هوامش
**
طلال سلمان
عن مؤتمر »الخطاة« العرب وحلم التطهّر بالاعتراف.. والدكتاتور الديموقراطي!
****
من فوق شرفة تطل على الزمان والرجال والأمكنة، أطلّ ثلاثة من »الفضوليين العرب« على قاعة المؤتمر التي ضاقت بالمتلاقين في أفياء »المؤتمر القومي العربي الثامن« المنعقد، للمرة الخامسة في بيروت (لتعذر البديل ولضيق مساحة التنفس في الأجواء العربية الفسيحة).
كان الثلاثة من أولئك الذين قصّروا عن أن يكونوا »قيادات« في مرحلة النهوض القومي، ثم رفضتهم أو أنهم رفضوا أو أنهم رفضوا العمل مع »القيادات الجديدة« التي جاءت مدعية أنها ستكمل الناموس، فتنقضه نقضا، ونبذت »أهله« بعدما صنفتهم من »أهل العهد البائد« أو من المعوِّقين للزحف المقدس.
أما الحشد في القاعة فكان خليطاً متنافراً من التجارب والانتماءات والولاءات والأحلام المكسورة والأعمار المهدورة وكذلك من التباهي بالإنجاز أو بمقاومة الانحراف أو بالثبات على المبدأ أو بالإحساس بالرضا عن النفس تحت شعار »أديت قسطك للعلى فنم«.
بين المحتشدين أو المؤتمرين من بقي على إيمانه الصوفي برموز المرحلة المضيئة في التاريخ الحديث لهذه الأمة، وهم قلة.
وبينهم مَن كان رجل العهدين أو رجل كل العهود في الماضي، مع الاستعداد لأن يكون رجل العهد الذي قد يأتي ولا يأتي.
بينهم مَن حافظ على نظافة كفه ولم يبدّل ولاءه لأنه لا يعرف كيف يبدّل، فهو قد بدأ وانتهى موظفا، لم يزعم يوما أنه مفكر أو صاحب قرار، بل هو منفذ جيد لأوامر »القيادة« أو »للتوجيه« من دون أن يسأل عن منطقه.
وبينهم مَن اجتهد وعمل بإخلاص فترك أثراً في الموقع الذي اختير له، ثم انتهى متقاعداً حسن السمعة لا يطلب من دنياه إلا حسن الختام.
بينهم مَن عاش عمره »قطرياً« لم يفكر بالقومية، ولم يجد نفسه مضطراً للمفاضلة بين الكيانية والأفكار الوحدوية.
وبينهم مَن كان حزبيا فناضل طويلا تحت راية مبادئ حزبه طلباً للسلطة أو للتغيير عبر السلطة، ثم خاب ظنه، أو خاب حزبه، أو جذبته السلطة فخان قضية التغيير واعتبر أن وصوله هو بذاته التغيير.
وبينهم المكابر الذي برغم الهزيمة الساحقة التي مُنيت بها تجربته الحزبية ما زال يفترض أن تراجع الاشتراكية مؤقت وهي إلى نهوض جديد ولو بعد حين.
بينهم مَن يرى نفسه وريثاً لجمال عبد الناصر ويرفض أن يشاركه غير هذا الميراث الثوري الثقيل.
وبينهم مَن يفترض أنه »الخليفة البديل«، وأنه قد قصّر عن تحقيق النصر لأن عبد الناصر كان طاغية أو لأن الجمهور كان مجرد قطيع، وفي الحالين لم تكن ثمة فرصة لبث الدعوة والسباحة ضد التيار العالي، خصوصا وأن »الجماهير وحش بلا رأس«، وبرغم أن الفرصة قد جاءت متأخرة فلا بد من الإفادة منها ورفع الصوت واستغلال كل مناسبة تتاح لتعويض ما فات.
* * *
قال الكهل الأول: ضجرت من الكلام. لكأنها طبول تقرع بلا ضابط إيقاع!
قال الكهل الثاني: أشتهي أن أسمع فكرة جديدة. كل ما أسمعه الآن سمعته مرارا من قبل، وربما بالكلمات نفسها. تصوروا، لقد بت أعتقد أن الكلمات تشيخ هي الأخرى، مثل قائليها.
قال الكهل الثالث: عندي فكرة جهنمية أخاف أن أطرحها فأتهم بتخريف المؤتمر.
هتف به زميلاه: قلها ولا تخف.
نظر إليهما الكهل الثالث بشيء من الوجل، ثم قال بلهجة مَن يكشف سر القنبلة الذرية: ماذا لو تبدلت صيغة المؤتمر برمتها. ماذا لو تحول إلى ما يسميه الأميركيون »ثنك تانك«، أو »مجمع تفكير«؟! تصوروا لو أقفلت الأبواب، وقرر كل من المؤتمرين أن يجري مراجعة نقدية لتجربته السياسية.
شهق الكهلان معا: ماذا؟! تريدها جلسات اعتراف؟! مَن لديه شجاعة الاعتراف؟ مَن يجرؤ قول الحقيقة؟!
قال الكهل الثالث بعناد: دعني أحلم وحاولوا أن تحلموا معي… لنتصور أن هؤلاء الرجال وعددهم في حدود مئتين، وهاته القلة من النسوة، قد نفضوا عنهم الخوف، وتخلوا عن حساسياتهم وقرروا أن يقولوا كل شيء! في القاعة رجال (ونساء) من المغرب وموريتانيا، من الجزائر وتونس وليبيا، من مصر والسودان وفلسطين، من سوريا والعراق (عرباً وأكراداً) والأردن (بدواً وحضراً) ومن قلب الجزيرة العربية وخليجها، من عمان ومن اليمن السعيد.
ماذا لو أن هؤلاء، وبينهم مَن كان حاكما أو قريبا من الحاكم أو معارضا للحاكم، قرروا أن »يعترفوا«، كما عند خوري الضيعة بالنسبة إلى الإخوان المسيحيين، أين أخطأ كل منهم ومع من وفي أية ظروف، وأن يتلوا فعل الندامة طلبا للصفح والمغفرة؟!
قال الكهل الأول بحماسة ظاهرة:
عظيم! إنها فكرة ممتازة! وهي ممتازة لهم أولاً، ثم للآخرين! فهي تريحهم من أثقالهم، أي من تراث تجاربهم الشخصية والحزبية والسلطوية التي لا يمكن مداراة فشلها،
قال الكهل الثالث بلهجة الحكيم: هي فكرة ممتازة فعلاً، تنعش المؤتمر القومي وتعطيه وظيفة ودورا. تحوله إلى وعاء أو حافظة للتجارب من الخبرات عبر الاعترافات التي يمكن استخلاص الدروس المفيدة منها.
عاد الكهل الثالث يتابع كلامه فقال: لقد أفسدت الممارسة الفكرة، أحيانا، أو أنها شوهتها، ولا بد من إسقاط الخطأ واستجلاء الصح وتحديده بوضوح ليمكننا أن نتابع أو أن يتابع أبناؤنا ما باشره الأولون، متحررين من أثقال السلطة وأخطاء الممارسة، مما يعيد إلى الفكرة بهاءها.
تنهّد الكهل الأول وهو يقول: السلطة مفسدة.
أضاف الكهل الثاني: والمال مفسدة.
قال الكهل الثالث: لا بد من فصل قاطع بين الأنظمة ورجالها الذين استخدموا الأفكار والشعارات والأماني جواز مرور أو عبور إلى السلطة، ثم طغوا وبغوا وعبثوا بالقيم والأفكار والشعارات جميعا.
لا بد من إدانة قاطعة للمسلك الانفصالي تحت راية الوحدة.
لا بد من انتهاء عصر الارتجال، ونحن في قلب عصر التخطيط والبرمجة.
لا بد من إعادة الاعتبار للعقل والعلم والرقم، وقد امتُهنت جميعا بأكثر مما يجوز.
قال الكهل الأول: ما أسهل أن يقف أي واحد من هؤلاء الآن لينتقد، ولو بصوت خافت، القمع والرقابة ومصادرة الأفكار والكتب والآراء وخلجات الصدور.
عاد الكهل الثالث يشرح فكرته: فليتحول المؤتمر إلى جلسات استماع. يدلي كل من أعضائه بتجربته، بمنحى مراجعة نقدية صارمة يتجاوز فيها ذاته، ويصار إلى المناقشة، وإسقاط كل ما هو ذاتي لتستخلص الدروس، ثم يعكف المؤتمرون على إعادة صوغ أو بالأحرى تطهير المبدأ من الممارسة وإعادة الاعتبار إليه أو تصحيح البرنامج التطبيقي، فالوحدة الاشتراكية أو العدالة لا يحققها الإرهاب، والحرية لا يحققها فرض النموذج الموحد، والديموقراطية لا يحققها ولا يجسدها القائد الفرد، كائنا مَن كان. لقد أخطأنا فشوّهنا المبادئ.. حاربنا الثقافة بحجة محو الأمية فإذا نحن أنصاف متعلمين، ومنعنا تفتح الألف زهرة فصارت بلادنا صحراء. حطمنا المستوى بذريعة توسيع دائرة المنتفعين فزاد الفقر ولم تصل الخدمات العامة إلى محتاجيها… تعطلت في الطريق!
