تبدى المشهد العربي من على منبر الأمم المتحدة، او في الكواليس الأميركية أساساً ثم الدولية عموماً، بائساً بل مهيناً في بعض جوانبه. فقد حمل الملوك والرؤساء العرب، أو من ينوب عنهم، معاركهم الذاتية والقبلية والعربية ـ العربية وكذلك خصوماتهم ومعاركهم الشخصية والسياسية إلى هذا المنتدى الدولي فنشروا فضائحنا على مستوى العالم اجمع، انطلاقاً من نيويورك.
لقد حفلت الجلسات العلنية للجمعية العامة، وكذلك كواليس المسارة والصفقات، بالكثير من الفضائح والوقائع المهينة التي تشهد على كثير من الحروب بين القليل المتبقي من العرب. وحتى هذا «القليل» ليس موحداً، لا في مواقفه ولا في الأهداف المتوخاة منها… بل يمكن القول إن الحروب العربية ـ العربية على الأرض هنا قد وجدت في الملتقى الدولي مساحة أوسع للمعارك وتحقيق «الانتصارات الوهمية» على بعضهم البعض.
لم يكن العرب موحدين، ولو في الخطاب الرسمي، حتى في قضية فلسطين. بل إن «العرب» لم يكونوا «عربا»: كانوا مجموعة من الدول المتخاصمة، المتنابذة، الضعيفة والمستضعفة، لا تجمع في ما بينها ولو قضية مقدسة مثل فلسطين، ولا يشد بعضهم إلى بعض «عدو قومي» كإسرائيل، أو عدو مستجدّ خرج من بين ظهرانيهم خاطفا راية الإسلام بعد إدانة «العروبة» كبدعة وضلالة، داعياً إلى إعادة «الخلافة» عبر الصواريخ قاتلة الأطفال، مدمرة ما تبقى من دول تستظل الراية العربية، مغتالاً الماضي والحاضر والمستقبل عبر ذبح المؤمنين بالسكاكين امام عيون العالم وبآخر ما ابتكره العلم من وسائل التواصل.
ولقد كشف بؤس واقعهم ذلك الاحتفال الفولكلوري برفع علم فلسطين على واحدة من سواري المبنى الزجاجي الأزرق للأمم المتحدة: علم ولا دولة، وتظاهرة شارك فيها بعض الموقعين على خريطة «سايكس ـ بيكو» للمشرق العربي والتي مزقت وحدته التاريخية والجغرافية والبشرية تمهيداً لإقامة دولة إسرائيل فوق أرض فلسطين.
لقد احتلت قضية فلسطين، حتى الماضي القريب، الضمير العالمي، وحركت دولاً وقوى غير عربية، فضلاً عن «العرب» الذين كانوا يحرصون على الشكل, فيظهرون ـ اقله في الصورة ـ متضامنين حول «قضيتهم المقدسة» التي أخرجت من دائرة الفعل السياسي وان بقيت ثابتة في الوجدان.
على أن الأمم المتحدة قد شهدت تظاهرة مسلحة لدول الخليج العربي، إذ دخلت تحت القيادة السعودية رافعة اعلام الحرب على اليمن، التي لا تصرفها كلية عن حربها على سوريا، وكلتاهما تصبان ـ بزعم الرياض ـ في خانة الحرب على إيران وتقفزان من فوق «فلسطين». فإذا ما تم استذكار العراق الغارق في دماء أبنائه وهو يحاول ترميم دولته التي أنهكها الفساد بعد الاحتلال الأميركي، ثم حضرت جحافل «داعش» لتفاقم من خطورة الانشقاقات في الداخل بأبعادها الطائفية والمذهبية والعرقية.
لقد وجد السعوديون ضالتهم، مرة أخرى، لتبرير المشاركة في حصار العراق بالذريعة «الفارسية» ذاتها التي تضيف إلى الطائفية اختلاف الأعراق.
