عن اللحظة الحرجة التي تعيشها الصحافة العربية في لبنان
انه عصر الإعلام! هكذا يقال الآن، وبعدما صارت «السياسة» اختصاصاً حصرياً لمجموعة من المؤسسات العاتية في عدد محدود من الدول تخوض حروب مصالحها المنتشرة بمدى الكون.
انقرضت احزاب التغيير التي أطلقتها أفكار الحالمين بعالم جديد يقوم بإرادة الانسان فيحفظ له حقوقه في حياة كريمة، ويمكّنه من ان يكون صاحب القرار.
صار الاعلام مؤسسات رأسمالية كبرى تخدم وتعبر عن مصالح القوى الحاكمة او المتحكمة بالقرار الكوني في مختلف الشؤون، بدءًا بالثورة على الاحتلال والقهر العنصري (كما في فلسطين) وصولاً إلى أسعار السلع بما فيها الدواء وكلفة العلاج.
ولان الاعلام يتبع «السياسة» ويخدمها فقد اختفت او تكاد الصحف والاذاعات ومحطات التلفزيون التي كانت تعبر عن طموحات المحكومين، وأخلي الهواء وتم احتكار الحبر لمصلحة اصحاب المصالح من الحكام والمتحكمين.
صار الاعلام، بأغلبيته الساحقة، ينطلق بلسان مموليه من الحكام والمتحكمين بعدما انعدم صراع المبادئ والأفكار.
وها ان الاعلام العربي بكتلته العظمى من أملاك أصحاب الملك، مع استثناء نافر في لبنان وأقطار عربية أخرى يسمح صراع النافذين فيها من أهل السلطة بهوامش من الاعتراض في بعض الصحف، ولو إلى حين.
وما الأزمة التي تعيشها بعض المؤسسات الاعلامية في لبنان إلا دليل إضافي على قرب انقراض الصحف ومحطات التلفزة التي نشأت كمغامرات فردية في لحظة احتدام الصراع بين الأفكار قبل ان يستقر الحكم في أيدي اصحاب الثروة الذين باتوا هم أصحاب السلطة وبالتالي اصحاب القرار في كيف تكون حياة الناس في الحاضر والمستقبل.
هنا ذكريات شخصية عن مرحلة سابقة في عمر الصحافة في لبنان.
[[[
انتهى زمن الهواية في الصحافة، منذ عهد بعيد..
وقديماً كان يمكن لشاعر كبير أو أديب مرموق أو وجيه في قومه أن يصدر صحيفة لينشر قصيدة أو قصائد له ولشعراء آخرين فتعيش لبضعة أسابيع أو بضعة شهور، إذا ما توفر له عدد من المعجبين الموسرين من مقدري فنه فتكفلوا بنفقاتها المحدودة (ثمن الورق وكلفة الطباعة..)، ثم تأخذه همومه أو مشاغله أو «إفلاسه» وتخلي المتحمسين للشعر عنه، مبتعدين عن هذه الهواية المكلفة، فتتوقف الصحيفة إلى حين توفر متبرع آخر.
بالمقابل كان ثمة قادة سياسيون وزعماء أحزاب أو تكتلات سياسية يرون حاجة إلى إصدار صحيفة، أو دعم صحيفة قائمة، لتعبر عن أفكارهم أو طموحاتهم، فيجمعون بعض ما تيسر من «تبرعات» أو «مساهمات» من أصدقائهم ومناصريهم أو من بعض الموسرين ممن يوالونهم أو يدعمون توجهاتهم السياسية، ويأتون ببعض المحترفين مهنياً والكتبة ويصدرون صحيفة تحمل آراءهم وتدعو إلى ما يمكن افتراضه «برنامجهم» أو بالأحرى رؤيتهم لطبيعة المرحلة وموقعهم فيها.
أما الأحزاب فكانت لها «نشراتها» التي نادراً ما انتظم صدورها دورياً، وإن ظلت صحف أو مجلات الحزب الشيوعي الأقرب إلى الانتظام، معبرة عن رأي حزبها متبنية مواقفه داعية اليها، وبالتالي فهي خارج التصنيف.
ومن دون التورط في ما لست مؤهلاً له مثل التأريخ للصحافة اللبنانية فإنني أستطيع أن أدلي بشهادة مهني عاش في الصحافة ومنها ولها طوال نصف قرن أو يزيد قليلاً، وجال بين مؤسسات عدة منها مجلة «الحوادث»، ثم مجلة «الأحد» ومعها جريدة «الكفاح العربي» ثم دار الصياد (مجلة «الصياد» وجريدة «الأنوار») مع محطة قصيرة في جريدة «اليوم» فعودة إلى «الحوادث» فإلى «الأحد» فإلى دار الصياد، وهي رحلة استغرقت سبعة عشر عاماً قبل أن أتصدى لمشروع العمر: إصدار «السفير» في 26 آذار 1974.
[[[
من دون التورط في التصنيفات السياسية، يمكنني القول إن الصحافة في لبنان كانت على حال معينة قبل المد العربي القومي بقيادة جمال عبد الناصر وزخمه الثوري الذي غيّر المنطقة جميعاً، ثم صارت على حال أخرى بعده.
كانت الصحف القائمة «محلية» جداً، تنقسم ولاءاتها بين الكتلة الدستورية (بشارة الخوري ومن معه) والكتلة الوطنية (إميل إده ومن معه).. وكانت الرياح المؤثرة فرنسية أساساً وسورية تالياً، ثم دخل العراق الهاشمي (البريطاني) دائرة التأثير، ومن بعده جاءت السعودية لتتخذ من بعض الصحف اللبنانية قلاع دفاع أمامية، في مواجهة المد الناصري.
يمكن اعتبار معركة تأميم قناة السويس ومن ثم العدوان الثلاثي على مصر في أواخر العام 1956 محطة فاصلة في التاريخ السياسي للمنطقة العربية برمتها، وضمناً للصحافة في لبنان.
بعدها مباشرة تنبهت قيادة جمال عبد الناصر إلى أهمية لبنان كموقع إعلامي ممتاز، مفيداً من مناخ الحرية فيه، ومن الشارع الوطني المتعاطف مع طروحاته خصوصاً وقد انحازت إليه سوريا التي كانت تعيش فاصلاً ديموقراطياً ممتازاً في حياتها السياسية.
وهكذا احتدم الصراع السياسي في المنطقة بين التيار القومي التقدمي العريض وبين التيار المحافظ و«الرجعي» بتعابير ذلك الزمن والذي كان يحظى بدعم غربي معلن، تم في إطاره نوع من التحالف بين أعداء الماضي وقد وحدتهم «المصيبة الثورية»: الهاشميين والسعوديين..
في تلك الفترة بدأ العصر الذهبي للصحافة اللبنانية: صارت، بحق، صحافة العرب. صحافة الصراع بين الاتجاهات السياسية المتعارضة. صحافة الصراع بين الأفكار التقدمية والدعوة إلى المواجهة مع اسرائيل وحاميتها الغرب، والدعوة إلى الاعتدال في مناخ «غربي».
وحين قامت دولة الوحدة، الجمهورية العربية المتحدة من اندماج سوريا ومصر تحت قيادة جمال عبد الناصر في 22 شباط 1958، بدأ عهد عربي مختلف تماماً عما سبقه، لا سيما في لبنان: تعاظمت المعارضة ضد كميل شمعون، رئيس الجمهورية آنذاك الطامح إلى تجديد ولايته، والمتحالف مع النظامين الهاشميين في الأردن (الملك حسين والد الملك عبد الله الحالي) والعراق (فيصل الثاني بن غازي بن فيصل الأول بن الشريف حسين ـ الثورة العربية الكبرى التي رعاها البريطانيون خلال مواجهتهم تركيا في الحرب العالمية الأولى والتي انتهت بخلعه عن عرش الحجاز ونفيه إلى جزيرة قبرص حيث قضى نحبه متحسراً على ملك لم يحسن سياسته..).
تغيّرت الدنيا جميعاً من حول لبنان، ثم فيه، حيث تحول الاعتراض على التجديد إلى انتفاضة شعبية عارمة كانت شرارتها اغتيال أحد رموز الصحافة الشعبية: الشهيد نسيب المتني، صاحب جريدة «التلغراف» ومحررها الأساسي.
وحين تفجر العراق بالثورة التي أطاحت الحكم الهاشمي وركيزة الغرب فيه، رئيس حكومته نوري السعيد، في 14 تموز 1958مارت المنطقة جميعاً باحتمالات التغيير، وأنزل الأسطول السادس قواته على شواطئ بيروت، وتحرك الاتحاد السوفياتي ليوطد تحالفه مع الجمهورية العربية المتحدة بقيادة عبد الناصر… قبل أن يشجر الخلاف على العراق، حيث كان الشيوعيون قد احتلوا موقعاً مؤثراً جداً في بغداد، وسرعان ما امتد الخلاف فاحتوى قائد الثورة الجديدة الزعيم عبد الكريم قاسم الذي داخله الغرور وغذى الشيوعيون افتراضه أنه البديل «التقدمي» من عبد الناصر، وتفاقم الصراع بين الجمهورية العربية المتحدة التي جسدت ـ في لحظة ـ آمال العرب في الوحدة والقوة والتحرير، وبين الاتحاد السوفياتي، ودخلت المنطقة في خضم صراع عنيف، كانت صحافة لبنان بعض ساحاته الأساسية.
