عن المدينة التي كانت عاصمتنا الكلية: القاهرة
للعرب مدن كثيرة، بعضها فخم مترف، وبعضها ضخم مهمل، ولكنهم يفتقدون، منذ عقدين وأكثر، »عاصمتهم« الجامعة او »المركز« الذي إليه يتوجهون وفيه يتلاقون ومنه ينطلقون وقد توثقت روابطهم وتعززت بينهم صلات الود الشخصي والتناغم (او التضاد) الفكري والثقافي، وتقاربت الامزجة والرؤى والاذواق والمشاعر مؤكدة وحدة الانتماء ومن ثم وحدة المصير.
ولقد كانت القاهرة هي »العاصمة« بغير جدال او منافس… هي المركز وهي القلب.
على ان عاديات الزمان وخطايا السياسة قد »احرقت« القاهرة فحرمت العرب من عاصمتهم، كما منعت القاهرة من ممارسة دورها الذي لا تعوضه فيه مدينة عربية اخرى، لا كقيادة ولا كقدوة… ذلك ان القاهرة لم تصبح العاصمة لكونها الاكبر بعدد سكانها، (وهم يعادلون مجموع السكان في عشر »دول« عربية ممن نعرف وتعرفون)… فالحجم ليس وحده المؤهل الحاسم، وليس لأنها »عريقة« تجاوزت الالف من السنين عمراً، او بسبب من دورها التاريخي، فبغداد اقدم نسبيا وذات دور مشهود قبلها، أما دمشق فهي الاعرق بالمطلق… لكن القاهرة استقرت في الوجدان عاصمة للقرار السياسي، ومركزاً للإشعاع الثقافي وللنتاج الفني الخ.
وفي العين السياسية تختلف صورة »المدينة« عنها في بطاقات الترويج السياحي.
على هذا كانت قاهرة الخمسينيات والستينيات وحتى حرب العبور (تشرين الاول 1973) عاصمة القرار العربي بامتياز، وعاصمة الذوق العربي، وعاصمة الفن العربي.
لكن قاهرة ذلك الزمان كانت مختلفة جدا، فمركزها »منشية البكري«، في مصر الجديدة حيث منزل جمال عبد الناصر، والجامع الازهر وذكرياته وخطاب الصمود في مواجهة العدوان الثلاثي (سنة 1956) »سنقاتل«، و»برج القاهرة« باعتباره رمزاً لهزيمة المخابرات المركزية الاميركية، وحلوان بوصفها احدى قلاع الصناعة الثقيلة (الحديد والصلب)، هذا فضلا عن »شرفة التأميم« في المنشية بالاسكندرية التي من عليها اعلن عبد الناصر تأميم قناة السويس.
اما فندق »هيلتون النيل« وهو اول الفنادق ذات الادارة الاجنبية التي بنيت في مصر، فمرتبط بالقمة العربية الاولى التي اعادت تجميع العرب (بعد انفصال دولة الوحدة، وبعد انفجار الصراع على اليمن بعد ثورتها، وبعد انتصار ثورة الجزائر وعودتها الى عروبتها الخ)… وهي القمة التي فرض موعدها مباشرة اسرائيل تحويل روافد نهر الاردن، وبالتالي فإن قراراتها عموماً جاءت فلسطينية: فيها تم استيلاد منظمة التحرير، والقيادة العربية العليا تحقيقاً لمنطوق معاهدة الدفاع العربي المشترك، وكخطوة حاسمة على طريق توحيد الجيوش العربية وتزويدها الاسلحة الحديثة (الطائرات المقاتلة، الصواريخ، محطات الرادار) والخطط اللازمة لمواجهة الخطر الاسرائيلي المتعاظم.
بالمقابل كان فندق »شبرد« الذي يحمل ذكريات »حريق القاهرة«، قبل نصف قرن، وسميراميس الكلاسيكي كقصر امبراطوري، هما مربط الصحافيين، خصوصاً ان مقهى »نايت اند داي« كان يستمر مفتوحاً للنقاش والصراع الفكري والعراك الشخصي طوال الليل، في حين كان صالون كامل الشناوي وصحبه من متذوقي الظرف ينشر البهجة في الجوار كله، ويستولد الطرائف والقفشات ويطلقها موجات بيضاء تسري فوق صفحة النيل الى مختلف الارجاء.
كان للقاهرة ملامحها: للمثقفين من اهل الكلام »مقهى ريش«، وللفنانين من نحاتين ورسامين »بار الانجلو« عصراً و»التافيرنا« ليلاً… ومقاهي شارع عماد الدين لأهل الفن.
وكانت جريدة »الاهرام« المعقودة اللواء لمحمد حسنين هيكل »مركز المركز«، ففيها بداية مجمع الخالدين: توفيق الحكيم، لويس عوض، الحسين توزي، صلاح طاهر وصلاح عبد الصبور… ثم فيها تلك الكوكبة اللامعة من الكتاب الصحافيين الذين ما زال بعضهم حتى اليوم بين ابرز الكفاءات المهنية العربية.
وإذ كانت مجلة »روز اليوسف« وابنتها الصبية الرشيقة »صباح الخير« مجمعاً لنخبة كبيرة من المبدعين كتابة ورسماً وكاريكاتوراً، تحت قيادة إحسان عبد القدوس، وبينهم كامل زهيري وفتحي غانم وأبو العينين وصلاح جاهين وبهجت عثمان والليثي وحجي وحجازي الخ.. فإن »دار الهلال« بعدما تولاها الراحل احمد بهاء الدين كانت قد تحولت الى قلعة صحافية ثقافية عربية متميزة.
في هذه القاهرة كانت لنا، نحن الصحافيين العرب، حياة كاملة تكاد تفضل حياتنا في أقطارنا: نتلاقى على الامل بالتقدم والتطور وعلى الابداع، كتابة ورسماً، موسيقى وغناءً، تمثيلاً مسرحياً وسينمائياً، وعلى متعة الصحبة التي يوفرها لنا جيل من الزملاء الآتين الى العروبة بالوعي او بالرغبة او بالمصلحة في مسايرة النظام.
***
من منا تغير: القاهرة ام نحن روادها وعشاقها الذين كانوا يقدمونها على مدنهم وعلى مساقط رؤوسهم، باعتبارها »رأسنا« جميعاً؟!
في بعض الرحلات الاخيرة افتقدت »قاهرتي«… جلست الى شرفة غرفتي في الفندق وأخذت اتأمل هذه المدينة الهائلة، قبل أن أتخذ قراري: الى اين اتحرك، او بالاحرى من اقصد من اصدقاء العمر ورفاق الزمن الجميل الذي التهمته الهزيمة قبل العمر ومر السنين؟!
تقلصت القاهرة التي لا تكف عن التمدد والتضخم والتزايد عرضاً وطولاً وارتفاعاً، وعمقاً، حتى لا ننسى »مترو الأنفاق«، والتي التهمت أحياؤها الجديدة الصحراء… تقلصت هذه »القاهرة الكبرى« لعاشقها القديم حتى صارت غرفة في فندق هو أجمل في ذكرياته مما هو في واقعه.
جئت بالصحف جميعاً فضاقت علي الغرفة بصور التابعين وتصريحات محترفي الكلام التي لا تقدم معلومة ولا تفيد في معرفة، وكتابات الذين لا يعرفون أبجدية السياسة.
قلت في نفسي: سأخرج الآن الى الصحبة الذين ما زالوا يتذكرون! سنسترجع أيام الصبا، وننتشي بحكاياتنا التي صارت بعض التاريخ.
جاء اللقاء اوسع مما رغب او توقع.. وتبدى الزمن الماضي صريحاً الى حد الإيلام: بعضه على عكازين، وبعضه الآخر يتوكأ على ذكرياته، وثمة من تمرد فغطى صلعته بقبعة او بشعر مستعار، بل ثمة من لجأ الى الصباغ، والكل يحمل فوق صفحة وجهه نظارة مكبرة، أما في قلبه فما زالت تعيش آمال خضراء يحاول ان يغطي بها قحط صحراء المهانة التي يعيش فيها الجميع ارتعاشات ما قبل الوداع.
وعاد الى غرفته في الفندق يسقي فيها أملاً مبهماً بغد مختلف عن أيامه كما عن أحلامه.
استذكر ان هذا اللفيف من الاصدقاء، كتاباً وفنانين مبدعين، قد اعطوا عصارة أفكارهم وتجاربهم وخبراتهم، وأنهم اجتهدوا فأصابوا كثيراً وأخطأوا قليلاً، لكن »الحكم« عليهم جاء من خارج أعمالهم.
انتبه الى واقع مؤلم: ان الصحافة الحكومية او شبه الحكومية عاقر، بل هي أخطر لأنها تلتهم أبناءها.
وانتبه الى واقع آخر: ان القاهرة لم تعد »المركز« لا في السياسة ولا خاصة في الثقافة او في الفن، ولا حتى في »اللغة« او في الدين الحنيف، فالأزهر في احسن حالاته أحد مراكز التوجيه والدراسة وهو محكوم بموظف يعينه السلطان، والاجتهاد بلا باب ولا من يجتهدون فيصيبون او يخطئون ولكنهم يقاتلون ضد الجمود وحرفية النص الخانقة.
أين القاهرة؟!
واستذكر قصيدة الأسير لمحمود درويش، وهو ذلك الجندي الذي كان أسر في حرب 1973 ثم اطلق فلما دخل القاهرة لم يعرفها وانطلق يسأل ولا جواب: هل أنت مصر؟!
دون كيشوتة العرب قادمة: ليحم كل عصعصه!
أحلى روايات ليلى العثمان هي: ليلى العثمان!
لكأنها لا تعرف ان تعيش خارج الرواية، هذه المرأة التي كايدتها ظروف حياتها فخاضت التحدي وقررت ان تربحه مهما بلغت التضحيات، لتكون هي نفسها او ما تريده من حياتها… وقد كانت!
لا هي تعرف ان ترتاح، ولا تترك أحداً في محيطها يرتاح، وعلى سن قلمها دائماً مفاجأة سرعان ما يكملها لسانها، وقبل ان يفيق »القارئ« من دهشته يكون على »السامع« ان يتعلم السباحة في بحر مفاجآتها المفتوح على مغامرة التحدي الذي أبسط عناوينه ان تثبت ليلى العثمان أنها بألف رجل!
ولأن ليلى العثمان هزمت كل »خصومها«، بدءاً من البيت الى المجتمع، فقد انصرفت الى تأكيد الجدارة في مختلف أنواع الكتابة »الرجالية«: من تحدي التقاليد التي وضعوها قيوداً على »لغة« المرأة بحيث تلغيها ككاتبة، الى المواجهة المباشرة في المحكمة، الى القصة القصيرة الى الرواية، فضلاً عن إنجازها الاعظم في مجال الشفويات!
ليلى العثمان الكويتية حتى إشهار فلسطينيتها، اللبنانية حتى القحطانية عروبة، المصرية حتى حدود انطلاق الدعوة الفاطمية من المغرب، اليمنية المهاجرة في مواسم الهجرة الى الشمال حتى السودان: محاربة محترفة، فإن لم تجد من تقاتله قاتلت ذاتها… وهذه هي الحال الغالبة!
ليلى العثمان التي لا تسكت أبداً، والتي تستطيع أن تملأ مدينة بل مدناً بفرح كالشجن، تكتب كما تتنفس: لا تداري، لا تجامل، لا تخفي حقائق التخلف في مجتمعنا بذريعة التستر على العيب فينا، بل هي متخصصة في فضح العيوب، في المسلك الظاهر او في »التقاليد« التي يرفعونها من حولنا عموماً، ومن حول النساء خصوصاً، لتغدو جدراناً سميكة من الحديد لسجون تمنع عنا نور الشمس وتحبسنا بعيداً عن الغد.
لم يحدث أن كان دون كيشوت امرأة؟!
ها هي ليلى العثمان دون كيشوتة العرب الآتية من الكويت على فرس أصيلة، وقد كسرت في الطريق كل طواحين الكلام التي كثيراً ما كانت تمنع الكلام.
دون كيشوتة العرب تدور بسيفها من حولكم: ليحم كل عصعصه!
حكايات مبتورة..
لم يتسع لهما النوم، فنهض الليل من غفلته وقال: هيا اتبعاني.. وتبعاه وهو يغزل بهما الحكاية، حتى إذا أطل الصباح وجدا الناس يترنمون بالشعر ويرقصون في الشوارع.. أما الأولاد فكانوا يمشون فوق صفحة البحر وقد حملوا إليهما الورود التي تفتحت أكمامها في المساحة بين الغفلتين.
***
حين قررت عليه العقاب مدت ظلها فأخذ يخب في المدى المفتوح بين عيني الضياء، خائفاً من أن يحطم الارتطام أمنية القرب، أو أن يعشى بصره فيهوي الى لجة الضياع.
ومضى يقيس الغياب بالقمر، كلما اتسعت دائرة النور تكاملت فيه ملامحها حتى بات لها وجه الجرح.
***
نثرت نفسها فأصاب كل امرأة منها نصيب، فسكنت كل النساء، بينما ضاع الرجال وهم يحاولون إعادة تجميع فتافيت السحر في قصائد الغزل التي تعرف طريقها الى شفتي الراوية.
»لا امرأة خارج الشعر«، قالت وهي تصد الادعاء بأن »لا شعر خارج المرأة«. انتفخت أوداج الرجل الذي لم يعرف ما يكفي عن النساء وعن الشعر، فهز رأسه مقهوراً في قلب الصمت.
حاولت أن تصالحه فعادت إليه شارحة: الشعر غناء شجي لقلوب لا تعرف التوبة. يمد الشعراء أصابعهم النحيلة الى القمر يغمسون فيه أقلامهم فيكون الطرب.
لم يكن لديه ما يضيفه فأغرق نفسه في الضوء المغلف بالنعاس لقمر متعب بالقلوب اللائذة إليه بأحمالها الثقيلة والتي تأتي لتتعلم منه فن الكلام.
من أقوال نسمة
قال لي »نسمة« الذي لم تعرف له مهنة إلا الحب:
مع كل شمس أتعرف الى ملامح جديدة في وجه حبيبي. عرفت في البداية عينيه، وبعد ألف عام غافلته وهو ينظر غيري فنزهت عينيّ على صفحة خده حتى الشفتين، وهناك اتخذت سكناً.
الحب حاصل جمع نرجسيتين، فأنا في حبيبي إنما أحب نفسي.