ـ امتحان أمام عيون القلق: الثورات العربية والحريات
بينما الطلاب يتعجلون نهاية فترة الامتحانات ويحضرون مشروعاتهم لإجازات صيفية ممتعة، وجب عليّ أن أخضع لثلاثة امتحانات متعاقبة أمام لجان فاحصة شكلها طلاب من ثلاث جامعة ناهضة في الشمال (البلمند) وبيروت (الجامعة اللبنانية ـ الأميركية) وجبل لبنان (الأنطونية ـ على التخم بين بعبدا ـ الحدث والضاحية الجنوبية).
أخذتني عيون الصبايا والفتية الفياضة بالحماسة وعشق الحياة في رحلة ممتعة إلى الأمل المنشود، من دون أن يغادرني التهيب والشعور بأنني مضطر الى إثبات الجدارة بالألقاب التي يتكرم عليّ بها من يقدمني إلى هؤلاء الذين تيسر لهم من أسباب التواصل والمعرفة ما كان بالنسبة إلى جيلي في مستوى الحلم… فكيف لي ان أكون: «الأستاذ المطلع على الخفايا، العارف بأسرار الملوك والرؤساء الذين قد يقتلون من يقترب من دائرة القرار حتى لا يتسلل النور إلى ما يدبرون، المحلل السياسي، مالك مفاتيح المعرفة»… وهم، الطلاب، يستطيعون بلمسات خاطفة على أجهزة بحجم الكف أو أصغر أن يعرفوا ما كان يستحيل الوصول إليه حتى على الجن الأزرق!
أما أسئلتهم فكان بعضها ينضح بقدر من الثقافة العامة بينما يكشف بعضها الآخر نقص الاهتمام بالسياسة والشأن العام والاكتفاء بلمحات خاطفة من الصور المشوشة التي تقدمها بعض الفضائيات عن احداث جارية في بعض الأقطار العربية، والتي تختلط فيها إرادة الثورة بمخاطر الحرب الأهلية.
وفي محطات الأسئلة والأجوبة تسنى لي ان أسافر في العيون فأقرأ في بعضها الفضول، وفي بعضها الآخر الضجر، وفي بعض ثالث ما افترض انه إعجاب، ثم يصدمني السؤال الذي يُخضعني لامتحان الجدارة فيكون عليّ أن أثبت للتحدي متناسياً الشعر الذي اتخذ من العيون التي في طرفها حور، مصدراً لحياة ما بعد القتل.. حبا!
بعد هذا التقديم، أستأذن في نشر نص حديثي في اللقاء مع طلاب في كلية الاعلان ووسائل الاعلام في الجامعة الأنطونية، وقد حضره الأمين العام للجامعة الأب فادي فاضل وقدمني نائب الرئيس والمدير المالي والإداري الأب نجيب بعقليني بينما أدارت اللقاء عميدة الكلية الدكتورة ميرنا أبو زيد.
[[[
كان العنوان الذي اختير للحديث: «الثورات العربية والحريات»، وهو عنوان يصلح لمجلد يمكن ان يعكف على إعداده المهتمون بالتاريخ العربي الجديد الذي يصنعه فتية كان ينظر إليهم على أنهم لا يهتمون بأن يعرفوا فإن عرفوا فضلوا ان يتجاهلوا وانصرفوا إلى ما يرغبون فيه من حوريات ومتع.
وأعترف، بداية، بأن تحديد موضوع هذه الندوة أسعدني، إذ إن الحديث عن الثورات العربية والحريات، يعفيني من الغرق في المستنقع السياسي اللبناني بكل ما يحفل به من مباذل تكشف انحطاط الطبقة السياسية، إجمالاً، وعداءها لطموحات شعبها، وتحديداً أنتم ورفاقكم من أبناء جيلكم.
ان مثل هذا اللقاء يعني لي الكثير، إذ يمنحني الفرصة لأن أتحدث عن فعل التغيير الذي أسقط بعض أنظمة الطغيان، ولأن أحاور هذه الكوكبة من رجال الغد ونسائه في مناخ صحي لم تفسده الأمراض والأغراض التي تشكل استثماراً مجزياً لتلك الطبقة السياسية التي تفسد علينا حياتنا.
أول ما أبدأ به حديثي هو التحسر على تضاؤل الاحتمال بأن تمتد الانتفاضات التي تصنع غداً جديداً للعديد من الأقطار العربية الشقيقة، الى هذا الوطن الصغير الذي نظامه أقوى من دولته والذي يستمد قدرته على الثبات من خارج إرادة شعبه… هذا إذا تجاهلنا ان هذا النظام لا يتعامل مع الشعب كوحدة، مرتاحاً الى تقسيمه طوائف ومذاهب مصطرعة بحيث تمتنع عليه القدرة على تحقيق الطموح الى وطن.