نظر كل إلى الآخر، ثم قام الثلاثة ليحملوا الفكرة فيعرضونها على الدكتاتور الديموقراطي، الموصلي الوسيم الذي لا يرتاح ولا يريح، والذي يُتعب ولا يتعب، والذي ينام بعد الماء ويصحو قبل العصافير، والذي يفرض عليك طقوس الراهب في السياسة، هذا الأرستقراطي الشعبي المسكون بالهمّ القومي، والرجل المضاد لليأس: خير الدين حسيب.
بعد ذلك، لم يعد أحد منهم إلى القاعة ولم يعرف هل عرضت الفكرة فرفضت أم أجبن أصحابها فأحجموا!
خلسة المختلس!
***
كنت في وعيك الكامل، لذلك لا عذر لك في إضاعة التفاصيل أو ادعاء نسيانها.
في المعبر بين البابين، في ذلك البيت العتيق، كانت تقف بكل تقاليدها الغريبة في اللباس والتصرف والكلام: محجوبة الوجه، أو معظمه بمنديل مطرز، محجوبة الكفين بالحنة، محجوبة الجسد بثوب بدوي مطرز تجر أذياله خلفها، محجوبة المقاصد بالكلام الملفوف الذي يومئ ويوحي أكثر مما يقول.
تقول في روايتك: إنك فوجئت بها، تقف هناك كشبح للضمير… هل تعتقد أن هذا هو الوصف الصحيح؟
ارتبك قليلاً، تنحنح، وهمّ بالكلام ثم عدل عنه، فأضاف »صاحبه«: الضمير يواجهك ويقاضيك حيثما كنت، لا يحتاج لأن يعد لك »كمينا« في المعبر بين بابين.
قال بصوت واهن: لعلها رغبتها في مداراة كل ما يعنيها، وحجبه عن الآخرين.
رد »صاحبه«: ورغبتك؟!
أجفل كمن ضبط متلبساً وبالجرم المشهود: ما شأن رغبتي بمثل هذه المصادفة؟!
وهل تجزم أنها كانت مصادفة؟! وحتى لو كانت مصادفة، ألم تأت استجابة لرغبة دفينة في صدرك؟! ألم تكن تقرأ رغبتك في عينيها؟
خفض رأسه، ثم هزه مؤمنا على كلام »صديقه« وقال بلهجة مَن يعترف بما لا مجال لإنكاره: ربما! أظن ذلك… على أنني لم أدبر اللقاء ولم أطلبه وقد فوجئت به.. دعني أكمل روايتي. تمالكت نفسي بصعوبة، ودعوتها إلى الجلوس حيث نحن. بالمصادفة كانت غرفة جلوس، وكانت الأريكة الأقرب طويلة تتسع لأربعة أشخاص، طولاً، ولو أنها أقل عرضاً من أن تصلح سريراً. جلست على حافتها، وجلست عند الطرف الآخر. وباشرت كلاماً لم أفهمه تماما في البداية. قالت ان »الواجب« فرض عليها أن تأتي لتقله لي. كنت في قلب دهشتي، أحاول أن أتبين مطلبها الحقيقي المختفي خلف هذه الغابة من الكلمات التي يتردد فيها اسم الله كثيرا. خمنت أنها تريد وظيفة، أو قرضا حسنا، أو المساعدة على حل أزمة عائلية. كانت كل جملة تقولها تدفعني وراء تقدير سرعان ما تسقطه الجملة التالية. على أن حرجي كان يتزايد باستمرار حتى غدا قريبا من الخوف.
الخوف؟!
أجل.. فهي غريبة الأطوار، ولم يكن بمقدوري أن أتوقع فأتحسب للخطوة التالية. وبرغم يقظتي بل توجسي، فقد نجحت في أن تنفذ ما كانت ترغب فيه: في لحظة واحدة، وقبل أن أتمكن من ضبط الحركة، كانت شفتاها قد أحرقتا خدي بقبلة سريعة.
قالت: إنما أنفذ ما أُمرت به!
حاولت الاستيضاح، من قلب ارتباكي وإحساسي بالإثم، لكن الكلمات ظلت حبيسة حلقي، في حين أضافت وهي تحني رأسها بشيء من الخفر: عذراً فأنا مضطربة (ثم بلهجة عدائية) أظنك خائف مني، أو ربما من أهل بيتك!
أحسست برأسي قيلاً، وقدرت أنه بدأ الدوران حول ذاته، ومن عجب أنني تمنيت لو أستطيع أن أبادلها التحية بمثلها، ولعل خيالي قد ذهب بعيدا فأخذ يصورها لي بعد خلع كل ما تتستر به، وقبل أن تكتمل الصورة المتخيلة كانت قد انقضت عليّ بقبلتين سريعتين وحارقتين، ثم عبرت باب الخطيئة عائدة إلى صورة المتبتلة.
انسحبت من داخل عطرها الشعبي، ومع استعادة وعيي وجدتني أردد من الموشحات الأندلسية ذلك الذي يترنم ب»خلسة المختلس«،
… هل تتذكر المطلع؟! وهل تعرف »القفلة« أو »الخاتمة«؟!
انني أجهد نفسي فلا أتمكن من تخيل خاتمة لهذا الذي لم تكن له بداية، ولا يصلح لأن يكون بداية، ولا بد من التعامل معه كخاطرة في المنام، أو في المعبر بين بابين وقد أقفلا الآن على رشة العطر البلدي وحفيف الثوب الطويل و»هسيس« احتراق الخد بنار الشفتين الظامئتين إلى حد الالتهاب!
قصص مبتورة
**
} قالت: كلكم ذلك الرجل! في الفاصل بين موعدين تبحثون عن امرأة ثالثة!
ورد متباهيا: لا نبحث، بل نعطي فرصة للتي تبحث عن رجل!
وقامت مغضبة وهي تقول: لست رجلي الأول والأخير، ولست ولن أكون امرأتك الثالثة.
قال ساخرا: ما رأيك أن نقف معا على ناصية شارع الهوى، فالنقيض أفضل مروج لنقيضه!
* * *
قال متعجلاً: هلا رافقتني، ضاق بي الوقت عن موعدي، ولا بد من شيء من السرعة! تعرفين دقتي في المواعيد.
قالت بشيء من الغيظ: هيا أسرع، لن أكون سببا في تأخيرك، أنا التي حاولت جهدي أن أجعلك الأول في كل سباق. أنا موعد العمر، وأطلب من يتفرغ لي فيجيء على مهل ليبقى، ولا يتعجل فيحملني معه إلى غيري. وداعا أيها الذي يريد الحب محاصرا ومحصورا بين عقربي الساعة!
* * *
قالت: هلا احتفلنا؟ إنها سنتنا العاشرة!
قال: يختلف الحساب بيننا! كنت دائما تأتين بشهود على اللقاء، وقد أخذوا معهم الزمن والذكرى. كل ما لديّ رقم هاتف ملغى وسماعة خرساء وصورة تختفي فيها الملامح تحت نظارتين سوداوين وعريضتي الفتحات فلا يبيّن من الوجه إلا الفم الموسوم بابتسامة غامضة. مستعد فقط للاحتفال بالتعارف!
قالت بغير صوت: أسعدتني مصادفة لقاء الوداع!
من أقوال »نسمة«
***
قال لي »نسمة« الذي لم تُعرف له مهنة إلا الحب:
علمني حبيبي أن الغيرة تشوّه الجمال. قال إن الغيرة تعميني عن عيوبي وعن محاسنه. أتعرف كيف أكافح الغيرة؟! أقول لنفسي: يستحق حبيبي أن يحظى بالأجمل، فلأكن أنا الأجمل. هل تصدق أنني بدأت أراقب الحلي وأهتم برشاقتي، وأسعى لتخفيف وزني، وأنام ساعات كافية حتى أقابله وأنا بكامل عافيتي وأناقتي.
للمناسبة، ما رأيك بربطة العنق هذه؟! هل تليق بحبيبي غاب عني نصف نهار، وسيعود وهو أجمل منه في لحظة المغادرة؟!
قبل أن يكمل صديقي كلامه دخل الحبيب فلم يرني أحد وأنا أنسلّ خارجاً.