باختصار يمكن القول إنه منذ منتصف الخمسينيات وحتى ظهور دول الخليج واحتلالها المكانة الممتازة التي تحظى بها الآن، تتصدرها السعودية، ظلت الصحافة اللبنانية أرض صراع ومنابر تعبير عن الأنظمة العربية جميعاً: الغنية بمبادئ التغيير والفقيرة بإمكاناتها المادية، وبين الدول النفطية التي صارت لها سياسات وتوفرت لها قوى دعم هائلة… ثم تنبهت إلى دور الإعلام فأفادت من الانتكاسة التي ضربت الصحافة في مصر بعد تصادم نظام السادات معها، واستقدمت مجموعة من كبار الصحافيين والكتاب، قبل أن تلتفت إلى بيروت فتتعاقد مع نخبة من صحافييها وفنييها الذين تقاطروا للعمل في المؤسسات الصحافية الوليدة في مختلف أنحاء الخليج، وإن ظلت الكويت هي الرائدة لفترة طويلة.
بعد ذلك سيأتي دور الإمارات العربية المتحدة، ثم قطر والبحرين… بينما تنبهت السعودية إلى خطورة الإعلام فاستقدمت إلى صحفها عدداً من الصحافيين العرب، بينهم نسبة كبرى من اللبنانيين الذين تبدوا أكثر حيوية وأقل تبعية لنظامهم الضعيف أصلاً من الصحافيين العرب الآخرين (المصريين أساساً والسوريين والعراقيين)… ومعهم وإلى جانبهم اتسعت المساحة لصحافيين جدد من أقطار المغرب العربي والسودان إلخ..
كل ذلك قبل أن تطل الثورة الإعلامية الكبرى عبر الفضائيات التي شكلت قناة «الجزيرة» القطرية «الطليعة المقاتلة» فيها، قبل أن يستعاد النظام في تلك الإمارة الغنية إلى طاعة السلطان، بعد جولة واسعة في آفاق حرية الحركة والقول أرست لديه أكبر قاعدة أميركية في المنطقة ومكتب تمثيل لإسرائيل!
[[[
هذه جولة سريعة مع الصحافة اللبنانية في طورها الماضي حين كانت نشرات محلية محدودة الإمكانات والتوزيع والانتشار، ثم بعدما قفزت إلى صدارة الإعلام العربي نتيجة احتدام الصراع السياسي ـ العقائدي في المنطقة، وبين مسارحه الصراع مع الغرب ومحطته الأساسية الصراع مع الاحتلال الإسرائيلي فلسطين.
وما من شك في أن الإعلام في لبنان قد لعب دوراً عظيماً في نصرة الثورة الفلسطينية التي أفادت منه في خدمة قضيتها، داخل لبنان وعلى المستوى العربي.
ولفترة طويلة كان لبنان أعظم حضوراً عبر صحافته وصحافييه منه عبر دولته وسياسييه… وليس من حركة أو جبهة أو قيادة سياسية أو نظام سياسي عربي إلا وقد أفاد من «إشعاع» الإعلام في لبنان أو الإعلاميين اللبنانيين.
لكن المقاومة الفلسطينية بقيادتها آنذاك التي لم تكن متحمسة للقومية والعروبة قد لعبت دوراً في حرف العديد من الصحف العربية عن خطها واستقطبتها بوهج القضية المقدسة. ثم إن المقاومة تورطت حتى كادت تغرق في المستنقع اللبناني مما أضر بصورة الصحافة والصحافيين الذين شقهم الانقسام.
[[[
لأسباب سياسية مفهومة ذوى دور مصر، التي أخرجها انحراف نظامها في عهد السادات من قيادة العمل السياسي العربي وهمّش قدرتها على التأثير، فانفتح الطريق أمام الأنظمة النفطية الغنية والغربية التوجه منذ ما قبل السادات، لتدخل الإعلام من أبوابه العريضة مسلحة بقدراتها المادية غير المحدودة.
وهكذا دخل المال النفطي العربي إلى ساحة الإعلام اللبناني، المرئي ثم الفضائي، حيث كاد يسيطر عليه جميعاً.
ومع أن نظام صدام حسين قد أنفق ثروات طائلة على الإعلام في المغتربات أساساً، وفي بعض الأقطار العربية البعيدة (وصولاً إلى موريتانيا) إلا أنه كان «عقائدياً» و«شخصانياً» أكثر مما يفترض بمن يتصدى للتأثير الهادئ وبنفس طويل في مجريات الأحداث.
