«الإمبراطور» مسعود ضاهر يسحب الشيخ طابا إلى اليابان
من المصادفات القدرية، ان يقع التكريم في هذا اليوم، 4 حزيران الموعد الذي اختارته قيادة الاحتلال الإسرائيلي لمباشرة اجتياح لبنان قبل ثمانية وعشرين عاماً.
.. وان يقع عشية الخامس من حزيران الموعد الذي اختارته اسرائيل لاجتياح إرادة الأمة قبل ثلاثة وثلاثين عاماً.
ولكن مما يخفف من قسوة الذكريات أننا ما زلنا نعيش نشوة الانتصار الذي حققته المقاومة بجهادها العظيم في مثل هذه الأيام، قبل عشر سنوات، مما سمح لنا بأن نلتفت لتكريم الإنجاز وأهل الإنجاز.
لولا أنني أعرف قرية الشيخ طابا، بأهلها الطيبين والفقراء، وبموقعها فوق التلة التي تشرف على سهل عكار، وكأنها حارس يقظ على أرض الخير المنداحة تحتها، والتي يتوزع ملكيتها الإقطاع أو من تبقى من نسله.
ولولا أن لي أصدقاء أعزاء من ناس الشيخ طابا الطيبين وممن يسرّت لهم مصادفات قدرية أن ينالوا فرصاً للتحصيل العلمي والتعرف الى العالم البعيد، هم الذين كانوا يرون في طرابلس عاصمة العواصم ومركز الكون، ويتشهون التعرف على بيروت التي يسمعون عنها اكثر مما يعرفونها.
لولا ذلك كله لاعتبرت ان الدكتور مسعود ضاهر «ياباني» تقمص في الشيخ طابا، بعشقه للمعرفة ودأبه على طلب العلم ثم بغزارة انتاجه الذي تجاوز التاريخ الى تحليل الواقع الاجتماعي واستخلاص الدروس من التحولات السياسية التي عصفت بمنطقتنا العربية، ويسرت للتآمر الاستعماري أن يعمل فيها تمزيقاً وتشطيراً، تمهيداً لان يزرع الكيان الإسرائيلي في قلبها، ويجعلها تخرج من التاريخ بعدما فتك بجغرافيتها وحوّلها الى برزخ من الدويلات والكيانات التي يصعب عليها ان تكون دولاً فكيف بأن تكون مستقلة وذات سيادة… هذا قبل ان نتحدث عن أنظمة الحكم وعمق إيمانها بالديموقراطية وحقوق الإنسان.
من الشيخ طابا التي تتعمشق تلة مقهورة بالفقر على كتف سهل عكار الى طوكيو التي انتصرت على القنبلة الذرية، قطع مسعود ضاهر رحلة في قلب التعب وأعطى الدراسة نور عينيه وسهر الليالي قبل ان يحقق النجاح باحثاً ودارساً ومؤرخاً، مقدماً نموذجاَ فذاً للانتصار بالإرادة على كل المعوقات التي اعترضت طريقه الطويلة الى حيث يتربع الآن إمبراطورا للثقافة وسفيراً للصداقة والتعاون وتبادل أسباب المعرفة والخبرات بين الشعوب، لا سيما في هذا الشرق الذي يعيش بعضه في ذل الحاجة وقهر السلطان وبعضه الآخر في تخمة الفائض عن حاجته، ولا من يحاسب السلطان.
ولقد بدأ مسعود ضاهر حياته العملية معلماً الاطفال والفتية، وواصل الدراسة ونال الإجازة التعليمية في التاريخ عام 1968 وواصل الدراسة. ونال دبلوم الدراسات العليا في التاريخ عام 1970 وواصل الدراسة. ونال دكتوراه – حلقة ثالثة في التاريخ من السوربون بإشراف البروفسور جاك بيرك وواصل الدراسة. ونال دكتوراه في التاريخ وأغلب الظن انه يواصل الدراسة.
حتى الزواج كانت قاعدته بل مهره الدكتوراه، ولعل سونيا بطرس الدبس قد نافسته فاختار ان يحولها الى زوجة.
ثم انه الدكتور مؤتمر. لا يكاد ينعقد مؤتمر الا ويكون من بين ابرز المشاركين فيه، وهو قد شارك حتى كتابة هذه السطور في أكثر من سبعين مؤتمراً في لبنان وخارجه.
أما مسعود ضاهر الكاتب الجاد فطالما لجأنا اليه لكي يحدد موقع دور الاقتصاد في التاريخ. ولكي يكتب لنا عن التحولات التي شهدها لبنان اجتماعياً – وسياسياً – هو الذي كتب كثيراً في المسألة الطائفية. ولأنه من منطقة زراعية فقد اهتم بمعالجة الجذور التاريخية للمسألة الزراعية. ولأنه بدوي في الأصل فقد اهتم بتطور الشرق العربي المعاصر، من البداوة الى الدولة الحديثة. ولأنه من بلد يصدّر شعبه الى الأقطار الأخرى بعيدة وقريبة، فهو كتب عن هجرة الشوام، وعن الهجرة اللبنانية الى مصر، فضلاً عن تراجيديا الاغتراب المفتوحة كالجرح، أبدا.
وهو قد كشف زيف التاريخ المبني على المرويات الطوائفية التي تغفلها الوثائق الرسمية للدولة، وتحديداً سكان المناطق النائية والأرياف وفقراء المدن.
ولأنه ابن عائلة فلاحين طالت معاناتها مع الإقطاع فقد اجتهد في التأريخ للانتفاضات اللبنانية ضد النظام المقاطعجي، كما كتب، في ما يؤصل المقاومة، عن مجابهة الغزو الثقافي الصهيوني الامبريالي للمشرق العربي.
وعندما اهتدى مسعود ضاهر الى اليابان، وتجربتها الفذة في التاريخ الحديث، وجد ضالته المنشودة: وجد المثال الذي يؤكد قدرة الأمة متى أرادت على تخطي الصعب وتحدي الظروف القاهرة، وهكذا فقد حاول أن يعلمنا، قادة ضائعين عن الطريق، وشعباً مغيباً عن القرار بإنجاز دراسة مقارنة بين النهضة العربية والنهضة اليابانية بيّن فيها ركائز التجربة الفذة التي خاضتها اليابان لاقتحام العصر بعد هزيمتها المدوّية في الحرب العالمية الثانية… في حين تولت انظمة الفساد العربي إبعاد شعوبها عن غد التقدم وعن القدرة على دخول العصر.
يستحق مسعود ضاهر هذا التكريم بالوسام الثقافي الذهبي من مرتبة «الشمس المشرقة»، يأتيه من امبراطور اليابان، الجزيرة المحاصرة التي تكاد اليوم تغرق العالم بإنتاجها الغزير وتتصدر الدول الاكثر تقدماً بالعمل والاجتهاد والابتكار والتجديد في العلم والتقنية.
فمسعود ضاهر من بين أفضل من كتب عن تجربة التحديث في اليابان التي دفعت بها الى واجهة الدول ذات الدور الكبير، والفاعل في إعادة رسم خارطة القوى العالمية الأساسية، بينما ظل الفكر العربي يراوح بين تمجيد الماضي، والاغتراب عن الذات أو الغربة في المستقبل.. إلا في كتابات طليعية لم يتنكر واضعوها لأهلهم ولا هم خافوا من اقتحام الصعب للتبشير بالغد الأفضل.
لقد درس التجربة اليابانية بكل ما رافقها من تضحيات هائلة بذلها اليابانيون طوعاً أو قسرا لإنجاح تجربة فريدة في بابها خارج نادي التحديث الغربي بشقيه الأوروبي والاميركي، وها قد نجحت اليابان في استيعاب العلوم الحديثة وتوطينها وتطويرها وفي رفض تغريب المجتمع الياباني عبر تغيير أنماط السلوك الاجتماعي والعمراني وأشكال العمل والتعليم والإنتاج وغيرها.
وهو قد قدم لنا الأسباب التي جعلت اليابان عملاقاً اقتصادياً بصفتها الدولة الأكثر غنى في العالم مع انها ارتضت ان تبقى قزماً عسكرياً، الى حين، من حيث كونها بلداً منزوع السلاح، وربما لهذا، لتتقدم وتحتل مرتبة ثاني قوة اقتصادية في النظام العالمي الجديد.
ساحر، هذا المسعود ضاهر… لقد وجد دائماً الوقت لينجب الى جانب بناته الثلاث كل هذه الدراسات وكتب التاريخ والأبحاث والمقالات التي جعلته مرجعاً في مواضيع عدة أخطرها الثقافة وتصحيح المزوّر من التاريخ والمغلوط من المفاهيم التي لطخت بعض المنقول عن الماضي بالعمى الطائفي والتعصب.
ثم انه كان يجد الوقت، ونحن معه، لسهرات الطرب والمحاورات السياسية بواسطة الدبكة والنقاش بموسيقى آل الخطيب وعبد الكريم الشعار.
دائماً لديه وقت هذا المثقف الخطير.. ربما لأنه يعيش على إيقاع الساعة اليابانية … هل تعيرنا ساعتك يا ابن الشيخ طابا؟
(كلمة ألقيت في تكريم الدكتور مسعود ضاهر لمناسبة منحه الوسام الثقافي الذهبي الياباني من مرتبة
«الشمس المشرقة»).
ليلة استثنائية خارج سياق الألف الأخرى
قال الصحافي المصري البارع في العلاقات العامة: دعوا أمر السهرة لي. سأتصرف، وسأهيئ لكم الجو الممتع، فلا يجوز ان تصلوا إلى أطراف الوطن العربي عند المحيط الأطلسي ثم تعودوا إلى مشرقكم بخفي حنين.
قام إلى هاتف الفندق. لم نسمع كلماته لكننا استمتعنا بقهقهاته. وحين عاد بادرنا قبل ان يصل إلينا: هل تكفينا دزينة من الصبايا متعددات الجنسية؟! لقد وفرهن لنا صديق النجوم والحسناوات لأنه أخطر مصور في البلاد.
قادنا دليلنا الذي تباهى علينا بمعلوماته السياحية في العاصمة الملكية إلى مطعم يقدم شيئاً من الفن الشعبي إلى جانب الأطعمة الشهية التي يتميز بها مطبخ الدولة التي يرأسها «الخليفة».
دخلنا فإذا صديق الصديق يحتل مقعد هارون الرشيد، كما تصوره الأساطير، ومن حوله دزينة من الحسان مزركشات الأثواب المفتوحة عموماً على مكامن الجمال التي تكاد تنادي عابر السبيل إلى تزكيتها بنظرة إعجاب.
رحب بنا المضيف الذي لم يكن يعرفنا والذي انصرف لاستقبال رفيقته الآتية من البعيد في المطار، قبل ان نعرفه أكثر.
هي لحظات، ثم سقط الارتباك، وانجذب كل منا إلى من يجاور من الحسناوات اللواتي لا يحد حرج المعرفة الطارئة من حرية حركتهن.
تقافزت بعضهن، وقامت أخريات إلى الرقص، وسحبت كل منهن واحداً من الزملاء إلى التيه في قلب الحلبة وسط هذه الباقة من الورود وقد تحرر الكل من عبء الأسماء والألقاب وما يتصل بها من موجبات. وحين بوشر بتقديم العشاء جلس كل حيث شاء، وتنقل بعض «الديوك» بين قافلة «الدجاج» في جو خرافي من أجواء ألف ليلة وليلة.
على حين غرة ارتفع صوت أنثوي حاد، ورد عليه صوت أنثوي أكثر حدة، واشتبكت الأصوات في حفلة «ردح» باللهجات المحلية المختلفة حتى لقد عجز «المشارقة» عن فهم الكلمات وان استوعبوا الدلالات التي تختلط فيها الاهانات السوقية مع التباهي بالمواهب النسائية الظاهر منها والمستتر… بل ان بعض الحسان لم يتورعن عن الكشف عن بعض تلك المواهب، لإثبات انهن يتمتعن بالأكبر أو بالأضخم أو بالأعمق أو بالأمتع أو بكل ذلك معاً.
غرق الرجال الثلاثة في بحر من الخجل وهبوا يحاولون الفصل بين المشتبكات اللواتي لجأن الآن إلى مختلف أنواع الأسلحة، من الصحون والملاعق والشوك إلى القواعد حاملة الشموع التي كان يفترض أن تنشر جواً رومانتيكياً يحلو فيه الغزل وبث النجوى والتعبير عن الصبابة.
تدخل الخدم، لكن الخصومات بين الهويات المتناحرة للمشتبكات كانت أعظم حدة من أن يوقفها من استمتع بتحسس مكامن اللذة في الأجساد وهو يحاول فك الاشتباك وإبعاد الواحدة عن الأخرى، وأحيانا كانت تتعاون ثلاث حسناوات ضد واحدة، وفي الزاوية كان رباعي الملاكمات يخضن مباريات محصورة لم تتوقف برغم ان الدماء قد خضبت بعض الوجوه.
جاء المدير وأركانه فأنشأوا قوة فصل، قبل أن يبدأ توجيه الانذارات: من ترد الاستمتاع بالسهرة فأهلاً بها، أما من تريد العراك فلتخرج باحثة عن حلبة أخرى…
خلال هذه الهدنة كان الفرسان الثلاثة ينسحبون متكأكئين بعضهم على البعض الآخر، يزفرون حسراتهم: لقد خسروا سهرة كان يمكن ان تكون الأمتع في كل ما عرفوه من ليالي الطرب بنهاياتها المبهجة.
ولقد انتبه «الدليل» إلى خدوش فوق وجه أحد رفاق السهرة الحربية، في حين كان الثالث يحاول عبثاً وقف نزيف الجرح الذي أصاب أنفه خلال محاولاته من أجل فرض هدنة… معطرة.
مــن أقــوال نســمة
قال لي «نسمة» الذي لم تعرف له مهنة إلا الحب:
ـ حبيــبي هو مصــدر فخري، وكلــما ارتفعـت هامته في عيون الناس تعاظــمت نشــوتي واعــتزازي بما اختاره قلبي.
الحب هو صانع المجد… وحبيبي يشعرني بأني أقوى الناس بقلبه.