أما لبنان الذي يكاد يكون بلا دولة، فقد وقف رئيس حكومته خلف المنبر الأممي رافعاً صورة الطفل الكردي السوري أو العراقي، لا فرق، الذي لفظته أمواج التشرد بحراً امام شواطئ أوروبا، ليشكو الفراغ في رأس دولته مما يشل حركتها، مع التحذير من مخاطر النازحين السوريين إلى أرضه والذين باتوا الآن يشكلون حوالي الربع من مجموع مواطنيه. وكاد تمام سلام، الذي شاء له حظه ان يجيء إلى دست الحكم في فترة فراغ في قمة السلطة وبطالة كلية للمجلس النيابي وأزمات معيشية حادة تهدد الوطن الصغير الذي كان يطمئن ـ عادة ـ إلى رعاية استثنائية توفرها الدول الكبرى التي تبدو الآن مشغولة عنه بهموم عربية ثقيلة تتقدم بها عليه.
وأما سوريا التي انغمست في الحرب فيها وعليها دول كثيرة، فقد حضرت لتشكو التآمر الدولي معلنة موافقتها على مشاركة الطيران الحربي الروسي في جهدها لمقاومة اجتياحات «داعش» وسائر المنظمات الإرهابية، خصوصاً وقد اقتطع بعضها، و»داعش» بالتحديد، حوالي نصف الأرض السورية، ليضمها إلى «دولته» التي تشمل العراق والشام، كما تدل تسميتها. وكانت صورة القيصر الروسي بوتين تظلل المندوب السوري وهو ينتقل من خانة الشكوى والتذمر من التخلي إلى خانة الهجوم على مَن يساند الإرهاب الدولي بقيادة الولايات المتحدة ومعظم الغرب الأوروبي.
فأما مصر فمشغولة بهمومها الثقيلة، وأخطرها اقتصادي وتوفير الحلول الجدية للنهوض والتحرر من تركة الديون والعجز، ومن ثم يتبدى الخطر الأمني، خصوصاً وأن «داعش» وعصابات مسلحة أخرى تنافسه في رفع راية الجهاد الإسلامي، باشرت تحركها القاتل في بعض انحاء الداخل، فضلاً عن الجبهة المفتوحة بعد في صحراء سيناء وعلى الشاطئ الممتد إلى غزة.
على هذا، فقد كانت معظم لقاءات الرئيس المصري والوفد المرافق له اقتصادية الطابع، مع الاكتفاء بتحديد بعض المواقف المبدئية تجاه القضايا العربية المتفجرة، لا سيما سوريا، وأبرزها ضرورة عدم القطع مع النظام القائم في دمشق طالما استمرت بل وتفاقمت الحرب ضد المنظمات الإرهابية.
أما ليبيا البلا دولة، فما يزال المندوب الأممي يحاول عبثا التوفيق بين المنظمات المختلفة، في محاولة للوصول إلى تفاهم حول حكومة وحدة وطنية، بينما «داعش» يزيد من مساحة اجتياحاته وضحايا هجماته، خصوصاً وقد تعززت قوته بمناصرين يأتونه من بعض دول افريقيا.
مع الجزائر وعنها لا مجال للحديث عن دور أو مبادرة أو مسعى… فبلاد المليون شهيد غارقة في مشكلاتها الداخلية، وأبرزها صراع الأقوياء على وراثة الرئيس المريض عبد العزيز بوتفليقه. ومفهوم أن هذا الصراع يدور بين جنرالات الجيش الذي يعتبر بمثابة «الحزب الحاكم». وكثير من هؤلاء يحاولون الحصول على تزكية من «الرئيس» قبل غيابه، في حين أن آخرين يتربصون للقفز إلى السلطة عشية هذا الغياب ومع افتراضهم عجز «الرئيس» عن اتخاذ القرار بالمواجهة اعتماداً على خصومهم.
أما في المغرب، فتتابع «اللعبة الديموقراطية» مسيرتها مظللة بطيف «أمير المؤمنين» الذي يجري الصراع حول من هو الأقرب إليه والمعتمد منه، لا سيما وان «الإسلاميين» يحرزون المزيد من التقدم عبر اللعبة الديموقراطية بعد تشرذم أحزاب النضال الوطني من أجل التحرر والعدالة الاجتماعية، وهو في شغل شاغل عن هموم المشرق العربي، وان حرص دائماً على توكيد العلاقة مع الأنظمة الملكية والاماراتية، التي هي بالمصادفة التاريخية، الأغنى بين الدول العربية. ثم أن بلاد المغرب تشكل أرض الراحة والاستجمام بالنسبة للملوك والأمراء والشيوخ من حكام البلاد المذهبة، وبالتالي فلا مانع من أن يشارك المغرب في الحرب السعودية على اليمن ولو بطائرة حربية. ولا بأس حتى أن سقطت هذه الطائرة في الطلعة الأولى. فالتعويض سيكون مجزياً بطبيعة الحال.
واضح ان الوطن العربي، مشرقاً ومغرباً، يعيش في قلب المحنة: دوله تحترب وتسيل الدماء فتغطي أرضه، ومعظمها لأبنائه، وبأيدي السلطات القائمة بالأمر في حربها مع منظمات الإرهاب الدولي التي تتلطى تحت الشعار الإسلامي. وينفتح الباب على مصراعيه للتدخل الدولي، كما لم يحدث في أي يوم، مستدرجاً حتى دولة مثل روسيا كان الظن انها قد خرجت من ميدان العمل في الخارج، كما في عهد الاتحاد السوفياتي، إلى التدخل ـ أقله في الجو، وربما في البحر ـ في الحرب في سوريا وعليها، وارسال اسطول من القاذفات الجبارة وأحدث المدمرات، للتأكيد انها «جاءت لتبقى»، أقله طالما استمرت الحاجة إليها. مع استعداد لمد هذا الوجود، بشكل أو بآخر، إلى العراق، طالما أن «الجبهة واحدة، والعدو الإرهابي ممثلاً بداعش وما شابهه واحد».
وبالطبع فإن هذا التطور الميداني يشكل ذروة لانقلاب سياسي، في التوازنات الدولية، لا سيما في منطقتنا العربية المفتوحة الآن لكل من يريد إثبات حضوره ونفوذه وقدرته على التأثير، ومن ثم المطالبة بحصته من «الكعكة»، وأساساً في المصالح الهائلة.
ومن أسف، فإن الملوك والرؤساء العرب، من دون أن ننسى الشيوخ، لا يفعلون إلا توسيع الأبواب وتوفير المبررات لتدخل «الدول»، وصراعها على المصالح الهائلة التي تتضمنها هذه الأرض العربية بموقعها ثم بثرواتها الهائلة التي لا ينتفع بها أهلها بقدر ما يستحقون.. بل وما يحتاجون.
لا إجماع، ولا اتفاق ولو على الحد الأدنى… بل ان الوطن العربي في هذه اللحظة مجموعة من الجبهات المشتعلة بين دوله، مما يوسع المساحة امام التدخل الدولي، الذي لم يعد قاصراً على جبهة واحدة ممثلة بالهيمنة الأميركية شبه الكاملة (وعلى رأس قائمة المستفيدين منها إسرائيل) بل ها هم الروس يكرسون وجودهم الفاعل ويعززونه عسكرياً، متعاونين إلى حد يقرب التحالف مع الإيرانيين.
أما حكام العرب فيهربون من هويتهم إلى الحروب ضد بعضهم البعض. منهم من يستقوي بثرواته ومنهم من يعتمد على موقعه الاستراتيجي، بينما شعوبهم تغرق في فقرها في الداخل أو في بحور الظلام في رحلة التيه إلى الخارج.. أي خارج يقبلهم، مع الاهانات التي تزيد في إيلامهم، باعتبارهم هاربين من أوطانهم التي اغتيلت دولها أمام عيونهم التي أعماها الدم عن تبين الطريق إلى المستقبل.. أي مستقبل.
تنشر بالتزامن مع جريدة «الشروق» المصرية.
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان