غزة ـ حلمي موسى
ندخل اليوم في الأسبوع الثاني عشر للحرب، ونحن دائما على أمل تحقيق النصر وانكسار العدوان.
يقرّ الاسرائيليون بأن هذه الحرب هي الأطول في تاريخهم بعد ما يسمّونه بـ “حرب الاستقلال”، وهي حرب 1948 عندما بدأت عملية التطهير العرقي الأكبر، وتهجير شعب من أرضه، وفرض النكبة.
وبالطبع، تختلف تلك الحرب جذريا عن الحرب الدائرة حاليا من نواح كثيرة. ووجه الاختلاف الأول يكمن في أن من خاض حرب 1948 كانت قوات يهودية منظمة ومدربة ومجهزة وعصرية في مواجهة قوات عربية أقلّ ما يقال فيها أنها غير منظمة وغير مجهزة. كما أن تلك الحرب خيضت بقيادات عربية متنوعة تتصارع في ما بينها. أمّا الحرب الدائرة الآن، فهي بين جيش عالي التسليح والتدريب ويحظى بدعم غير محدود من أقوى دولة في العالم، في مواجهة قوات فلسطينية واعية، عمدت إلى استغلال هواء الأرض ومائها وحجارة البلاد وترابها لتصنع منها أشد الأسلحة فتكا بأيدينا. وكان الفارق الجوهري هذه المرة هو العزيمة والشجاعة من جانب مقاتلي المقاومة، والدمار والنار من جانب قوات الاحتلال.
وبرغم شدة النار واتساع الدمار، واصلت المقاومة قتالها مسطّرة واحدة من الملاحم التي سيسجلها التاريخ عن قوة عزيمة شعب ومقاومته في وجه احتلال غاشم متوحش لا يعرف حدودا للبشاعة.
وقد وقفت “الأسرة الدولية” عاجزة أمام العدو بفعل الرعاية الاميركية الكاملة للعدوان وتغطيته، وكان إن أقصى ما أفلحت الأمم المتحدة في التوصل إليه هو ذلك القرار الهزيل الذي يكاد يساوي بين الجلاد وبين الضحية.
ولكن، وعلى الرغم من فشل الأسرة الدولية في استصدار قرار بوقف تام لإطلاق النار، إلّا أن ما يجري على الأرض يقربنا من ذلك. فهناك الاتصالات الجارية لعملية تبادل الأسرى، والتي أصرّت المقاومة، محقة، بربطها بشرط وقف النار قبل بدء أي محادثات. ومن جهة ثانية، هناك المطالبات الداخلية الإسرائيلية المتزايدة بوقف النار لتسهيل عملية التبادل. وهناك، من جهة ثالثة، حاجة الاقتصاد والمجتمع الإسرائيليين لوقف النار لتقليص الخسائر الفادحة التي ألحقتها الحرب بإسرائيل اقتصاديا وبشريا ومعنويا.
فطول مدة الحرب أثار لدى الاسرائيليين أسئلة كثيرة عن مدى عجز جيشهم عن حسم الحرب في مواجهة غزة وحدها، فكيف أذا كانت الحرب ضد غزة ولبنان ودول عربية أخرى. ومن الواضح أن مجريات الحرب لم تعزز ثقة الإسرائيليين بأنفسهم، ولم تزد من جاذبية إسرائيل لدى يهود العالم. بل ربما أن العكس هو الصحيح، خصوصا وأن يهود العالم، لاسيّما في الولايات المتّحدة، باتوا يجدون أن لديهم مصلحة في تمييز أنفسهم عن إسرائيل.
إلى ذلك، تشهد اتصالات تبادل الأسرى محاولات إسرائيلية مختلفة لتشجيع المقاومة على تغيير موقفها. فمن جهة، تراجعت اسرائيل عن مقياس يوم هدنة مقابل الإفراج عن كل عشرة إسرائيليين، وصارت تتحدث عن هدنة مدّتها أسبوعين مقابل ما بين ١٧ الى ٤٠ أسيرا. كما أنها تراجعت عن مبدأ ثلاثة معتقلين فلسطينيين مقابل كل مخطوف اسرائيلي. وأدخلت تعديلات على مبدأ انها من يحدد الأسرى الفلسطينيين الذين تفرج عنهم، وصارت تبدي استعدادا للإفراج عن أسماء تطلبها المقاومة حتى لو كانت “أياديها ملطخة بدماء الإسرائيليين”.
هذه التراجعات كلّها في الموقف الاسرائيلي تترافق مع تلميحات باستعداد لزيادة أيام الهدنة أكثر من أسبوعين. بل وحتى أن إسرائيل ألمحت للوسطاء باستعدادها لسحب قواتها من مناطق معينة في إطار زيادة الاغراءات لتسهيل عملية تبادل.
ومعروف أن حكومة نتنياهو تواجه ضغوطا معنوية شديدة بشأن المحتجزين بعد قتل الجيش الاسرائيلي لثلاثة منهم.
وبرغم استمرار نتنياهو ووزير دفاعه غالانت في الحديث عن مواصلة الحرب حتى تحقيق أهدافها، إلا أن عددا متزايدا من الأطراف المختلفة في الكيان بات يرى أن استمرار الحرب لا يخدم أي أغراض جوهرية، وإنما يخدم استمرار نتنياهو و”الليكود” في الحكم.
وبات ذلك يتردد في أوساط كابينت الحرب الذي يضم الى جانب الليكود “المعسكر الرسمي” أي غانتس وآيزنكوت. وقد بدأ غانتس بالتفكير في مغادرة الحكومة ما دفع نتنياهو الى توثيق العلاقة مع شريك غانتس في المعسكر الرسمي، زعيم كتلة “أمل جديد” جدعون ساعر.
فإبقاء ساعر في الحكومة، وشق المعسكر الرسمي، يسمح لنتنياهو والليكود باستقرار الحكومة لفترة أطول. وقد زاد ذلك من حدة الحملات في الأعلام الإسرائيلي على نتنياهو. حتّى أن الإعلام ركّز بقوة على تصريحات رئيس الحكومة الأسبق ايهود أولمرت عن وجوب إنهاء الحرب وإسقاط حكم نتنياهو بوصفهما أولوية قصوى.
ويؤمن الكثير من المعلقين السياسيين والعسكريين أن ما عجز الجيش الإسرائيلي عن تحقيقه في 77 يوما، لن يستطيع تحقيقه في أسبوع أو خلال الأسابيع القليلة المقبلة.
ولذلك، لم يكن من باب الصدفة أن يشرع الجيش الاسرائيلي بتجهيز نفسه لمرحلة جديدة. وبات يكثر من الإعلان عن سيطرته العملياتية وقرب إنهاء عملياته في مناطق عدة في شمالي غزة، كما صار يكثر من الحديث عن قرب إنهاء عملياته في خانيونس. ومع ذلك، فإنه يطلق التهديدات ضد المخيمات الوسطى في البريج والمغازي والنصيرات، فضلا عن تلميحاته بخصوص رفح.
لكن التهديدات والتلميحات تلك كلّها لا تخفي ميلا الى النزول عن شجرة الحرب مع الإعلان عن تفكيك قدرات “حماس” العسكرية والسلطوية، على الرغم من استمرار المقاومة. العدو يريد أن يترك لنفسه الحق في استمرار عملياته الخاصة ضد المقاومة في غزة التي ستبقى قي نظره منطقة مأزومة، يتعين على العالم إيجاد حلول لها إنّما ليس على حساب الأمن الإسرائيلي.