فلننتقل إذاً، الى ما يفرح في ما تشهده أقطار عربية أخرى من انتفاضات عمادها الأساس الشباب الذين نجحوا في انتزاع القرار بوعيهم الذي وحّد بينهم وألغى، تقريباً، الفروقات الاجتماعية والفكرية ليجعلهم كتلة متراصة خلف المطلب الذي كان في مستوى الأماني: “الشعب يريد إسقاط… النظام”، وقد اجتمع ففعل وأسقط نظامين على الأقل، وثمة أنظمة أخرى تتهاوى، لكن بثمن باهظ.
[[[
في بلاد تخضع للحكم الشمولي، سواء أبقوة الشعار الديني أم بقوة السلاح الشرعي، ممثلاً بالجيش والقوات الرديفة التي يستحدثها أهل السلطة، يصير صعباً توقع مواعيد تفجر غضب القهر ثورات شعبية تجتاح النظام فتسقطه بكل رموزه ومؤسساته التي غالباً ما تحولها السلطة الى تكايا لأزلامها توفر لهم مواقع السيطرة والنفع.
÷ ولقد تفجرت تونس، مثلاً، بالثورة، بينما وزارة إعلام طاغيتها تستدعي الصحافيين لإجراء مقابلات مع الوزراء عن الإنجازات الباهرة والزيادة القياسية في أعداد السياح ومردود السياحة بالعملة الصعبة، ما يبشر بالازدهار ويطمئن الشعب الى ارتفاع وتيرة الناتج القومي في البلاد التي لم تعد فقيرة نتيجة السياسة الحكيمة التي يسهر على تنفيذها القائد الملهم بالشراكة مع زوجته التي رفعتها عبقريتها من موقع الحلاقة النسائية الى سدة الرئاسة وسلمتها مفاتيح الثروة الوطنية.
كانت الشرارة إقدام شاب عاطل عن العمل على إحراق نفسه يأساً من عجزه عن الحصول على فرصة عمل، واضطراره الى أن يتحول الى بائع متجول في بلدته الفقيرة في الجنوب التونسي الساقط من ذاكرة الدولة ونظامها البوليسي.
وصار محمد البوعزيزي مفجر الثورة التي لم يشهد مسيرتها حتى خلع الطاغية بعد أسابيع قليلة من اغتياله بانسداد الأفق أمام حقه في ان يعيش من ناتج عمله بكرامة.
ولقد فوجئ العالم كله، وبالذات فرنسا التي تكاد تعتبر تونس ضفتها الأفريقية، والتي كانت تعتبر ان حصتها في بن علي اكبر من حصة اميركا التي دهمها سقوط الطاغية فأوفدت على عجل نائب وزيرة الخارجية ليحاول ان يعرف، مستنداً الى خبراته الممتازة في الشؤون اللبنانية المعقدة.
÷ أما مصر فكانت ثورة ميدانها في مستوى الأحلام.
واعترف بأنني، وكثير مثلي ممن عرفنا مصر عن قرب، وجلسنا الى مفكريها وكبار الكتاب والصحافيين وبعض المسؤولين فيها، بأننا لم نقدر ابداً ان ينزل المصريون، مليونا اثر مليون، الى ميدان التحرير في القاهرة وان يعتصموا فيه مبتدعين نظاماً ذاتياً للحماية وتأمين الغذاء والدواء ومناوبات الحراسة حماية للمعتصمين من البلطجية، الذين تماهوا مع قوات الأمن المركزي في الهجوم على المواطنين العزل، الذين لم يكونوا يملكون – بداية – لا القيادة ولا الخطة ولا القدرة على ان يحلموا بإسقاط النظام.
الشعب مبدع حقاً، ولقد صمد المتظاهرون الذين بنوا قيادتهم المشتركة في الميدان، ولم يكن لديهم أي سلاح غير الإرادة، في مواجهة المليون ونصف المليون مجند في جهاز الأمن المركزي، وحوالى نصف مليون من البلطجية وأصحاب السوابق الذين استنفرتهم وزارة داخلية النظام للاعتداء على جماهير الشعب في “موقعة الجمل” التي دخلت التاريخ، والتي شكلت على الأرجح رصاصة الرحمة في معركة إسقاط النظام الفاسد المفسد الذي قزم مصر فشطبها كقوة تأثير كبرى في منطقتها كما في أفريقيا والعالم الثالث عموماً، وبين عواصم القرار في العالم.
من باب توكيد المؤكد من الترابط الى حد التكامل بين مطامح الشعوب العربية، لا بد من الإشارة الى ان ثوار تونس قد أمدوا رفاقهم الذين لا يعرفون أسماءهم في مصر ببعض أساليبهم الناجحة في تعطيل مصفحات الأمن المركزي وإخراجها من المعركة عن طريق دس بعض القطن المشبع بالبنزين في ـ الاشبمان ـ ، ما يجعلها تنفجر فتستحيل الحركة على المصفحة.