ثم استولدت المعجزة «دبي»، بقرار دولي ـ عربي خطير، لتكون المركز الإعلامي الأول فضلاً عن كونها المركز الاقتصادي في المنطقة العربية جميعاً: بسحر ساحر انتقلت شركات الإعلانات الكبرى إلى دبي، وأنشئت على رمالها المدينة الإعلامية التي سرعان ما صارت المقر والمستقر للعديد من الفضائيات أخطرها «العربية» السعودية وإلى جانبها «أم. بي. سي» السعودية بتفرعاتها العديدة والعديد من الفضائيات دينية ورياضية واقتصادية وقنوات أفلام وأغان وتفسير فضلاً عن محطات القرآن الكريم.
وكانت تلك هي الخاتمة المأساوية للعصر الذهبي لبيروت كعاصمة للإعلام العربي، وللصحافة اللبنانية، تحديداً، كطليعة مهنية أو سياسية للصحافة العربية.
[[[
ليس في هذه الكلمات مرارة الغيرة أو الحسد، فذلك تطور طبيعي للأحوال السياسية في المنطقة، بانعكاساته المختلفة على المصالح جميعاً، اقتصادياً واجتماعياً وإعلامياً.
صار لكل بلد عربي إعلامه، والقوة يحددها الاقتصاد والإمكانيات المادية القادرة على استقدام الكفاءات من أربع رياح الأرض.
ثم إن العالم العربي انحرف عن كل دعاويه الاستقلالية ليصير تابعاً في الاقتصاد كما في السياسة واستطراداً في الإعلام… وصار العديد من أجهزة الإعلام العربي، مرئياً أو مكتوباً، ينقل بلا تحفظ، ما يصدر حول العرب وعنهم عبر وسائل الإعلام الغربية والإسرائيلية. بل صار القادة الاسرائيليون المغمورة أياديهم بدماء المجاهدين الفلسطينيين واللبنانيين وسائر العرب، بين الضيوف الدائمين على معظم الفضائيات العربية.. طلباً لما يسمى «الموضوعية» وهي تعني التخفف من العداء الذي قد يقود العربي إلى العنصرية… التي هي احتكار يهودي!
وليست مصادفة أن تكون السعودية هي وحدها التي تصدر صحفاً توزع في مختلف الأقطار العربية، وبعضها بامتيازات لبنانية.
[[[
أين تقف صحافة لبنان اليوم؟ وإلى أين سوف تتجه من هنا، وأي مصير ينتظرها؟!
تلك أسئلة مريرة، تحتاج الأجوبة الجدية عليها إلى شجاعة استثنائية وإلى مواجهة مباشرة مع مقاتل هذا النظام اللبناني الفريد الذي فقد وظيفته العربية بقدر ما فقد مناعته الداخلية.
لم يعد اللبنانيون شعباً تحتويهم دولة.
صاروا مواطنين عالميين، وخبراء يبيعون خبراتهم لأية جهة تريد الإفادة منها.
أما صحافتهم فيبدو أنها شاخت أو أنها فقدت مكانتها، وعليها أن تعود إلى ما كانت عليه في البداية: نشرات لهواة يصدرونها إرضاء لشهوة أو رغبة حتى تنفد قروشهم فيحتجبون وتحتجب معهم في انتظار وحي جديد يجد من يموله ليصير صحيفة أو مجلة.
[[[
لكن الأمل لم ينطفئ تماماً بعد.. وما زال في لبنان صحف وصحافيون قادرون على حماية ما تبقى من دور اللبنانيين، في الثقافة والإعلام والدعوة إلى التكامل العربي والتنبيه إلى المخاطر التي تتهدد المستقبل العربي بعنوان فلسطين.
ولن تسود الظلمة الوطن العربي.
ولن تخلي الصحافة في لبنان مكانها لدعاة الحرب الأهلية والصلح مع إسرائيل على حساب فلسطين وحقوق شعبها فيها.
إنها مرحلة حرجة تعيشها الأمة جميعاً، والصحافة اللبنانية بعض مؤسساتها ومنابرها، ولسوف تجد دائماً من يحميها بدورها الضروري للبنان كما لكل العرب.
(ملحوظة: عذراً أنني أقحمت همومي كمهني في هذه الزاوية.. لكنني أفترض أن الموضوع يستحق).
مــن أقــوال نســمة
قال لي «نســمة» الذي لم تُعــرف له مهـنة إلا الحب:
ـ المحبــون ثرثــارون… والميــال إلــى الصــمت يكــتب فــي حبيــبــه شــعراً أو يقــرأ لــه الشـــعر باعتــباره لســان حالــه.
حفظت دواوين لبضعة شعراء.. لكن حبيبي كان يقاطعني بهمس أجمل من أي قصيدة!
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان