تحية متأخرة عبر فاطمة إبراهيم إلى الشهيدين عبد الخالق والشفيع…
تقطر الخبر على الذاكرة كالندى المنعش: منحت مؤسسة ابن رشد للفكر الحر التي أسسها في برلين مثقفون عرب في العام ,1998 جائزتها لهذه السنة للكاتبة (والمناضلة) السودانية فاطمة ابراهيم.
فاطمة ابراهيم: إذاً ما زال ثمة فسحة للأمل. ما زال هناك من تنبض ذاكرته بأسماء الذين اصطنعوا بكفاحهم شموساً في ليل التخلف والقهر والفقر، فيسعى إليهم لكي ينصفهم بعد الظلم والاضطهاد والاعتقال… وبعد التشوهات التي نجمت عن الصراع على السلطة في البلاد التي غناها كامن وفقرها فضاح.
فاطمة ابراهيم: واسمها يستدعي على الفور الحزب الشيوعي السوداني، صاحب التجربة المميزة في قلب حركة اليسار العربي، ومعه قائده الشهيد عبد الخالق محجوب. ورفيقه في النضال الطويل وفي العطاء بلا حدود الشهيد الشفيع احمد الشيخ، زوج فاطمة ورفيقها وشريكها في العمل العلني والسري من أجل شعب السودان، وعماله كجزء من عمال الوطن العربي من موقعه على رأس الاتحاد العام لنقابات العمال في السودان.
ولقد يسّرت لي مهنتي أن أعرف المناضلين الشهيدين، وإن كنت لم أستطع حتى اليوم أن أفهم سبباً لإعدام مثل هذين القائدين المميزين في العمل السياسي النقابي، من على رأس الحزب الشيوعي السوداني صاحب التجربة الرائدة في التوفيق بين الوطنية والقومية والماركسية، إذ لم يعانِ من عقدة الاغتراب عن واقع شعبه، ولا هو سقط في الهجانة، ولا هو حرّف الفكر بحيث أخرجه من سياقه التاريخي وطوّعه قسراً لينسجم مع الدين الحنيف، بل ابتدع الصيغة العبقرية لتوطين الشيوعية في قلب الوطنية السودانية والعروبة والإسلام، بلا تعارض ولا تلفيق.
… فأما عبد الخالق محجوب فقد التقيته في القاهرة، التي درس في جامعتها وفيها تعرّف الى المبادئ الشيوعية وانتسب الى تنظيمها المعروف باسم حدتو قبل أن تستفزه هجانته وصراع الاغراب مع الوطنيين فيه، فكان أن عاد الى بلاده ليؤسس فيها مع مجموعة من شباب السودان المستنير، ومع بعض القيادات العمالية ومنهم الشفيع أحمد الشيخ الحزب الشيوعي السوداني.
???
سأكتفي بواقعة كاشفة لسلوك عبد الخالق محجوب ومواقفه في اللحظات الحاسمة.
بعد هزيمة 5 حزيران 1967 جاء محجوب للقاء جمال عبد الناصر الذي كان يعيش حالة من القهر بل الانسحاق تحت وطأة الخذلان من جيشه الذي كان يفترض فيه القدرة على مواجهة اسرائيل والانتصار عليها، فإذا به يُهزم في الساعات الاولى من الحرب، وإذا قائده العام قد عمم الإفساد على ضباطه الكبار والقيادات، واذا مخابراته مشغولة بالراقصات والسحرة والتنجيم أكثر من انشغالها بمتابعة العدو والتنبه لخططه وما يدبره.
في ذلك اللقاء الذي كانت تلفّه سحابة من الشجن فاجأ عبد القادر محجوب، الذي كان قد بات صديقاً للقائد العربي الكبير، بسؤاله:
أعرف أنك جريح… وأعرف أنك تشعر بأن الاتحاد السوفياتي قد خذلك، سياسياً وعسكرياً، وهذا هو الأخطر. ولقد جئتك لكي تبلغني مآخذك جميعاً على دور السوفيات في الحرب فأذهب إليهم بصفتي الأمين العام لأحد أكبر وأخطر الاحزاب الشيوعية العربية وأطالبهم، من موقع الرفيق في العقيدة، بما قد يحرجك أن تطالبهم به أو تناقشهم فيه من موقع رئيس الدولة غير الشيوعية. إن لنا حسابنا معهم، بوصفنا رفاق سلاح في المعركة ضد العنصرية وضد الامبريالية وضد القوى الاستعمارية وهؤلاء جميعاً كانوا شركاء في الحرب ضد مصر والثورة فيها. ذلك هو واجبي كشيوعي، وكعربي من السودان سيعاني طويلاً من هزيمتكم التي ستفرض علينا ليلاً طويلاً… ومن حقي كشيوعي أن أناقش، بل وأن أحاسب قيادة الحركة الشيوعية العالمية ممثلة بالاتحاد السوفياتي.
? ? ?
أما الشهيد الثاني، الذي أعدم في ظل ثورة مايو التي قاد عسكرها العقيد جعفر نميري وكان عصبها السياسي الحزب الشيوعي السوداني، فهو عبد الخالق محجوب الذي جعل من الاتحاد العام لنقابات العمال في السودان قيادة جدية ناشطة للحركة النقابية العربية…
لكن الشفيع أحمد الشيخ كان أكثر من قائد نقابي. لقد كان قائداً سياسياً مميزاً. هو ابن شعبه وحامل لواء قضاياه الوطنية جميعاً، الخبز والحرية، الكرامة والتقدم، عروبته والاعتزاء بأفريقيته… ثم، انه مسلم طبيعي، لم تأخذه شيوعيته الى مجافاة الدين والدخول في صراع عبثي بين العقيدتين المادية والدينية.
أذكر أنني التقيت الشفيع، في مكتب الاتحاد العام لعمال السودان في الخرطوم، بداية صيف ,1969 كموفد من مجلة الصياد ، وطالت جلستنا التي أستذكرها بتفاصيلها، مما جعل بعض رفاق الشفيع ينبهونه الى ارتباطات اخرى، فالتفت إلي وقال: فلنرجئ استكمال جولة الافق هذه الى الغد… إن لدي الكثير مما أحب إن أحدثك به وأستأنس برأيك كعربي من الشرق فيه.. ما رأيك بالساعة العاشرة صباحا؟!
في الساعة العاشرة كنت أرقى الدرج الى مكتبه في الطابق الأول.. وحين فتح لي الباب تدفق حرجه اعتذاراً: أرجوك لا تؤاخذني، لقد أعطيتك الموعد دون تنبه الى أن اليوم هو الجمعة..
قلت وأنا أتأمله باللباس السوداني التقليدي: وماذا لو أنه يوم الجمعة؟!
قال: الصلاة، يا مولانا، الصلاة. أنا الوحيد الذي يُلحظ غيابي عن صلاة الجمعة. يستطيع أي من الاخوان المسلمين، أو من حزب الامة، أو من الاتحادي، أو من أي تنظيم آخر أن يغيب عن صلاة الجمعة، أما أنا فإن غيابي يستغل لتأكيد المروّج عند الناس من أن الشيوعيين كفرة، ملاحدة، لا يؤمنون بالله ويعتبرون الدين أفيون الشعوب!
ضحكنا معاً، ثم استدرك الشفيع مضيفاً: هذا لا يعني أنني أذهب الى صلاة الجمعة كضرب من التقية. أبداً أنا أذهب برغبتي وبإرادتي. فهي لحظة تأمل صوفية، ثم إنها فرصة للتلاقي مع الناس ولتبادل الحديث مع نماذج مختلفة من المواطنين، فضلاً عن أن السودانيين عموماً من المؤمنين ولا نستطيع أن نخاطبهم من خارج إيمانهم، ولا بفرض مفاهيم قد تكون مقبولة في بيئات اخرى غير بيئتنا. أنا، في خاتمة المطاف مواطن سوداني، عربي مسلم وأفريقي، وأعتز بانتماءاتي هذه جميعاً.
???
دار الفلك بالعرب، فأسقطوا عنهم العقائد والنضال من أجلها، وأراحوا أنفسهم من همّ الصراع الطبقي، ومن أثقال تحرير الارض والارادة، واستكانوا الى واقعهم الرديء… باليأس!
لم تقتل أنظمة القمع الانبياء والرسالات، فحسب، بل هي قتلت أساساً المناضلين المبشرين بالغد الأفضل، وبينهم بالتأكيد هذان المناضلان المتميزان: عبد الخالق محجوب والشفيع أحمد الشيخ.
… بل ها هي تقتل السودان تقسيماً وتفسيخاً وتشليعاً، بذريعة منع الاستعمار من العودة، في حين انها بمسلكها تشرّع الابواب جميعاً لعودة الهيمنة الاجنبية وليس على القرار السياسي وحده، بل على الشعب المنقسم على ذاته والارض الموزعة حسب الاعراق.
وأمر طيب أن تكرّم فاطمة ابراهيم، ولو من جهة عربية منفية خارج بلادها… فهو تكريم متأخر لمناضلي السودان عموماً وفي طليعتهم عبد الخالق محجوب والشفيع أحمد الشيخ ورفاقهما من أهل فاطمة ابراهيم.
تخريفات رمضانية
1 المتواضع.. بصمته!
لطالما آمن بالمصادفات كولادة لفرص الصيد … ولكنه غالبا ما كان ينتهي طريدة ، فيقسم على الانتقام في المصادفة التالية، وهكذا اقتحم على جارته في ذلك الحفل هدوءها مقدماً نفسه بكثير من الاعتداد بالذات… هزت رأسها وتمتمت: تشرفنا! ثم التفتت الى جارها الى اليسار لتسأله عن أمر يشغلها، فتطوع جار اليمين للاجابة، ثم استطرد فقال كلاماً كثيراً، لكي يستأثر باهتمامها..
بعد لحظات استأذنت وقامت الى طاولة اخرى… فانتقل الى كرسيها الذي بات الآن فارغاً، وفاجأ جاره الجديد بأحكامه: ألا تشاركني الرأي في أنها متعجرفة وأنها تتباهى بجمالها وأنها تدّعي ثقافة لا تملكها؟
وقام جاره الجديد وهو يهز رأسه، ثم قام ثان وثالث حتى وجد نفسه وحيداً على الطاولة يحادث نفسه فيقول: أغبياء! لا أحد يريد أن يسمع! كلهم يريدني جمهوراً. هذه مصيبة العرب.. فكيف سينتصرون!
???
2 هل نحن غيرنا؟!
حين دخلت المكان الفسيح كان مزدحماً بك. عبرت بالناس مصافحاً ووجهك يحتل صفحات وجوههم، وكلماتي تتعثر بينما تتسارع خطواتي نحو… وحين مددت يديك إليّ تكوّرت كأنني طفل ستأخذه أمه الى صدرها. سألتني فافتقدت الكلمات، واكتفيت بهزات من رأسي، لكنك قرأتِ عيني ففهمتِ، أما أنا فكنت سابحاً في مدارك، لاهياً عن كل من وما حولي. حتى لقد اضطررت الى هزي بعنف لكي أنتبه. وانتبهت الى أنك لستِ أنتِ. انتبهت ايضا الى أنني لست أنا.
.. وحين غادرت كان المكان الفسيح مزدحماً بالضحكات من خيبتي. وحتى هذه اللحظة ما زلت حائراً: هل أنت غيري أنا وهل أنا غير أنتِ؟! هل نحن غيرنا؟!
من أقوال نسمة
قال لي نسمة الذي لم تُعرف له مهنة إلا الحب:
يلومني حبيبي على صمتي. ينسى أنني أكلمه بعيني وبشعري وبلمسات يدي وبابتساماتي كما بعبوسي. ويفرحني أحياناً بأن يكتشف فجأة، أنني أثرثر أكثر مما يحتمل. الصمت لغة الحب ايضا.