انشغلنا عن شاشة التلفزيون بالحديث عن أمور صغيرة وإن مسلية حتى تدخل أحدنا داعيا إيانا الانتباه إلى الشاشة. راح يعتذر ويبرر مقاطعته بأنه شاهد على التلفزيون الذي تركناه صامتا ما أثار عند زميلنا قلقا وغضبا وانزعاجا ولهفا، مشاعر شتى تسببت فيها صور تشابهت فيها الأحداث واختلفت الوجوه. بشر يركضون وراء قنابل غاز مشتعلة لالتقاطها وإعادتها إلى من أرسلوها، وبشر يحملون لافتات تسجل مطالب وتفضح ممارسات وتكشف تقصيرا وتوجه إنذارات وتعمم اتهامات وتذكر بوعود وحقوق. وبشر يسقطون ومن جراحهم يقطر الدم وبشر يتناوبون حمل الجرحى إلى عربات إسعاف تقف عند مداخل طرق فرعية. البشر في صور يختلفون عن البشر في صور أخرى. تراهم في صور سمر البشرة الرجال منهم في ملابس بيضاء ناصعة والنساء في ألوان زاهية وقد أخفين الشعر ثم تراهم في الخبر التالي وقد أبيضت وجوههم وانسدل شعرهم رجالا ونساء وارتدوا جميعا فوق ملابسهم سترات صفراء. رأيناهم، أي البشر، في نبأ ثالث يهرولون، أو لعلهم يرقصون غضبا وصراخا أو سعداء بما يفعلون، هؤلاء بشر أشد سمرة وأصغر عمرا من كل البشر الذين رأينا صورا لهم على امتداد نشرة إخبارية في قناة غربية تبث أخبارها باستفاضة. قال زميلنا الذي سبقنا إلى مشاهدة نشرات سابقة أنه أحصى ما لا يقل عن سبعة تقارير في كل نشرة تصور بشرا غاضبين والشرطة تطاردهم.
أقنعنا بضرورة الانضمام إليه. وبالفعل حصلنا على نصيبنا من المشاهدة وفي طياتها مادة مثيرة للحوار. ألقينا وراء ظهورنا بالأمور الصغيرة التي قضينا الدقائق الأولي من أمسيتنا نلتهي بها ونتسلى وانتقلنا من المشاهدة متحمسين إلى مقاعدنا على مائدة الحوار لنناقش ما اجتمعنا على أهميته وتفرقنا على تعريفه. أنحن بصدد غضب عارم كظاهرة عالمية، أم هو قلق كاسح لم نشهد له مثيلا، أهو تدفق أحداث بوحي أحداث الربيع العربي أم هو الربيع نفسه يتعولم، أم بحكم قراءتنا للتاريخ نحن نعيش حالة بدايات ثورة عابرة للحدود، ثورة البشر بعد أن تردت أحوالهم إلى ما تحت المحتمل وقبل أن يصبح وجودهم في عصر الذكاء الصناعي غير مفيد وغير لازم وغير ضروري.
قال أحدنا، الغريب في الأمر يا أصدقائي هو أن هذه البشرية الغاضبة والمستاءة من أوضاعها هي نفسها التي حققت معجزة إخراج مئات الملايين من الصينيين والهنود من دائرة الفقر المدقع. الغريب أيضا هو أن معظم مظاهر الغضب أو لعله القلق رأيناها في دول الغرب. لا شك أن الأزمة الاقتصادية العالمية التي ضربت دول الغرب أولا خلفت أزمات ثقة في كافة المجالات. نذكر كيف اجتمعت التهديدات الإرهابية مع الهجرة غير الشرعية مع تراجع نسب النمو مع مشكلات وتعقيدات استيعاب الاتحاد الأوروبي لدول شرق ووسط أوروبا مع إغراق الصين لأسواق الغرب بسلع زهيدة الثمن.
قال آخر. أتصور أننا لو أخذنا بهذا النهج في الجهد الذي نبذله لفهم حالة القلق السائدة بين مختلف البشر فلن نصل إلى ما نريد. أقترح أن نركز جهدنا على الإنسان الفرد. هذا الإنسان الذي بلغ مستواه المادي حدا لم يحلم ببلوغه أجداده، هو نفسه الإنسان الذي لا يفتأ يشكو. إذا كان غنيا فشكواه مستمرة من تعقيدات الاستثمار وقوانين العمل وإذا كان فقيرا فشكواه لا تتوقف من الأسعار وضيق ذات اليد وندرة فرص العمل وإذا كان من متوسطي الدخل فشكواه من القيود على الحريات ومن كل شيء آخر، شكوى لا تهدأ.
قال ثالث، “ولكن هذا هو حال الإنسان الفرد في كل عصر. هذا الفرد كان يشكو ولكنه لم يكن قلقا كإنسان اليوم. إنسان اليوم والقلق لا يفترقان. وأظنني أرجح سببا بعينه. هذا الإنسان الجديد يفتقر إلى الحنان. أنا وكل فرد في هذه القاعة لم يعد يحصل على حصته من الحنان كاملة. طبعا لا أقصد أن كلا منكم يعاني بالضرورة من قلق دائم أو متقطع، وإن كنت أميل إلى أننا جميعا مرضى بنقص حنان. بعضنا بقلق مزمن وبعض آخر بقلق موسمي. أظن أن الزميلة الجالسة في مواجهتي توافقني الرأي، أو هكذا تبينت من نظراتها”.
قالت، بعد لحظة صمت، “أحسنت الصياغة أيها الزميل. أريد فقط قبل أن أسترسل أن أضيف إلى ما قاله الزميل عن أنواع القلق ومنه كما قال الدائم والمتقطع ومنه المزمن والموسمي. منه أيضا، وهذا هو ما أردت إضافته، القلق الخبيث والقلق الطيب. أتصور كما تتصورون ولا شك أن أسباب زيادة القلق وانتشاره عديدة. منها كما ذكر الزملاء الهجرة فأهم دوافعها قلق ومسيرتها قلق ونهايتها أيضا قلق. منها أيضا الزيادة المطردة في عدد غير المشتغلين سواء بسبب إحالتهم إلى الاستيداع أو تقاعدهم أو بسبب البطالة والاستغناء أمام زحف التكنولوجيا، وبخاصة التكنولوجيا المبيدة للوظائف. لكن دعوني انتقي السبب الذي يتحمل، في نظري، أكبر قسط من مسؤولية القلق المنتشر في كل أرجاء العالم. السبب هو أن البشرية تعيش عصرا تراجعت فيه معظم المؤسسات المانحة للحنان عن أداء دورها الرائع في تنشئة البشر وتنمية قدراتهم وترشيد نضوجهم ورعايتهم في كهولتهم.
تعلمون أن حنان الأم كان وسيبقى أعلى أنواع الحنان. وها أنا أم آن لي أن أعترف أمامكم أنني صرت أقصر في ممارسة هذه الوظيفة الرائعة مع أولادي. أنا وكثير من الأمهات خرجنا للعمل حيث لا حنان هناك وتركنا البيت بدون حنان. هنا عجز في الحنان وهناك عجز ومن نقص حناني، ما أستحق منه وما أمنح، صرت أنا نفسي أعاني من آلام عاطفية لن أشرحها في العلن. أنا أعيش في قلق وعائلتي ظهرت على كافة أفرادها أعراض أمراض ناتجة عن القلق، بعضها يهدد الآن وحدتنا وصحتنا العائلية.
تدخلت مؤيدا وضربت المثل بتجاربي وأنا تلميذ صغير مع معلمي المدرسة الابتدائية. عشت فترة غير قصيرة من عمري أتذكر المعلمة التي مهدت طريق صعودي من روضة الأطفال إلى الصف الثاني من المدرسة الابتدائية متجاوزا عامين دراسيين. بقيت أذكر أشياء عديدة عن علاقة هذه المعلمة بتلميذها، وأخص بالذكر حزمها المطعم بلفتات حنان فريد في نوعه وتأثيره. أذكر أيضا معلما للرسم أعتقد أنه سبب اقتناعي أن وراء كل مبدع شخصا حنونا. لا أتخيل نفسي أطالب معلما أن ينشر الحنان في فصل يكتظ بمائة تلميذ أو ما يزيد، أو أنتظر من تلميذ في هذا الفصل أن ينشأ حنونا محبا. أحدكم ألقي بمسؤولية الإصابة بالقلق على أمهات تخلين بعض الوقت عن أداء وظيفة الأمومة وخرجن ليعملن ويعولن أو حتى ليصعدن سلم المجتمع، آخرون ألقوا بالمسؤولية على الكثافة السكانية وازدحام الفصول الدراسية. نسينا حقيقة أن الدول في كافة أنحاء العالم باستثناء دولتين أو ثلاث في أقصى شمال أوروبا صارت ترفض أداء أدوار الرعاية لمواطنيها. لا جدال في أن ما نشهده من مظاهر تمرد أو عناد وقلق يحدث نتيجة أن العلاقة بين الإنسان والدولة صارت تخلو من عنصر الرعاية، أي من الحنان. علمتني التجارب أن القسوة في البيت أو في المدرسة أو في المجتمع لا تبني المواطن السوي، إنما يبنيه الحب والحنان.
تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق