تزعم مواقع إلكترونية أن عبد السلام النابلسي ولد سنة 1913 وتوفي في 5 تموز/يوليو 1968. أي أنه عاش 55 سنة فقط. بل ويذكر موقع أنه تزوج وهو في الستين من عمره! يعني بعد وفاته بخمس سنوات! الصحيح في كل هذه المعلومات هو تاريخ وفاته فقط. والصواب أنه ولد في 23 آب/أغسطس 1899.
وثمة خطأ فادح آخر قرأته في إحدى الصحف. ذكر كاتب المقال أن عبد السلام النابلسي عايش ثورة 1919 في القاهرة وأنه تأثر بالأغاني الوطنية السياسية التي كان ينشدها يوسف وهبي ونجيب الريحاني وحسن فايق واسماعيل يس! الطريف أن اسماعيل يس كان وقتها في السابعة من عمره! فهو من مواليد 1912. وكان مقيما في مدينة السويس ولم يزر القاهرة إلا في عقد الثلاثينيات!
والحق أن الفنان الكوميدي القدير كان يخفي عمره ويتهرب من الإجابة على السؤال بشأنه. كما أنه أخفى مرضه، ولعله كان يخشى أن يتجنّبه منتجو الأفلام. وقبل وفاته بنحو سنة، كان ضيفاً على المذيعة التلفزيونية ليلى رستم في برنامج “نجوم على الأرض”. وأثناء الحديث أضطر إلى أن يتناول حبة دواء أمام الكاميرا ولكي يبدد دهشة المذيعة بادر بالقول إنه يعاني من ألم خفيف في المعدة!
هو من مواليد قضاء عكار شمال لبنان، وعائلته كما يدلّ عليها اسمها تنحدر من نابلس في فلسطين. وما يجعلني أميل إلى تصديق نبأ مولده في 1899 أن اسمه برز سنة 1925 كمحرر فني في عدد من الصحف المصرية منها “الصباح” و”اللطائف المصوّرة” و”مصر الجديدة”. ولا يعقل أن يكون الصحافي المحترف في الثانية عشرة من عمره!
وبعد نحو 40 عاما من الإقامة في القاهرة، ترك بيته وسافر إلى بيروت. وكان خلافه مع مصلحة الضرائب سبب هذه الهجرة القسرية سنة 1962. وخلال ستة أعوام شارك في 17 فيلما لبنانيا إلى جانب صباح وسميرة توفيق ونجاح سلام وفهد بلان. ورغم النجاح الذي حققه أصيب بصدمة قوية إذ خسر مدخراته كلها لدى انهيار بنك انترا سنة 1966 وهو كان اشترى أسهماً في المصرف والحكومة عوّضت خسائر المودعين فقط، واعتبرت حملة الأسهم بمثابة مالكي المصرف. وترك ذلك أثرا نفسيا سيئا، بل وصحيّاُ أيضا.
قابلت عبد السلام النابلسي أول مرة في شقته الأنيقة في عمارة يعقوبيان في حيّ الروشة في بيروت سنة 1967. كان يعيش مع زوجته جورجيت سبات التي كانت تصغره بنحو 45 عاما، لكنها أحبته وجعلته يطلق العزوبية وتزوجت منه سنة 1963. (توفيت العام الماضي 2018).
قصدته لإجراء مقابلة صحافية. أخذت أدوّن إجاباته في دفتر. لم يكن عصر التكنولوجيا قد بدأ. كل ما كنت أعرفه عنه أنه ممثل كوميدي ابتكر شخصية خاصة به وأجاد تصويرها في العديد من الأفلام التي شارك فيها. لكني تفاجأت بأنه يجيد اللغة العربية، والفرنسية أيضا، وأنه يقرأ كتب الأدب والتراث، ويكتب خواطر شعرية. أخبرني أن والده أرسله في مطلع العشرينات إلى القاهرة ليدرس الأدب العربي والتراث الإسلامي في جامعة الأزهر. وأعطاه بطاقة توصية إلى خليل مطران الشاعر اللبناني المقيم في مصر.
حين التقى عبد السلام النابلسي بشاعر القطرين أخبره أنه سيدرس الأدب والتراث لكنه يهوى المسرح والتمثيل ورجاه أن يقدمه إلى نجم المسرح آنذاك جورج أبيض. وأمام المسرحي الكبير أثبت عبد السلام النابلسي أن مخارج حروفه سليمة وأنه متمكن من تشكيل الحروف فأسند إليه جورج أبيض دورا في المسرحية التالية “يوليوس قيصر” وكانت تراجيديا وباللغة العربية الفصحى.
في ليلة العرض الأولى كان جورج أبيض لا يزال في الكواليس حين حدثت المفاجأة. ما إن دخل عبد السلام النابلسي خشبة المسرح ومشى الخطوات الأولى حتى ضحك الجمهور. وما إن نطق العبارات الأولى من دوره حتى تعالت القهقهات. وأسقط في يده، فالدور تراجيدي! وحين عاد إلى الكواليس استقبله جورج أبيض بغضب شديد وقال له نحن مسرح جاد ولا نهرّج في التراجيديا. أقسم الممثل الشاب أنه تقيّد بتعليمات المخرج، وهو شخصيا مستاء من ضحك الجمهور. وفي المشهد التالي كان الاثنان معاً على الخشبة. ومجددا قهقه الجمهور حين فتح عبد السلام فمه علماً بأنه لم يتعمّد التهريج. وحين رجعا إلى الكواليس قال له جورج أبيض: يا ولدي دعك من التراجيديا.. أنت لا تصلح إلا للكوميديا وسيكون لك فيها شأن!
لم تُفتَح أبواب المسارح أمام عبد السلام النابلسي فاشتغل بالصحافة. وتعرّف على “الشوام” الذين كانوا يعملون في الفن. وبدأ نشاطه في السينما الصامتة سنة 1929. قدمته آسيا داغر إلى وداد عرفي المخرج التركي المقيم في القاهرة فأسند إليه دوراً في فيلم “غادة الصحراء”. وأشركه المخرج إبراهيم لاما في فيلم “وخز الضمير” (1931) مع آسيا وابنة أختها ماري كويني، كما أشركه في فيلمه التالي “الضحايا”. وبعدها بدأ العمل في أفلام السينما الناطقة. مثّل في فيلم “عيون ساحرة” من إخراج أحمد جلال (1934). وفي عقد الثلاثينيات شارك عبد السلام النابلسي بالتمثيل في عدة أفلام أبرزها “العزيمة” من إخراج كمال سليم وهو من كلاسيكيات السينما المصرية. وفي 1941 أسند إليه أحمد بدرخان دوراً في فيلم “انتصار الشباب” إلى جانب أسمهان وفريد الأطرش.
وفي بدايات مسيرته الفنية عمل عبد السلام النابلسي ممثلاً مسرحيا أيضا. رشّحه أنور وجدي للعمل في فرقة “رمسيس” المسرحية، فوافق صاحبها وبطلها يوسف وهبي.
كان أنور وجدي رفيق العمر. تقاسما معاً الحلوة والمرّة. ذاقا مرارة الفقر وتنعّما بمزايا الغنى، خصوصا بعدما أصبح كل منهما نجماً. أخبرني أنه في أيام الشباب مضت ليال كانا ينامان فيها في المسرح، في الديكور! لأن مواردهما المالية لا تسمح لهما باستئجار غرفة! ثم استأجرا غرفة فوق سطح عمارة في حيّ الزمالك، قال “كانت الغرفة متواضعة، لكن العمارة فخمة”!
كما روى لي عبد السلام النابلسي أنه لم يتمكن من أداء دوره الحقيقي في فيلم “طريق الدموع” الذي أخرجه حلمي حليم وقصته تتناول سيرة أنور وجدي. كان أنور وجدي قد مات حين أنتج الفيلم، فمثّل كمال الشناوي شخصيته. لكن عبد السلام وليلى مراد كانا على قيد الحياة، غير أن كلاهما لم يملك القدرة على تمثيل شخصيته الحقيقية. وكان أن لعبت المطربة صباح دور ليلى مراد وعبد المنعم إبراهيم دور عبد السلام النابلسي. وحدها ليلى فوزي أدّت دورها الحقيقي.
بعد مرحلة البداية الصعبة لمع اسم عبد السلام النابلسي كنجم كوميدي في الأفلام المصرية. واشترك في العديد من الأفلام التي قام ببطولتها عبد الحليم حافظ وفريد الأطرش وشادية. وشكّل ثنائيا ناجحا مع اسماعيل يس في سلسلة من الأفلام الكوميدية. وصار نجما شعبيا، أحبّ الجمهور شخصيته الفنية الظريفة، المتشاوف الذي يتورّط بسبب ادعاءاته.
بلغ مجموع الأفلام التي لعب عبد السلام النابلسي أدواراً فيها نحو 140 فيلما. وهو أنتج فيلمين من تأليفه وبطولته: “حلاق السيدات” و”حبيبة حياتي”. لكن الطريف أنه في عقد الأربعينات عمل مساعد مخرج في ثلاثة أفلام. اثنان منها من بطولة وإخراج يوسف وهبي: “عريس من اسطمبول” و”القناع الأحمر”. والثالث “بسلامته عاوز يتجوز” من بطولة نجيب الريحاني. لكنه لم يتطور في هذا الاتجاه ولم يمارس الإخراج.
لم يجد صعوبة للعمل في بيروت فلقد وفد إليها نجماً، وكانت السينما اللبنانية في بداياتها بحاجة إلى أسماء فنية من وزن عبد السلام النابلسي. وكانت له حلقة من الأصدقاء أبرزهم فريد الأطرش وصباح والمخرج محمد سلمان الذي اخرج أحد عشر فيلما من الأفلام التي شارك فيها النابلسي خلال إقامته اللبنانية ومنها فيلمه الأخير “رحلة السعادة” الذي تمّ تصويره في تونس عام 1968، وكان من بطولة صباح وفريد شوقي وثلاثي أضواء المسرح: سمير غانم وجورج سيدهم والضيف أحمد.
أثناء تصوير الفيلم اشتدت مضاعفات داء القلب وتحملّها عبد السلام النابلسي، وظل يكتم الخبر، لكنه كان يخشى العواقب. لذلك كان يترك باب غرفته في الفندق مفتوحاً أثناء الليل، وأوصى المطربة صباح التي كانت تقيم في الغرفة المجاورة أن تسرع في طلب الإسعاف إنْ هي سمعت أنينه أو استغاثته. وبعد نحو أسبوع من عودته إلى بيروت اشتد عليه المرض وداهمته نوبة قلبية حادة فنقلته زوجته في الليلة الأخيرة من عمره إلى المستشفى لكنه ما لبث أن أسلم الروح. وشيّعه جمهور كبير من محبيّه إلى مثواه الأخير. وأصرّ فريد الأطرش على تحمل نفقات الجنازة.
واتفق أنني عملت مساعدا ثانيا للمخرج بركات في فيلم “الحب الكبير” الذي صُوّر في بيروت سنة 1968 واشترك فيه عبد السلام النابلسي. وكنت مكلّفاُ بمراجعة الحوار مع الممثلين قبل التصوير للتأكد من حفظهم للأدوار. وفي أول يوم عمل للنابلسي طلب مني أن أذكّره بفحوى الحوار ليقوله فيما بعد على طريقته الخاصة. أخبرت بركات بالأمر فرفض الفكرة وطلب منه الالتزام بالحوار المكتوب. عندئذ رفض النابلسي وتهيأ لمغادرة الاستوديو، وقال “الدور كما هو مكتوب يؤديه محمود المليجي أفضل مني”. تدخلّ نجوم الفيلم الكبار: فريد الأطرش وفاتن حمامة ويوسف وهبي وعقدوا اجتماعاً معه بحضور بركات. واتفقوا على أن يعيد عبد السلام النابلسي صياغة حوار دوره بأسلوبه على أن أتولى أنا تدوين ذلك وإعداد نسخ توزّع على الممثلين لكي يطّلعوا على الحوار في صيغته الجديدة، ولكي يعرفوا متى ينتهي كلامه وبأي كلمات يردّون عليه.
استخلصت من تلك الحادثة عدة عِبَر تتعلق بشخصية عبد السلام النابلسي، وهي لصالحه تظهر اعتزازه بنفسه وحرصه على كرامته وحبه للفن. لقد قرر الاستغناء عن العمل ورفض أداء دور بأجر مرتفع، رغم حاجته للمال آنذاك، لأن الدور لا يناسبه. وفي حالات قليلة يرفض الممثلون أدواراً لأنها لا تناسبهم. ورشّح عبد السلام النابلسي ممثلاً آخر للدور. وهذه نادرة الحدوث. والأهمّ أنني التقيت بعد فترة بكاتب سيناريو الفيلم كامل التلمساني، وأخبرني أنه فعلاً كتب الدور على مقاس محمود المليجي! وحدث أن فريد الأطرش (منتج الفيلم) أصرّ على إسناد أحد الأدوار إلى عبد السلام. لكن النجم احترم نفسه وفنّه ورفض تأدية دور لا يناسبه. كما أثبت أنه صاحب حاسة فنيّة صادقة إذ رشّح للمهمة الممثل الذي كُتب الدور له أساساً!
مات في لبنان، البلد الذي كان قد ولد فيه. مات وفي قلبه حسرة أنه لم يتمكن من العودة إلى مصر، البلد الذي أحبّه وأمضى فيه أجمل سنوات عمره وصنع شهرته من عمله في السينما المصرية.