يعتبر تحسين قوادري رائد الإنتاج السينمائي السوري الخاص. قبل خوضه مجال الإنتاج سنة 1964 كانت هناك أفلام يتمّ إنتاجها على فترات متفرقة فلم تشكّل حركة، ومعه ومن بعده نشأت صناعة سينما تنتج أفلاما بانتظام، ليست عروضها محصورة في السوق المحلية بل انتشرت في أنحاء العالم العربي. وتجاورت أفلام القطاع الخاص هذه مع أفلام القطاع العام التي أنتجتها مؤسسة السينما التي تأسست سنة 1963.
في دمشق ولد سنة 1926 وفيها توفى يوم 9 تشرين الثاني/نوفمبر سنة 2002. توفي والده وكان في الحادية عشرة من عمره فترك المدرسة ونزل إلى ساحة العمل في مجال السينما، مبتدئا من تحت الصفر. محمد الزعيم (أبو المخرج مروان عكاوي) أعطاه أول فرصة عمل في قاعات السينما مساعداً لمشغّلً آلة عرض الأفلام. ثم ترقّى تحسين وأصبح عارضا ولديه مساعد. ولما تجاوز خط الصفر وأخذ في الارتفاع عنه خرج من قاعات السينما وعاد إليها موزعا للأفلام.
المغامر الجريء تحسين قوادري اشترى حقوق العرض الثاني للأفلام في المدن الصغيرة والأرياف. وفي تلك الفترة تعرف على نجم السينما المصرية أنور وجدي، ونشأت بينهما صداقة منبتها ظرف تحسين وسرعة البديهة لديه والحيوية الفائضة. ثم أخذ يشتري حقوق عرض أفلام أنور وجدي في سوريا. وحين رزق بإبنه البكر أسماه أنور تيمنا بالنجم الشهير. ولأن أنور وجدي لم يكن لديه أولاد أراد أن يتبنّى الطفل أنور قوادري، فرفض تحسين وقال له “أنا أبيع الأفلام ولا أبيع أولادي”. وبعد سنتين توفي أنور وجدي وترك ثروة مالية فنظر تحسين قوادري إلى طفله وقال ساخرا “يا ليتنا بعناك!”.
ومن الطرائف المشتركة بينهما أن أنور وجدي (ذا الأصول السورية) كان يريد بناء قبر لأبيه في دمشق وقال لتحسين “لتغطية التكاليف اقتطع مبلغا من حصتي في أفلامي التي تعرضها في سوريا”. لكن تحسين صرف الأموال وأرسل له صورة قبر جميل لشخص آخر طبعا! وحدث أن أنور وجدي زار من بعدها دمشق وقال له “دلّني على قبر والدي”. فأسقط في يد تحسين واضطر إلى الاعتراف بالحقيقة، فقال له أنور وجدي: “ألا تكتفي بسرقة الأحياء، فتسرق الأموات أيضا”؟!
ثم خاض تحسين قوادري مجال الإنتاج السينمائي لأول مرة بفيلم “عقد اللولو”. لا يظهر اسمه كمنتج للفيلم إلا أنه هو الذي كان محرّك الإنتاج من البداية حتى النهاية. وقد روى لي المهندس والمنتج السينمائي نادر الأتاسي حكاية مولد الفيلم وبداية معرفته بتحسين قوادري التي أثمرت لاحقا مجموعة من الأفلام. قال: “ذات يوم كنت في مكتب سينما “القاهرة” بحمص مع شريكي جوزيف خوري نضع برامج عروض الأفلام في قاعات السينما التي نمتلكها في دمشق وحلب وحمص واللاذقية. وإذا بشاب ظريف يدخل علينا ويغمرني بالأحضان ويقول لي “أقدم لك نفسي. أنا تحسين بك قوادري” فقلت له “ما بيمشي الحال بتحسين لوحده؟” فقال: “لا هذه كلفتني كتيراً وأنا سمعت عنك وعن مشاريعك، ولديّ ثلاثة أفلام اشتريتها من جوزيف فنشنتي في بيروت وسأعطيك إياها لعرضها في سينما حمص بعد إضافة 10% على سعرها كربح لي” ثم أخرج من حقيبة يحملها آلة كاتبة وبدأ بتحرير العقد”!.
في تلك الفترة في مطلع ستينات القرن العشرين كان المصوّر السينمائي محمد الرواس قد أنشأ مع مهندس الإضاءة أخيه فوزي ومهندس الديكور سعيد النابلسي استوديو لتصوير الأفلام وشركة إنتاج “سيريا فيلم”. وعهدوا إلى تحسين قوادري أمر تدبير باكورة الإنتاج، فقصد نادر الأتاسي وقال له: “جماعة سيريا فيلم عندهم رغبة في إنتاج فيلم “عقد اللولو”. وكان نهاد قلعي قد كتب السهرة التلفزيونية التي تحمل الإسم نفسه، وقد لقيت نجاحا كبيرا لدى عرضها على الشاشة الصغيرة. الآن كبّروا الشاشة وكتب نهاد قلعي السيناريو خصيصا للفيلم السينمائي الذي سيشارك فيه دريد لحام البطولة مع صباح وفهد بلان. وسيتولى يوسف معلوف الإخراج وبرونو سالفي إدارة التصوير وإميل بحرى المونتاج والثلاثة من مخضرمي السينما المصرية. كل شيء جاهز ولا ينقص إلاّ التمويل! أقترح أن تموّل أنت المشروع وهم يساهمون بالاستوديو والمعدات ومجهوداتهم ويتقاضون مقابل ذلك ربع الأرباح. والباقي لك.. ولي!”. ومن طرائف تحسين بك الأخرى أنه عندما تعاقد مع صباح دوّن أجرها وأمام خانة كيفية دفع الأقساط كتب “كلّما تيسّر”! وهي وقعّت العقد ولم تنتبه إلى هذا البند. وكانت كلّما طالبت تحسين بقسط من أجرها قال لها “لم يتيسّر الأمر بعد”!
عندما عرض فيلم “عقد اللولو” في سورية عرف نجاحاً جماهيرياً فاق كل تصور وانتقل عرضه إلى بقية الدول العربية، وكان بداية الانطلاقة الكبيرة للفنانين دريد لحام ونهاد قلعي حيث قاما بالبطولة المطلقة في كل أفلامهما القادمة. وفتح نجاح الفيلم الباب أمام سلسلة من الأفلام السورية التي أنتجها القطاع الخاص وقسم كبير منها من إنتاج تحسين قوادري، وبعضها إنتاج مشترك مع مصر أو لبنان أو تركيا. كما فتح الباب أمام الممثلات والممثلين السوريين الذين شاركوا في الفيلم ومنهم: ملك سكر، يسرى البدوية، فتنة وإغراء، صبري عياد، محمد العقاد، والمخرج التلفزيوني خلدون المالح الذي عمل في “عقد اللولو” مساعداً ليوسف معلوف.
كان الفيلم الثاني الذي أنتجه تحالف نادر الأتاسي وتحسين قوادري وسيريا فيلم هو “لقاء في تدمر” من بطولة يسرى البدوية مع الثنائي دريد لحام ونهاد قلعي، ومن إخراج يوسف معلوف أيضا. وحدث أنه بعد تصوير بعض مشاهد الفيلم أن توجّهت يسرى البدوية لزيارة قبيلتها فمنعوها من العودة لأن لا أحد من أبناء العشيرة سوف يقبل أن يتزوج ممثلة! فجنّ جنون تحسين قوادري عندما التقى بها وأبلغته قرارها وأعادت له المبلغ الذي قبضته كدفعة أولى، لكنه تصرّف على طريقته، فقال لها: “ولو لا تخافي! إذا لم يعد هناك من يريدك للزواج فأنا سأتزوجك”! وعلى هذا الأساس أكملت التصوير. وكلما طالبت تحسين بتنفيذ وعده بالزواج بها تهرّب واختلق الأعذار. وبعد تصوير الفيلم استدرجت يسرى البدوية تحسين قوادري إلى غرفتها في الفندق الذي تقيم به في دمشق وشهرت في وجهه مسدسا وهددته بإطلاق النار إن هو لم ينفذّ وعده بالزواج. فطلب النجدة من نادر الأتاسي الذي أسرع بالحضور وتمكن من إقناع يسرى بنسيان موضوع الزواج لأن تحسين متزوج أصلاً! وبعد هذه الواقعة بأشهر كان تحسين يسهر مع نادر الأتاسي في ملهى الربوة بدمشق حيث كانت يسرى البدوية تغني. كانا في ركن منعزل. وكان الساهرون يكتبون على قصاصات من الورق أسماء أغانيهم المفضلة. ولم تكن يسرى تعرف القراءة فكانت تعطي الورقة لقائد الفرقة الموسيقية الذي يقرأ لها. وأرسل تحسين مع الجرسون قصاصة ورقة بيضاء. ولما تسلمتها يسرى سألت في الميكروفون “وينه إبن الحرام تحسين؟!”.
