إشهار الاستحالات في وجه التنمية الإنسانية العربية!
عند العاشرة تماما أقفلت أبواب القاعة الكبرى في جامعة الدول العربية بالقاهرة على الكلام الخطير، ربما لمنع تسربه وانتشاره أو ربما لإلزام المندوبين الدائمين الذين يعانون من وقر في آذانهم بسماعه ومن ثم إبلاغ »المعنيين« بدلالاته الخطيرة التي استدعت استنفارهم وحشدهم في هذا الاحتفال.
اعتلى المنصة الأمين العام للجامعة واعتلاها معه من تفرض المناسبة (والبروتوكول) تصدّرهم هذا الحفل المهيب لإشهار التقرير الخطير عن »حال التنمية الإنسانية في البلاد العربية«… وكان أخطر شهود الحال الآيتان القرآنيتان اللتان تعلوان منصة الرئاسة فلا تراهما! أولاهما تلك التي تحاول تذكير الناسين فلا يتذكرون: »كنتم خير أمة أُخرجت للناس«، والثانية تحض المتفرقين على التجمع ولا من يستمع: »واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا«.
باشرت السيدة الرصينة ذات الألقاب الكثيرة التي لا تحتاج اليها الدكتورة ريما خلف الهنيدي كلامها المتفجر، مجتهدة في أن تبقي نبرة صوتها هادئة لكي يسمع هؤلاء المندوبون الذين تعودوا أن يشغلهم الكلام الكثير عن الاستماع.
قالت ما مفاده أن التقرير يخلص الى ضرورة ان تتوفر البلدان العربية على إعادة تأسيس المجتمعات على ثلاث استحالات:
الاستحالة الأولى الاحترام القاطع للحقوق والحريات الإنسانية، باعتباره حجر الزاوية في بناء الحكم الصالح المحقق للتنمية الإنسانية.
الاستحالة الثانية تمكين المرأة العربية، عبر إتاحة جميع الفرص خاصة تلك الممكّنة من بناء القدرات البشرية للبنات والنساء على قدم المساواة مع أشقائهن الذكور!
أما الاستحالة الثالثة فتتصل بتكريس اكتساب المعرفة وتوظيفها بفعالية في بناء القدرات البشرية وفي جميع صنوف النشاط المجتمعي وصولاً الى تعظيم الرفاه الإنساني في المنطقة!
لم أقرأ أو أسمع جملة فيها كل هذا الكم من الأحلام مجتمعة: تعظيم الرفاه الإنساني!!
أما الأرقام الخطيرة والاستنتاجات الذكية والتنبيهات الملفوفة بالقطن حتى لا تجرح فتحرج الأمم المتحدة التي كفت يدها عن الشؤون السياسية ومطامح الشعوب، فقد حوّمت في الفضاء طويلاً قبل أن تضيع في ثنايا غبار الصيف في قاهرة المعز، ولعلها قد انتهت الى النيل لتزيد من »الطمي« الذي يخصب أرض »المحروسة«!
سنكتفي هنا بإشارات سريعة الى العناوين وبعض الأرقام الفضاحة:
محنة البيانات والإحصاءات حيث النقص حاد مما يلجئ من يطلبها الى بيانات دولية تعتمد تقديرات غير مؤكدة للتوصل الى مؤشرات.
قلة كفاءة الجهاز الحكومي (العربي) وضعف الروح العلمية في اتخاذ القرار.
نقص الحرية، النقض في تمكين المرأة من ممارسة دورها الطبيعي، نقص القدرات الإنسانية قياسا الى الدخل، وخصوصا القدرة المعرفية.
وبين النتائج أن العرب هم الأخيرون في متوسط قيمة مقياس الحرية، وكذلك في التمثيل والمساءلة، وبقياس مظاهر متنوعة للعملية السياسية والحريات المدنية والحقوق التنظيمية واستقلال الإعلام. وفي كل ما هو جانب حاسم من جوانب حرية الإنسان فإن الدول العربية عموماً تحتل المرتبة قبل الأخيرة، عالميا، وليس بعدها إلا أفريقيا جنوب الصحراء فقط.
أما الأمية المتفشية والمتزايدة كمعدل عام، فهي عند العرب أكثر ارتفاعا منها في مختلف دول آسيا وأميركا اللاتينية.
كذلك فإن معدلات الالتحاق بالتعليم، خصوصا التعليم العالي، تنخفض عن مثيلاتها في البلدان النامية.
وأما توفر العمل فأكثر ما يشغل بال من شاركوا في الاستطلاعات، ولذا فقد عبّر 51$ من الشباب الأكبر سناً عن رغبتهم في الهجرة.
بين الطرائف أن مجموع الكتب المترجمة الى اللغة العربية منذ عصر المأمون وحتى اليوم، لا يزيد على مئة ألف كتاب، وهو ما يوازي تقريبا ما تترجمه اسبانيا في عام واحد. وإن ما يترجَم سنويا الى العربية هو بحدود 330 كتابا وهو يوازي خمس ما تترجمه اليونان.
أما الفضيحة الأكبر فتتمثل في حجم الإنفاق على البحث العلمي في الوطن العربي، إذ هو بين أكثر المستويات انخفاضا في العالم، ولا يتعدى فعليا نسبة 14,0$ من ناتج الدخل القومي بينما هو في إسرائيل 53,2$ و9,2$ في اليابان و62,1$ في كوبا.
أما الناتج المحلي الإجمالي لكل البلدان العربية مجتمعة (أسطورة الغنى الفاحش) فلا يزيد على 2,531 بليون دولار، وهو أقل من الناتج المحلي لدولة أوروبية واحدة مثل اسبانيا.
* * *
لماذا هذا الاحتفال »الدولي« بإشهار تقرير لا يتضمن من حيث المبدأ إلا بديهيات يفترض أن تكون متاحة بل ومعممة ومطروحة للنقاش العلني في كل بلد عربي؟!
الى متى يبقى الرقم، أي رقم عن أي قطاع، في منزلة بين المنزلتين: إما سر حربي وإما كذبة رخيصة ومفضوحة؟!
ومتى الخروج من هذه الدوامة: الشعب يخاف الحاكم، والحاكم يخاف كل من حوله، الشعب لا يطمئن الى الدولة لأنها لا »تنتمي« إليه ولا »تغريه« بالانتماء إليها، الحاكم يزوّر الحقائق على الناس، والشعب يعرفه كاذبا ولكنه لخوفه يتظاهر بالتصديق، ولا تجيء لحظة الحقيقة إلا مع الانهيار أمام الاحتلال الإسرائيلي أو أمام الإرهاب الأميركي!
فلنتذكر من يطالب بالإصلاح والعدالة والقضاء على الفساد في السلطة الفلسطينية التي هي الممثل الشرعي والوحيد لأنظمة العجز العربية!
البحث عن القاهرة
دار ببصره من حوله يبحث عن القاهرة. الشوارع هي الشوارع، وفي نهاية الأفق المغبش طيف أهرامات الجيزة، ومن حول ضفتي النيل، والأبراج التي ارتفعت في قلب أحياء الفقر وعلى أطرافها إعلانا باختراق »أثرياء الانفتاح« كل القوانين والأعراف ومعدلات الربح المشروع، تكاد تحمل أسماء »النهّابين«، وتزاحم الفقراء الباحثين عن الرزق الحلال متصل في محطات المترو تحت الأرض، كما فوقها… والصحراء تُنبت المزيد من »المدن« و»الأحياء الجديدة«، بل ان جبل المقطم بات يحمل فوق ظهره مدنا عدة، بعضها لصغار الكسبة وبعضها الآخر لمتوسطي الدخل، أما القمة التي خلف ذلك كله فقد أخليت لناد فخم لمحدثي النعمة من رجال أعمال عهد ما بعد الاشتراكية و»قرف« القطاع العام وحكم العمال والفلاحين!
* * *
دار على قدميه يبحث عن القاهرة. الشوارع هي الشوارع في قلب هذه المدينة التي كانت عاصمة للكون، قبل عقود ثلاثة. الصحف، على اختلاف تلاوينها، تحتفي أو تحتفل أو تستذكر الثورة التي تظلل ذكراها الخمسين بلاداً تضاعف عدد سكانها ثلاثة أضعاف ونصف ضعف!
لم يعد للقاهرة قلب. تحولت الضواحي الى مدن بأسماء مستحدثة لا تاريخ لها ولا ذاكرة. رحل »الكبار« وهدمت الأمكنة التي حفظت أشعارهم ونوادرهم وحكايات حبهم ومناكفاتهم وممارسة المعارضة بالنكات واللطائف والإيماءات التي لا يفهمها المخبرون، أو يفهمونها و»يطنشون«.
حلّت كازينوهات القمار محل الأندية والمرابع الليلية التي وقف على مسارحها المشاهير من المبدعين، وتحولت »الأوبرا« الى كاراج للسيارات، وأقفل على المشهد الحسيني بمجموعة من الأبنية الكرتونية تحت زعم أنها تراثية وهي تسيء الى التراث وتشوه المشهد وإن لم تخفف سيل البشر المتزاحم في الطرقات الضيقة ذات العبق التاريخي الذي لم يعد يعني أحدا، والذي »يتبرع« الأدعياء لاستنقاذه فإذا هم ينزعون عنه قدسيته ويجعلونه مسخا: لا هو قديم فتُحترم تاريخيته، ولا هو حديث لافت بروعة هندسته التي حفظت روحه وان بدلت في »شكله«.
لا طرب ولا سمر… فالطرب خليجي، والغناء الأنثوي لبناني، والرقص للروسيات والأوكرانيات، وأشهر مطرب مصري »مكوجي« رديء الشكل والمضمون والكلمات والصوت، وقد حملته جملة »معارِضة« الى سماء الشهرة وهناك اكتشف حبه للنظام وأهله وانتظم في طابور النفاق الرخيص.
الصحافة في محنة. ظاهرها سياسي، صفحاتها عديدة، وإعلاناتها كثيرة، وكلها »تزعق« إما بنفاق الموالاة المضللة للحاكم وإما بالاعتراض على السلطة عبر التشهير بالمجتمع، عبر عناوين فاقعة عن المتاجرين بالجنس والمشعوذين والنصابين وناهبي المال العام من الصغار، أما »الكبار« فهم فوق النقد، لأنهم أصحاب سلطة أو أصحاب أرصدة، وبالتالي فهم مصدر الإعلان!
يكفي أن تتصفح بعض المطبوعات حتى يدهمك اليقين بأن مصر تعاني مرضا عضالا، وأنها غائبة عن ذاتها أو مغيبة تحت ركام الدين العام بثقليه الداخلي والخارجي، كما لبنان وأدهى…
لا يكتمل حديث ولا تتكامل مناقشة لأن الاختلاف صار مصدرا إضافيا لليأس، أو لخسارة الصديق. والعموميات دوامة تنتهي بك حيث بدأت، أي خارج السياسة.
تستذكر قصيدة محمود درويش عن الأسير الذي عاد من سيناء بعد سنتين أو ثلاث من نهاية حرب العبور فكان أول ما خطر بباله، وهو يشهد ما كان يجري فوق المسرح السياسي، أن يسأل بلاده: هل أنت مصر؟!
يتبدل اسم البلد، الآن، ولا يتبدل السؤال، ولا موقع العائد من الأسر أو الذاهب إليه.
حكايات مبتورة
ضاق الفندق بالمدعوين الى العرس الفخم بكل تفاصيله المبتذلة في تعبيرها عن الثراء الطارئ وغير المشروع، لأن أصحابه كانوا يتصرفون على طريقة: كاد المريب أن يقول خذوني!
هرب من الزفة الغائب عنها الفرح الى النيل حيث سقطت عليه النشوة من حيث لا يتوقع: توقفت سيارة وترجلت منها عروس بفستان الزفاف والطرحة، ولاقاها عريسها وسط »الزفة« التي تجمع فيها الأقارب والأصدقاء الفقراء.
وقف العروسان على الرصيف يحيط بهما الجمع الآخذ بالتزايد كل لحظة، فصوت الفرح يستدرج الناس إليه. رقص من يريد الرقص، وغنى من وجد صوته، ودارات كؤوس مرطبات تبرع ببعضها نفر من المارة الذين أحبوا أن يشاركوا في إحياء عرس الفقراء.
عندما عاد الى غرفته كان ممتلئاً بالنشوة، وضبط نفسه يردد أهزوجة سمعها في العرس لكنه لم يحفظ كل كلماتها… ووسط دهشته وجد نفسه ينهمك في إعادة صياغة »القصيد« الذي ذهب أصحابه الى العسل!
*
في الرحلة الثانية كان القمر مكسورا. تأمله وهو يحاول أن يجد الحوت الذي أكل نصف قمره. تأمل النيل الذي يواصل مسيرته الأبدية بلا ثرثرة، فلم يجد فوق صفحته أخيلة الوجوه التي يحب. قال في نفسه: العيب في النور. القاهرة معتمة، والحب محتجب مع الشطر الغائب من القمر المكسور.
جلس الى وحدته كئيباً يحاول استذكار الأمكنة التي تمنح الفرح للعابرين، وسمع صوتا يأتيه من البعيد فقام يتبعه، وظل يمشي حتى احتضنه النصف الغائب من القمر فأخذه الى النوم خارج الزمن.
من أقوال »نسمة«
قال لي »نسمة« الذي لم تُعرف له مهنة إلا الحب:
الحب مهذار، كأنما المحب يختزن حكايا عمره وأحلام غده في انتظار أن يلتقي من يستحق أن يطلعه على السر المخبوء وأن يمضي معه في رحلة التمنيات الى أقصى ما يتسع له مدى خياله، فإذا ما وجده فتح قلبه وانطلق يبني، بالرغبة التي وجد الآن شريكه فيها، البيت المسحور… حبيبي الآن في الدور الخمسين، يرفعني إليه، وقد علّمني الطيران.