في البداية مصر، وفي النهاية مصر: تتحرك الى الأمام فإذا العرب أمة واحدة، وتنكفئ متعثرة بهزال نظامها المترافق مع العسف، فإذا العرب أمم شتى سرعان ما تتفسخ الى أديان وطوائف ومذاهب، ثم الى عشائر وقبائل مقتتلة عبثاً، فإذا الأوطان أثر بعد عين.
عبر التاريخ كانت مصر هي «الدولة»، هي «المركز» بعاصمة وإدارة وسجلات وقيود، وفي مراحل عديدة تهاوى الحكم عبر صراع الطامحين إليه، أو عبر تغلغل النفوذ الأجنبي الذي صار «استعماراً»، لكن هيكل «الدولة» ظل قائماً، وظل الجهاز الإداري يعمل: يسجل القيود والبيوع، يحفظ الأنساب والملكية وتابعية المواليد، أي هويتهم الوطنية.
من هنا إن العرب في جميع أقطارهم كانوا يتطلعون الى مصر مع إعلان استقلال «دولهم»، لا سيما في المشرق العربي… وهي «دول» استولدها الاستعمار الغربي من رحم السلطنة العثمانية وتوزعها البريطانيون والفرنسيون، فأقام فيها العروش للملوك والأمراء والرؤساء الذين نصّبهم في غفلة من شعوبهم التي كانت تحاول التعرف الى هوياتهم الجديدة التي أسقطت عليهم وتعددت بعدما كانت موحدة بالسياسة (رعايا السلطان) وبالجغرافيا (بلاد الشام وهي التي تشمل ما نعرفه اليوم بأسماء العراق والأردن وسوريا ولبنان فضلاً عن فلسطين التي كان مخططاً لها عشية الحرب العالمية الأولى أن تصير إسرائيل).
والى ما قبل فترة وجيزة كان يمكن أن تجد أسرة واحدة بعضها «عراقي» الجنسية وبعضها الآخر «سوري»، أو ان الجد فيها سوري في حين يتوزع أفرادها بين جنسيات عدة فيها الفلسطيني وفيها الأردني وفيها اللبناني، والعكس بالعكس.
ولان مصر كانت سابقة الى الدولة الحديثة مع التجربة الفذة لمحمد علي وأبنائه من بعده فقد صارت القدوة: عرفت الإدارة العصرية، وعرفت الجيش كمؤسسة جامعة، وعرفت التعليم بفروعه المختلفة وصولاً الى الجامعة، وعرفت المحاكم بالقضاة والمحامين، وعرفت الشرطة كجهاز مركزي شبه عسكري لضبط الأمن في العاصمة والأقاليم الخ..
باختصار: نظر العرب، باستمرار، الى مصر على أنها «الدولة»، في حين كانوا يتعاملون مع كياناتهم السياسية على أنها إما «مصطنعة» ولا مبرر لوجودها أصلا، وإما أنها «هشة التكوين» بحيث تحتاج دائماً الى حماية أجنبية.
وفي ما يخص المشرق العربي فقد استقر في يقين أهله ان تفتيت أقطاره إنما كان الهدف منه التمهيد لزرع «دولة إسرائيل» المعادية في قلبه، كحاجز بين المشرق والمغرب، وكقاعدة غربية قوية تفيد من ضعف «جيرانها» لتفرض هيمنتها على كامل المنطقة… خاصة أن فاصلاً جغرافياً واسعاً يباعد بينها وبين مصر التي ستجد نفسها في هذه الحالة معزولة عن المشرق وهو مداها الحيوي بقدر ما هو مصدر الأمان أو الخطر، كما تدل تجارب التاريخ، قبل الميلاد وبعده وصولاً الى الحروب الصليبية وما تلاها.
هذا كله قبل إقامة إسرائيل بالقوة على أرض فلسطين والهزيمة التي لحقت بالعرب مجتمعين في الحروب التي شنتها عليهم بينما هم يحاولون التأقلم مع «كياناتهم» الجديدة التي كان مستحيلاً أن تكون دولاً، ثم أن تكون قوية بما يكفي لكي تمنع زرع هذه الدولة المسلحة حتى أسنانها والمعززة بالدعم الغربي (والشرقي) المفتوح بطوابير الدبابات والمصفحات وتشكيلات الطيران الحربي فضلاً عن الجنود القادمين للتو من ميادين الحرب العالمية الثانية والمجهزين بأحدث المعدات، فضلاً عن الخبرات المكتسبة والتي لم يكن لها ما يقابلها عند مختلف الجيوش العربية، بما في ذلك الجيش المصري العريق.
[[[[[
هذا في الماضي، أما في الحاضر فقد لعبت مصر منذ ستين سنة دور القيادة السياسية لهذه المنطقة العربية، بل تجاوزتها بالتأثير المباشر الى الدائرة الأفريقية ثم الى الدائرة الآسيوية وبالذات منها الدول ذات الغالبية الإسلامية.
وليس من شك أن مصر قد لعبت، على امتداد الخمسينيات والستينيات، وحتى حرب العبور المجيدة، دور الموجه السياسي، وصاحبة التجربة الأغنى في محاولات تثوير المجتمعات بتعميم التعليم وبناء القلعة الصناعية والتصدي لمشاريع الهيمنة الأجنبية ودعم حركات التحرير في أربع رياح الأرض العربية والأفريقية.
ولقد أضاف هذا كله الى مصر المزيد من المكانة والقدرة على التأثير، واتخذتها الشعوب العربية عموماً، الجزائر وتونس ثم ليبيا، وسوريا ثم العراق فضلاً عن لبنان وأقطار الجزيرة والخليج وصولاً الى اليمن، قيادة وقدوة: توالت الانقلابات العسكرية متخذة لنفسها صفة الثورة وفي بلاغها الأول إشارة الى التجربة المصرية والرغبة في اعتمادها دليلاً هادياً (حتى وان كانت نية الانقلابيين الخروج عليها بعد أن يستتب لها الأمر)..
من هنا ان العرب في مختلف أقطارهم يتابعون الآن – بقلوبهم قبل عيونهم – أخبار الانتفاضة الشعبية المجيدة في مصر، لأنهم يرون فيها بزوغ أمل جديد بالتغيير في أرجاء الوطن العربي جميعاً… وهو أمل طال انتظاره بقدر ما استطال «رسوخ» أنظمة القمع والاستبداد في أرجاء الدنيا العربية.
لقد أفقد أهل النظام العربي دولهم قيمتها وقدرتها على التأثير حين ألغوا شعوبهم: قمعوا إرادة جماهيرهم وحوّلوها الى «هتيفة» أو قطعان من اللامبالين والمغتربين عن أوطانهم التي لم يعودوا يرون فيها أوطانهم، بل استقر في يقينهم أنها مزارع للسلاطين الحاكمين الى الأبد وذريتهم الصالحة ومستشاري السوء وأجهزة القمع والجيوش بقادتها المزينة صدورهم بأوسمة – هدايا تلقوها مكافأة لعدم اشتراكهم في حروب التحرير، ولتصديهم مع جنودهم لجماهير الشعب المجوع والمحقرة مكانته والمزورة إرادته، دائماً.
[[[[[
لقد دقت ساعة التغيير في مختلف أرجاء الوطن العربي، من أقصى المغرب الى أدنى المشرق في اليمن.
لقد طال دهر الركود وتعاظمت خيبة الأمل في أنظمة جاءت بها ثورات ناقصة التكوين مجتزأة البرنامج فاستهلكت السلطة زخمها، بينما أنظمة الحكم التقليدية تغرق في تخلفها وتستمد بعض شرعيتها واستمراريتها من انعدام البديل الداخلي، مضافاً اليه التشوه الذي أصاب شعارات القائلين بالتغيير عبر ممارساتهم المخيبة للآمال.
بالمقابل، ونتيجة ترهل الأنظمة التي باعدت التحولات والإغراءات بينها وبين جذور الانتماء الى الحركات الثورية التي وصلت بها السلطة، تزايدت مساحة النفوذ الأجنبي في القرار السياسي العربي. باتت واشنطن في موقع صاحب القرار في الشؤون العربية عموماً: تزكي أنظمة القمع وتحميها بغطاء من الصمت الدولي عن ممارساتها في الداخل، مكتفية بتوجيه النصح، بين حين وآخر، وترشيد قراراتها ليمكن تسويقها وتبرير المساعدات التي تقدم اليها، وهي تافهة ومحدودة تستهلك، في الغالب الأعم، في تجميل صورة النظام كما في تقديم الإدارة الاميركية في صورة المحسن والمتصدق على الفقراء بحفنة من الدولارات والنصائح الديموقراطية.
ان الرغبة في التغيير عارمة، وهي تعبر عن نفسها في نزول الجماهير الى الشارع… لكن المسافة بين جماهير الشارع وبين مواقع السلطة المحصنة جيداً شاسعة جداً. لقد انعدمت، تقريبا، الفرصة لمصالحة أهل النظام العربي وشعوبهم. كل المحاولات تكشفت عن عملية خداع، وانتهت بتخدير الجماهير وإعطاء فرص جديدة للنظام كي يعزز موقفه في المواجهة.
ان الشارع العربي يموج بجماهيره، في المشرق كما في المغرب.
كسرت الجماهير حاجز الخوف واندفعت بالآلاف، ثم بعشرات الآلاف الى قلب المدن، ثم بمجموع لا تحصى ترفع صوتها بمطالبها، تحتج على ظلم السلطة…. فإذا ما واجهتها عصي شرطة النظام، ثم رصاص بنادقهم، زاد ثباتهم في الشارع، ثم تزايدت أعدادهم حتى باتت بحراً تغرق فيه كل أدوات القمع التي أعدها النظام لحماية مواقعه وأدواته…
والجماهير تنزل من دون خطة محددة، ومن دون قيادة معروفة، ومن دون برنامج واضح. لكن المواجهة المشتركة لأدوات القمع تستولد شكلاً من أشكال القيادة، ولو عبر صيغة جبهة ينتظم فيها أصحاب المصلحة بالتغيير، أي الأكثرية المطلقة في كل بلد.
أما السلطة فتتراوح تجاربها بين القمع المطلق و… الغياب المطلق.
وبعد تجربة تونس الباهرة، اختار العديد من أهل النظام العربي ان يتخلوا عن سياسة المواجهة بالقوة، وأخذوا يعتمدون أساليب أخرى: بعضهم تعمد أن «يشتري» غضب الجماهير، وبالذات ملايين العاطلين من العمل والغارقين في بحور فقرهم في الجزائر، بأن أخرج من خزينته بضعة مليارات من الدولار ورماها في السوق، على شكل خفض لأسعار المواد الغذائية والحاجيات الأخرى، وفتح أبواب التوظيف عشوائيا.. أما البعض الآخر من أهل النظام العربي الأشد فقراً فقد حاول ضرب الناس بالناس، باستخدام الجهوية أو القبلية أو المذهبية، أو بالتراجع عن بعض خططه للتمديد.. الى الأبد.
على أن الأخبث بين هذه الخطط في مواجهة الغضب الشعبي أن تخلي السلطة مواقعها وتتخلى عن مسؤوليتها تاركة الشارع لجماهير بلا قيادة موحدة ومسؤولة، وهكذا يأخذ الفراغ الى الفوضى. تختفي «الحكومة». يتبخر الحزب الحاكم. يسود الخوف. يسقط الأمان الاجتماعي. تحتل الشائعات المدينة ويتناقلها الناس فتبلغ أعماق البلاد. يشعر الناس فجأة ان مظلة الأمان التي كانت تشعرهم بالطمأنينة قد سحبت فجأة. يجدون أنفسهم في هوة فراغ السلطة ولا ملجأ أمان. تحتل الشائعات المدينة ومراكز المحافظات. تتضخم وهي تنتقل من جهة الى أخرى . يكتشف الناس، فجأة، أنهم متروكون للريح. ان «الخيمة» التي كانت تظللهم قد سرقت أو انهارت وباتوا «مكشوفين» تماماً ولا ملجأ.
[[[[[
ان ضريبة حكم الفرد الواحد أو حكم العصبة الواحدة باهظة التكاليف.
ومن سوء حظ الأمة أنها ابتليت بقافلة من الحكام الذين لا يطيق أي منهم الى جانبه الا جهاز السكرتيريا ومستشاري السوء،
ولأنه وحيد يعزل نفسه خلف الأسوار لا يرى ولا يسمع ولا تصل اليه أصداء اللعنات ومطالب الناس، ولا تقدم له أجهزته منهم إلا المنافقين أو المتظلمين بأدب شديد أمام صاحب الأمر والنهي، مانحاً أسباب الحياة، فإنه يتحول الى أعمى يخاف من كل ما لا يراه، وهو كثير كثير.
وها نحن نشهد مقدمات سقوط عهود الظلم والظلام في مختلف أرجاء الوطن العربي، مشرقاً ومغرباً… ومصر دائماً هي القلب وهي الطليعة وهي راية الغد.
ينشر بالتزامن مع جريدة «الشروق» المصرية