تعرفتُ على تحسين قوادري في بيروت سنة 1968. وكان لديه مكتبين للإنتاج السينمائي، الأول في دمشق والثاني في بيروت. لكن أول تعاون بيننا كان سنة 1971 حين كتبتُ بمشاركة من نهاد قلعي سيناريو وحوار فيلم “واحد زائد واحد” الذي أخرجه يوسف معلوف وكان من بطولة الثنائي دريد لحام ونهاد قلعي والممثلتين المصريتين سهير المرشدي وناهد يسري. ثم كتبت حوار فيلم “قطط شارع الحمرا” وهو من إخراج سمير الغصيني وبطولة مديحة كامل ويوسف شعبان ومن إنتاج أنور قوادري وكان قد بلغ الثامنة عشرة. ولاحقا درس أنور الإخراج السينمائي في لندن وأخرج عدة أفلام بريطانية منها “جوليا” و”غرفة الانتظار” و”كسارة البندق” و”جمال عبد الناصر”. وما زال مقيما حتى الآن في مدينة الضباب. وعدت للتعاون مع الوالد كاتبا للسيناريو والحوار في فيلم “عندما تغيب الزوجات” من إخراج مروان عكاوي وبطولة دريد لحام ونهاد قلعي وإيمان (ليز سركيسيان) وعبد اللطيف فتحي ونجاح حفيظ. وهو آخر أفلام نهاد قلعي بعد تعرضه للشلل النصفي. ولتغطية ذلك تمّ ربط يده برباط طبي، ولتبرير ذلك جعلناه يؤدي دور رجل كان قد كسر يده!
من الناحية الفنية كنت معجبا بحيوية تحسين قوادري كمنشط لحركة إنتاج الأفلام في سورية. ومن الناحية الإنسانية كنت معجبا بروح المغامرة لديه وبظرفه الفائق. كان ذات مرة في القاهرة وقد دعا النجم السينمائي نور الشريف وزوجته الممثلة بوسي والموزع السينمائي اللبناني محمد علي الصباح والمخرج محمد سلمان لتناول الغداء في اليوم التالي في مطعم في شارع الهرم اشتهر بتقديم الدجاج الشهي. وكان محمد علي الصباح مشهوراً بابتكار المقالب. وأراد أن يصيب تحسين قوادري بأحد مقالبه. قام بالاتصال بمجموعة من نجوم السينما وبعض الموزعين والمنتجين والمخرجين وأخبرهم أن تحسين قوادري يدعوهم غدا لتناول وجبة الغداء في مطعم الدجاج الشهير. وكانت خطة المقلب تقضي بأن يتورط تحسين بدفع مبلغ باهظ، وهو لن يقول لأحد النجوم أنه لا يرحب به، خصوصا وأن الجميع من أصدقائه ومن الذين تربطه بهم مصالح العمل.
ونجحت الخطة كما كان مرسوما لها. بدأ توافد أهل السينما تباعا على مطعم الدجاج وخجل تحسين من القول إنه لم يدعوهم! وفي الوقت نفسه كان يبتلع ريقه وقد فهم المقلب وأدرك من الذي دبّره. أكل المدعوون وشربوا، وكان محمد علي الصباح يبدي إعجابه بكرم تحسين بك لكي يغري الضيوف بطلب المزيد. وقبل أن يحين موعد دفع الفاتورة المرهقة تظاهر تحسين بأنه ذاهب إلى الحمام، لكنه قصد صاحب المطعم. وطلب الفاتورة. وكانت في حدود ثلاثة آلاف جنيه وهو مبلغ باهظ آنذاك. حرّر تحسين شيكا بمبلغ 2700 جنيه، وطلب أن يأتيه الجرسون بفاتورة بمبلغ 300 جنيه فقط. وعاد تحسين يجلس على كرسيه المجاور لكرسي محمد علي الصباح. وما لبث الجرسون أن وصل بالفاتورة. وجحظت عينا الصباح محملقا في الفاتورة وتعمّد تحسين أن يجعله يراها جيدا. بل ودفع المبلغ الباقي الزهيد على مرأى جاره الذي أصيب بصدمة لأن المقلب الذي صنعه لم يسفر عن فاتورة موجعة! ولم يكتفِ تحسين بردّ الصاع، بل جعله صاعين! قال بصوت مسموع “صار دورك يا محمد علي تدعونا غدا”! فرحّب الصباح بالفكرة وقال “أهلا وسهلا بالجميع. كلكم ضيوفي غدا”. وقال في نفسه “هذا أرخص مطعم، ونستطيع أن نبيّض وجهنا أمام الجميع”. وفي اليوم التالي أكل المدعوون وشربوا وحان وقت دفع الحساب، ووصلت الفاتورة بالمبلغ الحقيقي، فصعق الصباح أدرك أن المقلب ارتدّ عليه. ومن حفر لأخيه فاتورة وقع فيها!