تمور انحاء عديدة من الوطن العربي الكبير بحركة الجماهير وقد نهضت للمطالبة بحقوقها التي حرمتها منها انظمة الاستبداد، يستوي في ذلك أن تكون “ملكية” او “جمهورية” طالما أن “السلطان” واحد، بغض النظر عما إذا كان “صاحب الجلالة” او “صاحب الفخامة”.
مطالب الجماهير التي تملأ الشوارع في السودان وفي الجزائر، وفي تونس احيانا، وفي بيروت مؤخراً، هي هي: الحرية اولاً والحرية ثانياً، والخبز ثالثاً ودائماً.
توحي هذه الحركة الجماهيرية الواسعة بأن الشعوب التي صبرت طويلاًعلى عهد الطغيان الذي استطال اكثر مما يجب ومما يجوز، قد قررت ـ أخيراً ـ أن تستعيد حقها بالقرار في شؤون بلادها..
وتشهد المفاوضات المفتوحة منذ اسابيع طويلة في الجزائر بين ورثة سلطة بوتفليقة والجماهير التي يدفع بها غضبها إلى البقاء في الشارع لا تغادره حتى تحقيق مطالبها في “النظام الجديد”، إن هذه الجماهير قد افادت من تجاربها السابقة، فلم تعد تجوز عليها حيل اهل النظام ومناوراتهم المخادعة للتحايل على مطالب الجماهير..
اما في السودان فان “العسكر” الذي تحرك بضغط من “الشارع” الذي لا يغادره اهله لا في الليل ولا في النهار، فانه قد فشل في مخادعة الجماهير والايحاء بأن ازالة “الرأس” أي الدكتاتور البشير، واستبداله بضابط آخر، “حبكة” مكشوفة وقديمة لم تعد تجوز على “الشارع” الذي ثبت انه اكثر وعيا ويقظة وتنبها من أن يسقط في مثل هذا “الفخ” المخادع..
وأما في تونس فان “النظام البورقيبي المحدث” يلعب مع الجماهير لعبة اسقاط الحكومات واستبدالها، بين الحين والآخر، لإيهام الشعب بأنه قد نال حقوقه كاملة، ولم يعد هناك ما يستدعي نزوله إلى الشارع.. وعلى سبيل المثال فإن السلطة قد اخفت عن التوانسة زيارة ولي العهد السعودي إلى تونس، خلال جولته الاخيرة التي شملت محطات عربية عدة، بمعدل بضع ساعات لكل عاصمة عربية ولقاء سريع مع المسؤول الاول (او بديله.. كما في الجزائر) واكمال الرحلة إلى الارجنتين.. وكفى الله المؤمنين شر القتال.
لقد شاخت الانظمة القائمة (غالباً بقوة الانقلاب واحيانا بقوة الامر الواقع).. بينما اجيال الشباب تملأ الساحات والشوارع: لا تجد فرص العمل المناسبة والمقبولة، وبالتالي فهي لا تستطيع أن تتطلع إلى مستقبل أفضل، ولا يتبقى امامها إلا الشارع لرفع صوتها بالاعتراض والمطالبة بحقوقها في وطنها.
حتى في لبنان الذي كان، ذات يوم، عنواناً لازدهار مخادع، تملأ الشوارع اليوم جماهير الغاضبين والمعترضين من الموظفين والعمال والاجراء، بمن فيهم العسكريون، وصولاً إلى موظفي مصرف لبنان الذين يحظون بامتيازات مذهبة، طلباً لتحسين اوضاعهم المعيشية.. مع الحرص على “الدولة” المنهوبة مواردها والمضيعة حقوقها (حقوقهم) لمصلحة النافذين وزعامات الطوائف وابطال الصفقات المشبوهة ولعبة “دعه يمر”!
بالمقابل فان الوضع الاقتصادي في سوريا كارثي بعد ثماني سنوات من الحرب عليها وفيها.
كذلك فان الثروة الوطنية في العراق منهوبة، وعملته (الدينار) في تدهور مريع، والجوع يفتك بأهالي ارض السواد، بلاد الرافدين.. والتظاهرات الغاضبة تملأ الشوارع مطالبة بتوقيف الفاسدين من الذين تناوبوا على الحكم في سنوات ما بعد الاحتلال الاميركي.. وهو الاحتلال الذي نهب متاحف بغداد ودمر مدن التاريخ فيه، قبل أن “يجتهد” في زرع الفتنة بين السنة والشيعة بتسليم الطاغية صدام حسين إلى الغوغاء لتشنقه في تظاهرة وهتافات وحشية بينما هو يلقى خطابا قوميا متأخراً عن موعده كثيراً، ضد الاحتلال الاميركي والفتنة!.
هذا يعني أن الانظمة القائمة في هذه البلاد قد شاخت وعجزت وآن أن تتغير، ولكن قوة التغيير غائبة او مغيبة.. خصوصاً وان الاحتلال الاميركي للعراق قد اوجد التربة الخصبة لظهور السفاحين بعنوان “داعش” و”الخليفة” المزعوم، ليكمل مهمة زرع الفتنة في ارض الرافدين.. مع امكان التمدد، عبر البادية، إلى سوريا المنهكة بالحروب فيها وعليها.
فأما شعب فلسطين فهو في الضفة الغربية مخدر “بسحر” السلطة التي لا سلطة لها، مع أن العمليات الفدائية ضد قوات الاحتلال الاسرائيلي تكاد لا تتوقف..
أما غزة فهي ايقونة الجهاد وكعبة النضال الوطني من اجل التحرر والوحدة، ويشهد يوم الجمعة من كل اسبوع خروج اهل غزة، برجالها والنساء، بشيبها وشبانها والفتية، إلى عند الحاجز الذي يفصلها ـ بالقوة ـ عن بقية ارض وطنها في الضفة الغربية.. وغالبا ما يعود المتظاهرون وهم يحملون بعض الشهداء والعديد من الجرحى.
… ثم يعودون يوم الجمعة التالي إلى التظاهر وتأكيد فلسطينيتهم ووحدة الشعب المقسم بين الاحتلال والحصار.
أن لم تدفع هذه الاوضاع البائسة والمتردية إلى الثورة بإرادة التغيير طلباً للمستقبل الافضل، فكيف اذن تقوم الثورات لتغير ما هو قائم ببناء نظام يليق بكرامة الانسان وشرف المواطنة؟!
أن ما يدفع الجزائريون والسودانيون إلى النوم في الشوارع، حتى لا يغلقها العسكر بدباباته ورفضه تغيير النظام الفاسد المفسد، قائم ما يماثله من فساد وسرقة للمال العام وتجبر العسكر واللعب على الوتر الطائفي والمذهبي في البلاد متعددة مذاهب اهلها وطوائفهم .
أن الانظمة العربية، بمجموعها، فاسدة ومفسدة.
انها تهين كرامة هذه الامة، على مدار الساعة، بفساد الحكام وتنازلاتهم المتوالية عن الحقوق الطبيعية للامة في ارضها وثرواتها ومستقبلها الافضل.
أن ما يصرفه أي ملك او امير متجبر على نفسه وحاشيته وحريمه ومباذله، وما يدفعه من رشى للإدارة الاميركية والعدو الاسرائيلي، يكفي لإعادة بناء الامة بمجموع اقطارها من المغرب الاقصى إلى سلطنة عمان.
العيب فوق.. في القمة.
ومن حق الشعب، وحده، أن يكون في القمة، بينما السلطة المنتخبة والمعبرة عن ارادته تعمل في خدمته ليصعد ويصعد حتى الكفاية والعدل وتحقيق التقدم المرتجى بكفاءاته الممتازة وعرق الجباه من اجل حقه في حياة كريمة.
والطريق إلى الغد يكون بالثورة او لا يكون غد ولا مستقبل أفضل.
تنشر بالتزامن مع السفير العربي