لقد يسر التقدم العلمي أمر التواصل وبالتالي الحشد وتبادل الخبرات بين الثوار في مختلف البلدان، وكثير ما نبه الثوار بعضهم البعض الى بعض الأخطار أو بعض المخاطر أو بعض ما عرفوه من أساليب النظام القمعي ومناوراته السياسية.
وليس سراً أن شبكة تبادل المعلومات بين قوى الاعتراض على أنظمة الطغيان قد اتسعت متخطية الحدود، من دول المغرب الى دول المشرق وبالعكس، وان الشعار المركزي كان واحداً حتى بموسيقاه المنغمة، “الشعب يريد إسقاط النظام”، وإن كان كل شعب أضاف إليه بعض روحه وكان المصريون الأبرع في تضمين الشعار أسباب استعجالهم، فقال واحد منهم:
إمش، مراتي بتولد وإبني مش عايز يشوفك! أو: إمش، إيدي وجعتني!
[[[
ان الأوضاع السياسية والاقتصادية، الاجتماعية والثقافية، في معظم الدول العربية مهترئة، والطغيان هو النمط السائد في أنظمة الحكم، يستوي في ذلك الأغنياء بثروات خرافية لم يتعبوا في جنيها، أو من يتحكمون في دول فقيرة فيبددون دخلها المتواضع على إدامة حكمهم (الديموقراطي شكلاً، إذ هناك مجلس نواب، وحزب أو جبهة أحزاب لصاحبها الحزب الحاكم) فيهملون مطالب الشعب، بل حقوقه في حياة كريمة وفي مستقبل يليق بكفاءاته.
ومن أسف ان أنظمة الطغيان هذه تسد الطرق الى المستقبل.
÷ وها هو معمر القذافي الذي جاء بانقلاب عسكري في الأول من أيلول 1969 رافعاً شعارات الوحدة العربية والاشتراكية والتقدم، قد تكشّف عن طاغية يحكم شعبه الذي أعاده قبائل وعشائر مقتتلة بالحديد والنار، ما أعطى المبرر للتدخل الأجنبي بأساطيل احترفت تدمير بلاد الآخرين باتباع سياسة الأرض المحروقة.
وها هي الطائرات الحربية للحلف الأطلسي تدك كل ما تم بناؤه من منشآت عامة وثكنات ومصانع للإنتاج الحربي فضلاً عن البيوت والمدارس والمباني الجامعية. ومن أسف أن بعض دول الخليج العربي تشارك في هذه الحملة الحربية، ليس بالمال فقط، بل كذلك ببعض طائراتها الحربية التي لم نكن نعرف أن لديها من الطيارين ما يكفي لقيادتها، وهي قد أضفت على هذه المهمة الطابع الإنساني لتمويه مشاركتها في الجريمة.
÷ واذا كان النظام في الجزائر قد استنقذ نفسه برمي بعض المليارات من الدولارات، على شكل زيادات في الرواتب أو التقديمات الاجتماعية، فإن بلاد ثورة المليون شهيد تعاني انعدام المشاركة السياسية وانسداد الأفق أمام الشباب المطالبين بحقهم في ثروة بلادهم وبضمان فرص عمل تعفيهم من مخاطر الهجرة للعيش من حسنات مستعمرهم السابق الذي يستخدمهم كعمال في “الأَسود” وفي المهن التي يأنف منها الفرنسي.
÷ أما النظام الملكي في المغرب، وهو الأعظم رسـوخاً لأن عمر العرش أكثر من ألف سنة، والأسرة العلوية في الحكم منذ أكثر من ثلاثمئة سنة، فقد استدرك الأمر واندفع الى إقرار مجموعة من الاصلاحات في بنية الدولة تتجاوز معظم المطالب التي كانت ترفعها المعارضة، متحاشية الصدام المباشر مع الملك ـ أمير المؤمنين.
وأما في المشرق، فقد توالت الكوارث الناتجة عن معاندة الأنظمة القائمة تقبل فكرة الاصلاح أو المبادرة اليه استجابة لضغط جماهير الشعب التي نزلت الى الشارع ويصعب كثيراً أن نتصور أنها ستخرج خائبة.
لقد اختار بعض القادة أن يواجهوا إرادة شعوبهم بالرصاص أو بالتحايل على المطالب، ولم يتورع بعضهم عن استخدام الانقسامات القبلية والمناكفات المذهبية في الدفاع عن عرشه بغض النظر عما سيصيب البلاد من دمار وتخريب للمؤسسات وإفقار يضاف الى فقرها فيشطب قدرتها على صنع المستقبل الأفضل… بل قد يذهب بوحدة البلاد وتمزيق شعبها والتمهيد لقيام دويلات مقتتلة تلغي الوطن ودولته وشعبه جميعاً.
÷ وها هو الرئيس اليمني علي عبد الله صالح الذي لعب أدوار الخليفة ـ أمير المؤمنين والملك ورئيس الجمهورية وشيخ القبيلة والإمام معاً، يتنسبب في إعادة تقسيم اليمنيين الذين دفعوا غالياً ثمن استعادة وحدة وطنهم الذي كان مقسماً في ظل الإمام أحمد حميد الدين شمالاً والاستعمار البريطاني جنوباً، ثم في ظل الجمهوريتين المقتتلتين قبل أن تفرض توحيدهما الحرب بين الأشقاء بكل مآسيها الأهلية والخراب الاقتصادي في الدولة الأفقر من الفقر.
÷ أما انتفاضة البحرين التي كانت مطلبية، وعمادها شباب مستنير لعله بين الأرقى والأغزر علماً وثقافة بين الخليجيين، فقد دُمغت بالطائفية تمهيداً لأن تُتهم في وطنيتها وفي أنها إيرانية الولاء، في حين أن البحرينيين قد أكدوا ـ قبل أربعين عاماً ـ وطنيتهم وعروبتهم في استفتاء أجرته الأمم المتحدة، بينما شاه إيران في عز غروره، وجهروا فيه برفضهم الانضمام الى إيران.
هنا لا بد من التوقف أمام الثورة المضادة، أو الهجوم المضاد الذي نظمه نادي الملوك والرؤساء العرب على أمل التغيير الذي قرأنا بعض صفحاته مع اجتياح البحرين بقوات درع الجزيرة التي اكتشفنا قدراتها الخارقة في وجه المدنيين.
وقرأنا صفحات أخرى منه في الطائرات المقاتلة التي تشارك حلف الأطلسي في قصف ليبيا، بينما يرسل الموفدون بعروض الرشوة الى من يقبلها من رجال الأوضاع الموقتة في البلاد التي باشر شعبها الثورة ولما ينجزها بعد.
÷ تبقى سوريا التي يواجه نظامها صعوبة في الإقدام على الإصلاح المطلوب الذي لن يفيد التأخير في انجازه إلا في تفاقم الأزمة وتهديدها سلامة الدولة والوطن، بالمحاولات المشبوهة لتحويل الخلاف السياسي الى فتنة طائفية .
ان الحاكم العاقل هو من يستمع الى نبض شعبه فيلبي مطالبه قبل أن تستدعي التحرك في الشارع، نتيجة الإهمال أو المبالغة في الخوف على النظام من الإصلاح، في حين أن الإصلاح يحصن النظام بينما التمسك بالقديم المستهلك والاعتماد على القوة، يحولان الهتاف من طلب الإصلاح الى طرح مصير النظام على بساط البحث.
[[[
واضح أن الأنظمة التي لا تزال تعاند في المبادرة الى الإصلاح قد تسببت في تعاظم الخوف من التغيير لأنه قد يفتح ـ في بعض الحالات ـ أبواب الحرب الأهلية.
لكن المهم أن الشعب قد نزل الى الشارع، وأثبت رقيه في مطالبه، وحرصه على دولته، واهتمامه باستنقاذ مستقبله من براثن أنظمة الطغيان، الذي بين عناوينه الفساد ونهب المال العام واحتقار الشعب وإهمال حقوقه وحرمانه من خيرات وطنه.
والشعب لا يخطئ وطريق الثورة هي الحرية، كما أن الحرية هي نتاج الثورة في كل زمان ومكان.
ولنأمل أن يسمح لنا هذا النظام الطوائفي الفاسد المفسد، بأن نصير ذات يوم شعباً له دولته، واعترف بأن ذلك ـ بالنسبة الى جيلي ـ من الأحلام، وأرجو أن تكون لكم القدرة التي لم تتوفر لنا لتحقيقه.
أيها الشباب احموا مستقبلكم بالحرية.
لعلكم إذا ما بلغتم مركز القرار، في مستقبل قريب، تصلحون بعض ما أفسده الطوائفيون ولصوص الهيكل في بناء دولتنا المتهالكة.
من أقوال نسمة
قال لي «نسمة» الذي لم تعرف له مهنة إلا الحب:
ـ أن تحب يعني أن يتسع قلبك للناس جميعاً، وأن تنسى البغض والحسد والمنافسة والمكايدة.
الحب أفق مفتوح إن أغلقته صار سجنا.
الحب روحك، فدع روحك ترف فتنعش كل أبناء الحياة.
طلال سلمان