هوامش
****
طلال سلمان
الإنسان الذي قهر السجن والسلطة وصار حلماً و»زهرة«
****
عربياً، لم نعرف كثيراً من المسؤولين الذين يتمتعون بلقب او بنعمة »السابق«، فالقاعدة التي تحكم أهل السلطة في بلادنا العربية، عموماً، هي: الحكم او الموت… ولا فاصل بينهما إلا المسافة بين »السدة« وبين حائط الاعدام!
بين »سلطان السلاطين وخاقان البر والبحر ومعبود الملايين المفتدى بالروح والدم« وبين »العهد البائد«، رصاصة (غير طائشة) او مدفع دبابة او صاروخ تطلقه طائرة يقودها من يحسن التصويب.
احدى الحالات النادرة، والتي تكاد تكون »سابقة«، تتمثل في: المجاهد احمد بن بله، البطل المفجر لثورة التحرير الوطني في الجزائر، في الفاتح من نوفمبر (تشرين الثاني) 1954، والمختطَف مع رفاقه القياديين الاربعة من طرف الفرنسيين 1956 ليُطلَق سراحه بعد خمس سنوات، ثم ليُنتخب أول رئيس لأول حكومة في الجزائر المستقلة أيلول 1962، ثم أول رئيس لجمهوريتها الوليدة، قبل أن »يخلعه« انقلاب عسكري في 19 حزيران 1965 قاده رئيس أركانه العقيد هواري بومدين، الذي كان قائدا للقوة الأساسية لجيش التحرير المرابط في تونس، والذي دخل الجزائر مع اعلان استقلالها.
الحالة النادرة المعززة للحالة النادرة الأولى، أي بقاء »الرئيس« بن بله حيا، بعد 14 سنة من السجن (الوطني هذه المرة) هي: السيدة زهرة، التي اقتحمت عليه السجن بقرار واع وتزوجته في سجنه الذي لم تكن له نهاية معروفة.
ولقد شرفت، قبل أيام، باصطحاب هذا الثنائي الجميل من دمشق إلى بيروت، لكي يشارك »الرئيس« في ندوة »السفير« حول الصحافة والعرب والمستقبل…
في السيارة اتيح لي أن أتأمل هذين الصديقين الجميلين، وان اسمع من حوارهما ما لم يكن متاحاً لي خلال زيارتي لهما في »منفاهما« السويسري.
ليس للحب عمر. الحب هو العمر.
كان يسألني ليشرح لها من بعد المناطق التي نعبرها او نطل عليها خلال الطريق؛ ميسلون، جبل الشيخ، الجولان، بقايا القصر الصيفي لهشام بن عبد الملك، في عنجر.
سألني عن زحلة وهل نمر بها، فانحرفت بالسيارة نحوها بينما هو يتابع شرحه الثقافي عن سهل البقاع وعن زحلة التي صارت في تلك اللحظة »جارة الوادي«، مستحضرة معها أمير الشعراء شوقي وأمير الغناء محمد عبد الوهاب.
قلت: اعرف ان صوتك جميل، وانك تحفظ لعبد الوهاب بعض أغانيه القديمة وتجيد اداءها.
قال: كانت أغاني عبد الوهاب وأم كلثوم التي تصلنا عبر الاذاعات التي لم تكن قوية كفاية، قبل الثورة ثم في زمنها، كحبل السرة تشدنا إلى أهلنا وعروبتنا.
في المقهى شبه المقفل، وعلى خرير البردوني، وامام تمثال احمد شوقي الذي أقامه اهالي »جارة الوادي« تكريماً لمن جعل مدينتهم عاصمة للعشق وللشعر العربي، انطلق »سي أحمد« يشرح لحبيبة عمره ما غمض عليها من معاني كمثل »الغرق في الليلين شعرك والدجى«، او »جمع الزمان فكان يوم لقاك« او »لثمت كالصبح المنور فاك« الخ.
العاشق اعظم من الرئيس،
الحب ابهى من السلطة،
والحبيبة امرأة قهرت السجن، وضحّت من أجل حبيبها البطل بحريتها، وانحازت إليه هو الذي لا يعرفها في حين كان قد انفض من حوله الاصحاب ورفاق السلاح في ساحات النضال او في المعتقلات وسجون المستعمرين.
في لحظة حميمة، سألها برقة: اردت، بهذه اللفتة نحو جارة الوادي، أن اشركك بما يسعدني.
قالت بنبرة زهو: لقد اشركت نفسي في ما يسعدك او يحزنك منذ زمن طويل. سبع سنوات معك في سجنك. لولا شيء من التحفظ لقلت انني فرضت عليك نفسي، وكان قراراً واعياً، وكانت تلك ارادتي… فأين يمكنك ان تهرب مني وأنا إلى السجن تبعتك، وفيه تزوجتك!
الانسان اعظم من الحاكم.
ونادر بين الحكام من يستطيع ان يحفظ، مع السلطة، إنسانيته، مشاعره، قدرته على الحب، قدرته على مناغاة طفل وهدهدته حتى ينام ومعابثته حتى تتدفق ضحكاته فتملأ الأفق بهجة.
ترى هل يتبقى للحاكم قدرة على الحلم؟!
ما اغنى هذا الانسان الغزير الثقافة، الرقيق العاطفة، الواسع الأفق، والذي لا يكف عقله عن التفكير، ولا يكف عن تغذيته بكل ما تصل إليه يده من أسباب المعرفة وعلوم العصر.
الانسان هو البداية وهو النهاية.
ليست العقيدة أغلى منه، بل هي في خدمته…
واحمد بن بله الانسان، مسكون بهموم هذه الأمة: اوضاعها المتردية، قدرتها على الصمود، اهليتها في البقاء، جدارتها بأن تسهم في صناعة مصيرها بنفسها وفي أن تقتحم العصر بكفاءتها اضافة إلى حقها.
وهو مثقل بالهواجس: العولمة التي تفرض على الانسان نمطا حياتيا واحداً حتى ليغدو البشر وكأنهم مستنسخون عن النموذج الاوحد، مشكلات البيئة، ثورة الاتصالات والمواصلات واثرها على العلاقات الانسانية، مآسي الفقر، في العالم الثالث خصوصاً، والامراض السارية وانصراف الغرب الى معالجة أمراض الاغنياء وتسخير مراكز الابحاث لها، في حين لا يبدو معنيا بموت الملايين من البؤساء بأمراض لا يعنى احد بتوفير الادوية الشافية منها.
لا يتعب هذا المقاتل الذي تجاوز الثمانين من عمره.
قال ضاحكاً: لا تصدق جواز سفري، انه يذكر انني ولدت في العام 1918، من كان يعنى في تلك الأيام، وسط الجهل والبؤس والاضطهاد، بأن يسجل ابناءه، اظنني من مواليد 1916. أنا، في اي حال، من عمر »جمال«.
يلفظ الكلمة بمزيج من الحب والتقدير العالي. هو المثال. هو الصديق الوفي. هو البطل للابطال.
نشارف بيروت وهو يقوم بدور الدليل لزهراه.
ويتدفق الحب غزيراً: لكم يحبان لبنان واللبنانيين!
فكرت جديا، ذات يوم، ان اسكن في لبنان. ابنتنا المهدية لا تحب بلداً بقدر ما تحب لبنان. والله، ثق يا اخي، بأنكم شعب عظيم! انتم نموذج فذ في حب الحياة، وفي التعامل مع الحياة، في عشق الحرية، وأيضا انتم القدوة في الصمود وفي المقاومة. ثق، يا اخي، بأنكم اعدتم الاعتبار الى العروبة. هذا شعب ابطال والله.
في اليوم التالي، وبينما احمد بن بله يكرز فعل ايمانه بالعروبة، امام المحتشدين في ندوة »السفير«، كانت السيدة زهرة ضيفة شرف على نخبة من سيدات البقاع اللواتي عززن فيها الايمان بلبنان بتوصيف زوجها الحبيب احمد بن بله!
يقدس الحياة من حُرم ان يعيشها، ولذلك يناضل اكثر من اجل ان تكون في مستوى احلامه.
وهذا الحالم العظيم ما زال يناضل، بفكره وبجهده اليومي، بأسفاره، بمحاضراته، بأحاديثه، بالندوات التي يعقدها او يشارك فيها، لكي يكون للانسان العربي غد أفضل.
لقد قهر السلطة مرتين، فكاد يكتمل كأنسان،
وقهر السجن مراراً، فكاد يكتمل كمناضل.
احمد بن بله يكاد يكون، في واقعه، ابهى من حلم!
ما ابهى الرجل حلما… خصوصاً إذا ما زينته »زهرة«.
ليلة عناية عيداً!
****
… وكان لا بد للعيد من صوت جميل يغنيه فيُطرب أهله، يهدئ من توترهم، يغسل تعبهم، ويحملهم على جناحه الى نشوة الاحساس بإنسانيتهم في زمن الشظف والضيق وذبول الآمال العراض.
لم يكن الحفل الحميم بحاجة إلى بطاقات دعوة، ولا الى من يروجون، ولا كانت عناية جابر تبحث عن سماء لنجوميتها. الفرح لا يحتاج الى اعلان. انه ينبجس كينبوع، ويجري مترقرقا في الصدور التي يعرف مجراه فيها، يدغدغ ما ذبل من مشاعر الصبا، ويعيد إهاجة الذكريات الهاجعة والمنطوية على تباريح الغرام والصبابة ومساهرة القمر وملاغاة النجوم التي تنطبع فوقها صورة الحبيب الغافي او الغائب او الهاجر او الخائف من العذول.
أطلت علينا »الست«، عندما استحضرتها عناية جابر ببعض ما يسكن الوجدان من اغاني أم كلثوم القديمة والأقدم منها والموغلة في الطرب حتى ذروة التشهي.
وجاءت كوكبة من انغام الزمن الجميل تحف »بالست« تتقدمهم العظيمة ليلى مراد، والفريدة اسمهان، والصوت المظلوم عبد الغني السيد، والصوت الممتاز الذي لم يقدّر له كل ما يقدر ان يعطيه رجاء عبده… اما عبد الحليم حافظ فهو لم يغب لكي يعود، وان كانت الانثى في عناية قد اضفت عليه »عاطفية« ربيعية تصافي ولا تجافي الجمهور المتطلب المزيد.
لعلعت نغمات القصبجي والشيخ زكريا وعبد الوهاب ومحمد الموجي وجاء بيرم التونسي الى واحدة من السهرات التي يحب، بينما »السميعة« ينتقلون بين الآهات حتى الثمل.
اعجب لمن يغني مثل هذا النبل في الكلمات، ولمن ينوح ذائباً في العشق، كيف يبتعد بشعره عن هذا المناخ الذي يُنبت ألف ربيع وربيع في الصدور المغلقة على آلامها الذابلة؟
على ان عود جورج روفايل قد عوض غربة شعر عناية، فجذبها الى القصيدة الاصيلة التي بها يغني الحب ويغني المحبون.
… واكتمل عيدنا بليلة عناية التي لم يغلب فيها طرب الجمهور ارتباك هذه التي تأبى ان تهجر الحب فتطلقه آهات من الشجن كلما تيسر لها ان تغني لغيرها، او لذاتها في غيرها.
قصص مبتورة… عن الثرثرة!
****
سمعت صديقا يقول لامرأة اضجرته ثرثرتها: تخسرينني حبيباً محتملاً، وتفضلينني مستمعاً يضيق صدره بفراغك!
وسمعت صديقا آخر يلعن ساعة تورطه في الجلوس الى جانب زوجة صديق له »لا تعرف كيف تصمت ولا نعرف كيف نطفيها«، ويقول: لسانها اطول منها! لم يتسن لي ان أرى من وجهها إلا فمها المفتوح لذلك الحبل من مسد الذي لا يتوقف عن الحركة!
والتقيت رجلاً غاضباً يصرخ بلا سبب، وحين لمحني بادرني بالقول:
أنا بخير، لا تخف… انما اريد ان امتحن سلامة اذني. لقد جعلتني بثرثرتها اشعر بأنني أصم هنا، الآن، اكتشفت ان النساء يذهبن بعقول الرجال وليس فقط بأسماعهم!
وسمعت امرأة تقول لواحد من الرجال: هل اصاب اذنك وقر فلا تسمعني؟
ورد الرجل بسرعة ومن خلال تنهيدة: لكم تمنيت ذلك!
وفي مناسبة اخرى، ووسط عاصفة كلام السيدة التي لا تهدأ، سمعت رجلاً يتسلل بجملة وحيدة، قال فيها: سيدتي، أنتِ في الصورة أجمل من حقيقتك!
انتفضت غاضبة وهي تسأله: وكيف ذلك؟!
قال بهدوء: في الصورة استطعت ان أرى وجهك كله! للمناسبة، فمك جميل وشفتاك مضمومتان على جملة لم تقوليها بعد!
من أقوال »نسمة«
***
قال لي »نسمة« الذي لم تُعرف له مهنة إلا الحب:
يحيرني أمر حبيبي، فيه يجتمع الأب والأم والصديق والرفيق، المثال والنزوة، الحلم والرغبة، الورد والنحل ولسع النحلة. ملامحه عادية، اعرف، ولكن من قال ان الحب يتقيد بمواصفات ملكات الجمال او ملوك جمال الانسان.
الحب في قلبي، وقلبي في عيني، وعيني على حلمي، وحلمي على صورته.