I ـ تقرير إلى محمود درويش: ذهبوا… وجاء زمن الثورة!
لم يغب عني طيف محمود درويش يوماً، لكنه يواكبني فيلازمني على مدار الساعة في زمن الانتفاضات التي تتفجر بها الأرض العربية هذه الأيام: لقد انتظرها طويلاً، وطاف بعواصم القرار فجلس إلى «القادة» يكرزون عليه أسباب عجزهم، ثم استمع إلى القلة من انداده المبشرين بالثورة يتلون عليه قصائد الحنين إلى الماضي واليأس من الحاضر وغموض الحلم حول المستقبل.
.. ولقد قاوم محمود درويش مرضه بشراسة قل نظيرها، ثم ارتحل حين انطفأت شعلة الأمل التي خرج من دار شقائه يبحث عنها في دار الرجاء، فأضناه البحث حتى قتلته الخيبة.
تعودتُ ان يمر بي عشية كل زيارة ينوي القيام بها تلبية لدعوة من «القيادة» في هذا البلد العربي أو ذاك، وإن اتخذت أحياناً طابعاً ثقافياً كإقامة أمسية شعرية، أو احتفال تكريمي، أو أُضفي عليها الطابع الشخصي، كلفتة ملكية أو رئاسية أو أميرية في بعض الحالات.
استذكر، على وجه التحديد، جلسة طويلة تبادلنا فيها الانطباعات عن العديد من القادة العرب الذين التقاهم شاعرنا العظيم ممن كنت قد جلست إليهم محاوراً من موقعي المهني.
بدأت الجلسة رصينة، نسبياً، ثم انطلق محمود يرسم لوحات كاريكاتورية لبعض أولئك «القادة» المهابين، مستفيداً من بعض ما سمعه منهم أو ما سألوه عنه، مضيفاً إليه ما لحظه من أثاث المكتب أو اللوحات المعلقة على الجدران، من دون ان ينسى نفاق الوزير الذي صحبه في زيارة التكريم الرئاسية، وهي فرصة ذهبية للوزير تنعّم فيها بملامسة اليد المقدسة «للقائد» الذي لا تسمح له عظمته بأن يلتقي وزيره إلا في المناسبات التاريخية.
بعد ساعة من تبادل الانطباعات كنا قد نجحنا في إقامة سيرك كامل من شخوص حكامنا المبجلين، وأكد محمود خلالها ان رسام الكاريكاتور في داخله لا يقل نبوغاً عن الشاعر، وان كانت رسومه تستدرّ ضحكاً كالبكاء.
لكن الجلسة كانت تنقلب غماً ثقيلاً عندما يقلب محمود الصفحة ليستذكر بعض من يعرف من قادة العدو الإسرائيلي، ممن فرضوا عليه مناقشات هي أقرب إلى التحدي استعرضوا خلالها ثقافتهم العامة ومعرفتهم الدقيقة بأحوال العرب، ثم يجري المقارنة مع الأمية أو النقص الفاضح في معلومات من التقاهم من القيادات العربية عن إسرائيل وما تقدمه للعالم على أنه «قضيتها».
÷ قال محمود درويش: كيف سننتصر وبين قادة العدو علماء معترف لهم بكفاءاتهم العليا دولياً، بينما يحكمنا أميون وجهلة بشؤون بلادهم قبل ان نتحدث عن معرفتهم بأحوال العالم وسياسات دوله. إن قلة قليلة تعرف الحد المقبول عن عدونا، بينما معظمهم يتحدثون كشيوخ قبائل في مواجهة قبيلة عاصية. ان بعضهم لا يعرفون اسم وزير الدفاع الإسرائيلي أو رئيس الأركان… مع ان معظمهم يفضل صورته في البزة العسكرية وقد انتثرت فوقها الأوسمة كالفراشات.
÷ قال محمود درويش: كدت اندم على خروجي. لم يهتم إلا واحد أو ربما اثنان من بين عشرات المسؤولين الذين التقيتهم في توجيه أسئلة جدية عن إسرائيل. وبعضهم استدعى إلى الاجتماع بعض أركان الجيش والمخابرات للاستماع والتدقيق في ما يملكون من معلومات، مع رجاء ان يتسع وقتي لجلسات أطول وأكثر تفصيلاً، مع الاعتذار مني للتعامل معي كمصدر معلومات يساعدهم في تدقيق ما يملكون أو ما جمعوا ـ بوسائلهم ـ من تحليلات وتفاصيل عن سِيَر أصحاب القرار أو القادة الميدانيين عند العدو.
÷ كان بعض من التقيناهم من القادة العرب طريفاً بأكثر مما يحتمل منصبه، والبعض الآخر جاهلاً بأكثر مما يجوز، وبعض ثالث لا يريد أكثر من الصورة مع الشاعر لكي يظهر متذوقاً للثقافة.
طبعاً، كان هناك من يعرف كيف يقدم للناس، سواء عبر الصحافي أو حتى عبر الشاعر، صورة عن نفسه تظهره واثقاً من نفسه، مطلعاً جداً، ذواقة للشعر بمعزل عن سمعته الدموية…
كان بينهم من يرى في كل تحرك شعبي أو اعتراض أو تحفظ ولو على شكل مقال في مطبوعة، مؤامرة دولية… وكان ثمة آخرون مطمئنين إلى ثبات الدعم الدولي لهم: «يا عم، هذه بريطانيا.. من له القدرة على مواجهتها»، أما أميركا فهي السوبرمان الذي يفوق بإمكاناته الهائلة وتقدمه العلمي قدرات أهل الأرض مجتمعين فلماذا لا نرتاح في حضن رعايته ويسهر الخلق منتظرين عجائب لن تحدث.
÷ كان في تونس، بعد، الحبيب بورقيبة، وأمره مختلف قطعاً عن كل من عداه سواء في تقديره لنفسه باعتباره المجاهد الأكبر، أو في نظرته إلى الآخرين من أقرانه الملوك والرؤساء الذين يطلق عليهم ألقاب الحيوانات.
وجاء خليفته زين العابدين بن علي ليزيد عليه إعجاباً بنفسه، وهكذا دخل في منافسة مع شيوخ النفط من حيث السخاء في الدفع لكل من يمتدحه ويقرظ السيدة عقيلته السلطانة ليلى التي بدأت حلاقة نسائية وانتهت إمبراطورة مخلوعة.
÷ وكان في اليمن ـ وما زال ـ علي عبدالله صالح، القبلي من حاشد، الرقيب في الجيش الذي واتته الفرصة فقفز إلى الحكم واستمر فيه حتى اليوم، جامعاً في شخصه كل الألقاب. وحين سألته، مرة: هل أنت الخليفة، أمير المؤمنين، أم رئيس الجمهورية أم شيخ القبيلة، أم الإمام، أم قائد الثورة أم قاضي القضاة؟! لم يتردد في أن يجيب: أنا كل هؤلاء معاً.
÷ في ختام لقاء مع الرئيس المصري المخلوع حسني مبارك، لم يقل لنا فيه ما يفيد، التفت يسألني وزميلي ساطع نور الدين: هل زرتما توشكا؟! وأجبنا بالنفي فتوجه إلى صفوت الشريف يأمره: إبقى هاتهم معنا لزيارة لتوشكا.
ثم عاد يسألني: وهل زرتما شرم الشيخ؟!
وقبل ان نجيب اصدر أمره لصفوت الشريف بأن يصحبنا في أول رحلة إلى شرم الشيخ، التي وحدها تحمل لافتة عظمى تجمع «أبطال السلام» وفيهم رئيس حكومة العدو الإسرائيلي الأسبق اسحق رابين، بما يؤكد صحة توصيفها بـ«الشرفة الإسرائيلية».
واستغربنا أن يحصر رئيس مصر المحروسة فخره بإنجازاته في مشروع استثمار خرافي لأمير نصب نفسه رجل أعمال، وهبه آلاف الهكتارات مجاناً ليخضر الصحراء فإذا هي أوهام أو بعض السراب.
÷ في الخليج: ذهب الشيوخ الذين كانوا يتصرفون بالفطرة، والذين كانوا يحاولون التعويض عن الحرمان الطويل بكرم لا يقصدون منه إلا إثبات الحضور، وجاء الأولاد الذين تربوا في معاهد بريطانية وأكمل الأميركيون إعدادهم ليكونوا أهل سلطة لا أهل نخوة، وأهل مال للاستثمار في السياسة كما في الأعمال وليسوا جمعيات خيرية مهمتها ان تنجد الإخوة الفقراء في دولهم شحيحة الموارد، وهكذا باتوا يقررون ـ في السياسة ـ من يستحق المساعدة من الحكام حتى يبقى قاعدة أمامية تحميهم بالأجر، ومن يجب ان يذهب لأنه يعتمد الاستفتاء وليس الانتخاب الشعبي المباشر؟! كأنهم أساتذة في علم الديموقراطية وقد استقر بهم المقام في مواقعهم نتيجة فوزهم في منافسة صعبة مع إخوتهم الطماعين.
÷ للتدليل على طبيعة هؤلاء الذين باتوا يقررون مصائر الدول (وشعوبهم) الآن اكتفي بواقعة واحدة لم يمكنني الموت من أن أرويها لمحمود درويش، ولكنه بالقطع ما كان ليستغرب وقائعها لو انه سمعها مني:
في ختام القمة العربية بدمشق قبل أربع سنوات، تقدم أهل الصحافة وأنا بينهم من منصة الرئاسة لنستمع إلى الرئيس السوري بشار الأسد يعلن مقرراتها، وصدف ان واجهت أمير دولة قطر الذي أعرفه جيداً ويعرفني جيداً فمددت يدي مصافحاً، وإذ به يمسك يدي وينادي على الصحافيين أن «قربوا، قربوا» قبل ان يسألني: كيف تسلم عليّ وأنا عندي أكبر قاعدة أميركية في الجزيرة العربية ومكتب تمثيل لإسرائيل؟ بوغتّ بالسؤال، ولم أجد ما أردّ به غير القول: أسلم عليك لأنك في دمشق.
وفوجئت به يكرر السؤال بحرفيته فكررت جوابي وأنا شبه مذهول: إنه يرى نفسه مؤهلاً للهجوم بحيثيات كنا، وما زال معظمنا يعتبرها في مستوى الخيانة.
[ [ [
نعود إلى محمود درويش وحكاياته العربية، مستبعدين الوقائع الفلسطينية حتى لا نسيء إلى ذكراه، كما إلى القضية:
÷ ضحك محمود وهو يروي كيف لف واحد من الحكام العرب ودار من حوله لكي يستوضحه إذا ما كانت «ريتا»، عنوان قصيدته المعروفة امرأة حقيقية، وما إذا كان أحبها فعلاً، أم انها «عروسة الشعر» فحسب،.. ولقد تخابث محمود فوجّه الحديث نحو اليهوديات اللواتي قدمن إلى إسرائيل بهوياتهن المتعددة وألوان الجمال المتمايزة بينهن تبعاً لأصولهن، فكانت النتيجة ان دعا المضيف ضيفه الممتاز إلى عشاء حميم دعا إليه امرأتين جميلتين، افترض شاعرنا أو ان المضيف أراده ان يفترض انهما يهوديتان من شرقي أوروبا!
÷ روى ورويت عن «أمير» كان يستمتع بأن ينسب عبقرية الشعراء، ومحمود أولهم إلى الجان، مهنئاً مضيفه ان جنيته هي الأجمل والأذكى والأكرم في إدرار الوحي عليه.
÷ وروى ورويت كيف ان «حاكماً» عربياً كان يزعم في نفسه القدرة على مخاطبة الأرواح… وان «حاكماً» آخر كان يقارن نفسه بالخلفاء الراشدين، وان «ملكاً» تباهى بأن جده الأعلى واحد من هؤلاء.
÷ بالمقابل فإن معمر القذافي قد حاول ان يثبت لمحمود درويش انه هو هو المكلف بإكمال الرسالة المحمدية، ولذلك فهو قد غير التاريخ الهجري لتكون بداية التاريخ الإسلامي مع وفاة الرسول حيث انقطع الوحي إلى ان جاء «الأخ العقيد» فأكمله بالكتاب الأخضر ثم وضع الشروحات اللازمة للتطبيق في النظرية العالمية الثالثة.
[ [ [
… ها هي الميادين في العواصم العربية تكتب التاريخ الحقيقي بانجازاته الباهرة لبعض أولئك الحكام العرب الذين التقاهم محمود درويش فعرفهم من قرب أو قرأ وسمع منهم ما يكفي لكي يتوحش الكولسترول فيلتهم أحشاءه وأمله ويدفعه إلى الذهاب للموت وحيداً في بلاد الغربة!
[ [ [
ها نحن نهرب من واقعنا المزري إلى الآمال التي نعلقها على الانتفاضات وثورات التغيير التي تجتاح الوطن العربي من أقصى مغربه إلى أدنى مشرقه: نستورد التفاؤل!
نقول: ها قد عادت مصر إلى موقعها كقيادة لا تعوّض غيابها أيُّ دولة عربية أخرى. عادت مصر الثقافة والأدب والفن، مصر الدولة والقانون والمجتمع الموحد.
نهرب من الأسئلة المقلقة التي تهز هذا اليقين وتنقضه، والتي نقرأها في الصحافة المصرية «الجديدة» أو المجددة أو نسمعها في المجادلات والمحاورات التي تبثها الشاشات المصرية مباشرة، والتي تتحول ـ أحياناً ـ إلى اشتباك فكري ـ سياسي يهز اليقين بأن الإشكالات قد حسمت، وان الخلافات حول النظام الجديد قد حسمت، وان إعدام النظام القديم قد تم فعلاً. ونفترض ان هذا الجدل مقدمة طبيعية لاستقرار اليقين حول ثوابت الحياة.
«نفاجأ» بأن الأشقاء المصريين يتحدثون بلغة غير التي نتوقعها وعن هموم مختلفة عن تلك التي تشغلنا، وانهم غارقون في محلياتهم وتفاصيلها وقد أرجأوا التفكير في المسائل التي تتجاوز حدود المحروسة، كفلسطين والاحتلال الإسرائيلي والهيمنة الأميركية. انهم معنيون بقضايا الداخل أولاً وأخيراً: المسألة القبطية، الوحدة الوطنية، التخلص من قواعد النظام القديم والمنتفعين منه الذين بدلوا وجوههم وادعوا «أبوة» الثورة أو السبق في الانتساب إليها.
لكننا نثق تماماً بأن العروبة تسكن ضمير المصريين وإن نقصتهم فصاحة التعبير عنها.
أما تونس التي كانت بعيدة عنا يفصلنا عنها حكم الطغيان الذي فرض عليها العزلة. لم نعرف «التوانسة» حقاً ولم يعرفونا. لقد أبعدوا عنا لدهر، ولم نسع إلى التعرف إليهم بأفكارهم وهمومهم، بمطامحهم وتطلعاتهم. كنا ننظر إليهم من خلال حكامهم، وهكذا تحقق لهؤلاء هدفهم في فصل تونس عن أهلها. استقرت تونس كمنتجع سياحي، خارج السياسة، لا سيما وان السياسي الأوحد فيها لم يكن له «وجود»، أو لعله لم يكن يريد ان يكون له وجود في المشرق.
وهذا ينطبق على الجزائر وعلى اليمن وعلى السودان، وحتى على العراق وعلى سوريا، فضلاً عن البحرين التي وئدت انتفاضتها حتى لا تكون الشرارة التي تلهب أرض النفط..
لكن حقائق الحياة ستفرض نفسها على الجميع.. بعد ان تهدأ عواصف الغضب.
ان الانتفاضات في الأقطار العربية ستتوالى، وسوف يستمر مخاضها طويلاً، وقد لا نعرف تماماً كيف ستكون نتائجها على الأرض.. ومتى ينبلج نور الفجر الجديد.
لكن المؤكد ان واقعنا العربي سيتغير جذرياً.. واننا سنعيش فترة صعبة قبل الوصول إلى صيغة المستقبل المنشود الذي يتبدى لنا الآن في مستوى الأحلام.
المهم ألا نتعجل النتائج، وألا تأخذنا الصعوبة إلى اليأس.. فالغد يستأهل أكثر مما أعطيناه حتى هذه اللحظة. يكفي هذه الأمة شرفاً انها قد نزلت بجماهيرها إلى الميدان من أجل ان تغير واقعها المهين، بحيث لا يكون الخيار لدى محمود درويش بين الموت في أسر العدو أو الهرب من النظام العربي إلى وحش المرض الذي وجده أرحم من واقعنا الذي تصدى فتيتنا لتغييره بزخم إرادتهم… مطعَّمة بالدم!
II ـ من أقوال نسمة
قال لي «نسمة» الذي لم تعرف له مهنة إلا الحب:
ـ يرفعك حبك إلى أسمى مكانة، تشعر انك متميز، وتكاد تتباهى بحبيبك الذي تراه أرقى من الآخرين.
من يحب يمنحه حبه فائضاً من العواطف النبيلة ينثره على الناس فيغبطونه على نعمة الحب ويسعون إلى الارتقاء إليه بمزيد من الحب.
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان