنيانا صغيرة مداها بحدود البصر، شرقاً وغرباً، ارتفاعاً مع التلال حتى تقاطع الجبال مع الشمس، ونزولاً مع الوهاد حتى الوادي العميق حيث يولد الماء، وكنا نرى أنفسنا معنيين بها، نندفع لاستكشافها والتعرف الى تفاصيلها وعلاماتها الفارقة والتخوم ممثلة »بحجارة المساحة« الدالة على الحدود بين المالكين بالوراثة والذين كلما تناسلوا تناقصت احجام ملكياتهم الصغيرة.
كانت »الجلول« و»الخلات« و»الحواكير« كلها، تقريباً، تزدحم بأشجار التوت التي متى أورقت غمرت مساحة النظر بالأخضر.
أما عيد الأعياد او متعتنا العظمى فكان »موسم الحرير«: نواكب وصول علب البزر، ورفع السقالات، ونساعد في حمل أكداس القصب والوزال، بعيدانه الرفيعة، والاطباق الواسعة بأكثر مما تطال اذرعتنا القصيرة، والتي ما كنا لنكتشف كم تجرحت إلا ونحن في طريق العودة الى أسئلة الحساب والمطالبة بتفسيرات للخدوش التي تتجاوز »الواجهة« الى العنق والظهر، نتيجة لتنافس في تعظيم »الحمل« للتباهي بقدرة »مشاريع الزنود« على رفع الاثقال كرمى لعيون الفتيات اللواتي يتجمعن بذريعة المساعدة فيختلفن ويتدافعن ويتضاحكن ويتغامزن حين ينكشف »سر« الواحدة للأخرى، بل للاخريات.
كنا في الطريق الى المدرسة نمر على »الحوش«، حيث القبو الفسيح الذي استحال »دار توليد«… ثم بعد المدرسة نعود اليه لنشارك في رعاية هذه الديدان الصغيرة وهي تفقس ثم تباشر تسلقها العيدان الرفيعة والتهام اوراق التوت النضرة، والتي كثيرا ما تذوقناها ولم نتذمر من مذاقها حتى لا نحرج »صديقاتنا الصغيرات«.
أما الفرصة الكبرى فكانت تجيء مع انتشار الشرانق فوق عيدان الوزال: صفراء وبيضاء وبين بين… وتعلمنا ان نعرف »المضروبة« من لونها، وان نحسب المواعيد لتحول الدودة الى فراشة، وضرورة ان »تغطس« قبل ان تصبح قادرة على خرق الشرانق والخروج الى الهواء والنور وهدر التعب المضني والجهد الشاق الذي بذلته الأسرة والجيران جميعا.
القز هو العز. لم يكن الكلام مجرد سجع له رنة موسيقية. كان القائل يعنيه فعلاً. فعزه على الأقل، أي انتصاره على حاجته، وتأمين نفقات عيشه الكريم تجيء جميعاً من حصيلة السهر على الديدان التي يطعمها فتنسج له الشرانق التي ستحل فتغدو حريراً له سعر الذهب.
لا مجال لمزيد من ذكرايت الصبا الأول فقد قدمت إيمان حميدان يونس لوحة ممتعة لحياة دود القز و»مجتمعها« الجبلي، يوم كان »الحرير« هو الموسم الرئيسي لمعظم الناس في جبل لبنان.
وكما تنسج دودة القز حريرها بأناة وصبر واتقان رائع، نسجت هذه الروائية ذات القلم الخصب حكاية مجتمع الحرير في الممتعة الجديدة »توت بري«.
ضاعت الحدود بين الشرانق الحابسة للفراشات والعادات والطقوس المشرنقة لابطال هذه الرواية الذين يهرب بعضهم من »المخنق« بينما يندفع بعض آخر نحوه، والذين يفسد بعضهم شرنقته وهو يحاول الهرب والنجاة بنفسه، بينما يفضل آخرون ان يحفظوا للشرانق بهاءها وسلامتها حتى لو دفعوا الثمن من متع الحياة، وربما من الحياة نفسها.
مقلّة في انتاجها الروائي إيمان، لكن انتاج الحرير متعب دائماً ومكلف أحياناً، وما أسهل ان تهرب منه الى »الصناعي« الرخيص!
عن المطر الغساني المغسول بالحزن!
يمضي غسان مطر، لا يحمل غير دمه وندا ءالموت، الى آخر الحزن وقلبه الرصين »الرصيف الذي كان يمشي وحيدا ويطبق اجفانه، والذي لم يجد وتراً غير قلبي ليعلن احزانه«.
»القلب على سفر«، ولا وقت للحزن الذي صبغ العمر بالأزرق، وبات الحضور اغتراباً والريح تبحث عن ذاتها في مصب الروح والموت خلف الصوت، والوجع المصفى يتقطر من ملامح »الأميرة الصغيرة« التي »تحت وسادتها قمر لا ينام ليحرس أحلام غيبتها«.
كيف تقهر الغياب الا بذوب الذكرى المعطرة بالفجيعة، و»جثث الأطفال حولي مئذنة«؟!
»الحضور اغتراب«، وقد »مر خمسون عمراً على موتنا« ولسوف »تكون شهادة ميلادنا عند بدء الرحيل«… فالطفلة التي »تفرش الياسمين على ارجوان السماء تنام وتنام طويلاً على نجمة عارية«.
»كل موت له زمن مقفل«… وغسان لا يرى في الطريق الى »لاراه« سوى جثته، وهو لم يجد قمرا يسرح شعره الضوئي ولم يجد القصيدة، ربما لأن »الطفلة فوق صهوة غاباتها تمسك الموت من روحه ثم تخضر فوق هذا العراء، ويقشعر الصدى؟؟؟ حين تقفز من دمها وتحط على شرفة الانبياء«.
»مر الوقت الباقي«، وكتبوا فوق الأعناق أغانيهم«.
وغسان مطر مازال ينظم بكائية »لارا« التي تمتد لتغطي الوطن ويبحث عن لحظة الامتلاء بالضوء كي يقتل هذا الليل الرابض في دربه.
ليس الشعر في الجيب الذي ارتحل الى الجانب الآخر من العقل والعين رثاء. انه محاولة لقهر الغياب بذوب الذكرى المعطرة بالفجيعة.
يسأل غسان مطر بغير انتظار الجواب، ولا يستسلم، لكنه كذلك لا يعرف أين وكيف ومن يقاتل، فيغني، والغناء، مدخل الى المقاومة التي تأخذ الى التحدي. و»لارا« هي السيف والراية.
تتقارب الحروف، تتباعد الحروف، تتناثر الصور، تتداخل الصور، ترتفع الكلمات مآذن، يتكاثف الحزن أفقاً مفتوحاً و»لارا« هي النضارة ومصدر البهاء، ترفض ان تغمض عينيها الجميلتين عن دورة الحياة التي اختطفت منها بغير وداع.
تقرع الاجراس لتظلل تراتيل انشودة الودائع. لكن الميت لا يعود والحي لا يموت، والحياة تواصل هجومها الكاسح على الشاعر فتأخذه من مأساته الى »القضية«… وتتماهى »لارا« في صورة سناء محيدلي وسائر الشهداء، فيصير الحزن حداء للثوار.
»ليت صفصافة القلب مورقة. هكذا تمتمت حين سارت الى فيء صحرائها وارتمت عند برج المغيب«.
»لارا« ليست القصيدة، ولا هي الديوان، هي الشعر عينه. ليست اللحن ولا المغني هي الغناء متوهجاً في انكساره كوتر جريح. ليست الملهمة بل هي الالهام. ليست المأساة بل الحزن الانساني النبيل المتسامي والذي لكل منا فيه نصيب.
»مئذنة لأجراس الموت«: ترنيمة أخرى في قصيدة »لارا« التي نريدها مئذنة لاجراس الحياة، إذ هي كما الشهداء تكمن في جذر أعمارنا وتعطي عملنا بما في ذلك الشعر شيئاً من المعنى.
هلا غنيتنا »لارا« ايها المطر الغساني المغسول بأحزان الأمة؟
من أقوال »نسمة«
قال لي »نسمة« الذي لم تعرف له مهنة الا الحب:
الحب هو الحب، لكنه لا يكرر نفسه أبداً. لكل محب حبيب، ولكل حب لغته. جلست أمس اتنعم واطرب لحالة تواصل ممتع بين عامل قاسي الملامح والتعابير، وبين فتاة رقيقة الصوت قاسية النبرة. كان المعنى يمرق عبر الكلمات المتقطعة. وكان الجو ملتهباً حتى لقد أخذ قبساً منه الى حبيبي.