من الصعب الكتابة عن الحرب الإسرائيلية الثالثة أو الرابعة على غزة هاشم بلغة تحليلية باردة أو محايدة.. فالدم الذي أريق ويراق على أرضها هو دمنا، ونصرها نصر للأمة جميعاً، مهما تعاظمت خلافاتنا الفكرية والسياسية مع «حماس»، وكائناً ما كان رأينا في سلوك قيادتها السياسية.
لقد خاض الشعب الفلسطيني في غزة، المحاصرة جواً وبحراً وبراً، مواجهة باسلة تكتب وقائعها بأحرف من نور، وهي تضاف إلى سجل أبطال الدفاع عن الأرض المقدسة بدمائهم، وقد غطتها جميعاً وفاضت عنها.
ويفرض واجب احترام الدم المراق دفاعاً عن شرف الانتماء إلى هذه الأمة، وعن هوية الأرض الفلسطينية في مواجهة الحرب الإسرائيلية المفتوحة، أن نشهد لمجاهديها بأنهم قد قاتلوا ـ وهم محاصرون ـ ببسالة نادرة، وصمدوا لنيران العدو الذي يمتلك أخطر آلات القتل الجماعي من طائرات وصواريخ ودبابات ومدفعية ثقيلة، على امتداد أسابيع طويلة من المواجهات المفتوحة، ولم يرفعوا الرايات البيضاء، ولا طافت وفودهم تستجدي وقف إطلاق النار بأي ثمن.
ولقد تعاملنا دائماً مع غزة الفلسطينية على أنها بعض مصر.. بل إن أهلها يرون أنفسهم مصريين في فلسطينيتهم، أو فلسطينيين في مصريتهم. فحتى من قبل الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين في العام 1948، كان أهل غزة من بين الفلسطينيين الأكثر اتصالاً بالمصريين، وقد ربطتهم معهم صلات قربى ومصاهرات، فضلاً عن أنهم كانوا يتطلعون إلى القاهرة على أنها عاصمة الأمة ومصدر حمايتهم.
وفي حقيقة الأمر فإن إسرائيل قد شنت حرب إبادة على الفلسطينيين في غزة. فهي لا تريد احتلالها بالكامل والبقاء فيها، لأن ثمن ذلك باهظ جداً ولا تستطيع أو هي لا تريد أن تدفعه… ولا هي تستطيع تهجير أهلها منها، وهم المهجرون بأكثريتهم الساحقة من أنحاء فلسطين مرة ومرتين وثلاثاً، أي بعدد الحروب الإسرائيلية على العرب في فلسطين وباسمها، منذ «النكبة» وحتى حرب 1973، حين أقفلت عليها قنوات التواصل والاتصال مع أهلها في مصر.
أليس مثيراً للتقدير والإعجاب أن تعجز جيوش إسرائيل التي لا تقهر، والتي تسخر ثلاثين طائرة استطلاع وعشرة مناطيد فوق هذه «الجزيرة» تحصي على أهلها أنفاسهم، وتراقب «حدودها» ـ وهي محاصرة ـ براً وبحراً وجواً ـ عن «التخلص من هذا الكابوس الذي اسمه غزة»؟
لقد فرض العدو الإسرائيلي على أهل غزة أن يعيشوا في جحيم نيرانه الحارقة لمدة شهر تقريباً: كانت الطائرات تغير ممهدة الطريق أمام الدبابات التي تواكبها الجرافات والمدفعية تقصف أنحاءها كافة، في حين تتقدم «كتائب النخبة» في «الجيش الذي لا يقهر» لاكتشاف الأنفاق (المصفحة) تمهيداً لنسفها والتخلص من عقدتها التي أربكت جنرالات إسرائيل، وبالتحديد كتيبة جولاني التي تشكل نخبته المقتحمة.
لم تكن إسرائيل بقيادة بنيامين نتنياهو مستعدة للتفاوض، حتى على هدنة.. ولقد أرادت أن تكون حربها هذه الحرب الأخيرة لاقتلاع المقاتلين وتدمير الأنفاق التي شكلت سلاحاً جديداً وفريداً في بابه، باعتبارها قواعد الصواريخ ومراكز التدريب المجهزة بأحدث وسائل الاتصال والمعابر السرية إلى العدو في الأرض الفلسطينية المحتلة، خارج غزة.
وبالطبع فقد ترتب على نتنياهو أن يخوض هذه الحرب، كما كل رؤساء الحكومات الإسرائيلية السابقين، باعتبار الانتصار فيها شرط استمراره في الحكم و«الانتصار» على المنافسين ـ وهم داخل حكومته ذاتها – وإبقائهم بعيدين عن موقعه الممتاز، بالاندفاع أبعد مما يطلبون أو يقدرون. لكن شرط الاستمرار هو «الانتصار»، وقد عز عليه تحقيقه، برغم غزارة النيران، وبرغم إشراك الطيران (الذي لم يغب ساعة واحدة عن سماء غزة) وسلاح البحرية المدفعية الثقيلة و«قوات النخبة» في هذه الحرب التي أرادها «الأخيرة».
لم يوفر نتنياهو سلاحاً من أسلحة الدمار الشامل، الكيميائية منها، والنووية المخففة والقنابل الفراغية ومجازر إعدام الأهالي، لا فرق بين مقاتل وعجوز أو بائع متجول يدور على رزقه… بل لقد نفذ الطيران الإسرائيلي غارات قاتلة على المساجد عموماً، وعلى المدارس، وبما فيها تلك التابعة لوكالة غوث اللاجئين. ولقد شهد العالم كله على فظاعة هذه المجازر وحفظ لذلك الرجل الشريف بيير كرينبول، وهو المفوض العام للوكالة الدولية إجهاشه بالبكاء، وعجزه عن إكمال حديثه عن المجزرة التي أوقعتها غارة للطيران الإسرائيلي في بعض مدارس «الوكالة» فأودت بحياة العشرات من الأطفال وبعض مدرِّسيهم والمبنى الذي يرفع راية الأمم المتحدة.
لقد اصطنع نتنياهو جحيماً لإحراق غزة بأهلها… لكن أبناء غزة واصلوا المقاومة ببسالة نادرة المثال: كانوا يحملون جرحاهم إلى المستشفيات، وهم أبناؤهم أو إخوتهم أو جيرانهم، ويرددون في الذهاب وفي الإياب، ما يؤكد صمودهم واستعدادهم للتضحية بغير حدود… وكانت النسوة تغالب دموعهن ليتوجهن بالسؤال عن «الأشقاء العرب وأين هم مما يجري لأهلهم في غزة».
هذا في الوقائع الميدانية أما في السياسة، فقد كان الوضع أمرّ وأدهى: في ما عدا «المبادرة المصرية» التي صيغت بشكل مرتجل، وقبل التثبت من الوقائع، ومع تغليب للموقف من «حماس» على الموقف ـ الأساس من فلسطين، بشعبها كله، وأهداف نضاله وقضيتها المقدسة التي طالما بذلت مصر دماء جنودها من اجلها… كانت وسائل الإعلام المصرية، في ما عدا استثناءات قليلة، تشن حملات هجوم قاسية على «حماس»، وباختصار فقد كان المنطق المصري من الحرب الإسرائيلية على غزة محكوماً بالموقف من «الإخوان المسلمين» ودورهم التخريبي داخل مصر.
وفي غياب مصر عن دورها الذي لا بديل منه، فقد كان طبيعياً أن تفشل «المبادرة» التي تقصدت القيام بها كل من تركيا وقطر، فجمعت بعض دول أوروبا والولايات المتحدة الأميركية في باريس… ولعل هذا ما شجع إسرائيل على المضي في حربها على شعب فلسطين في غزة مطمئنة إلى أن «أصدقاءها» سيحمونها من أية عقوبة محتملة، بل من أي قرار زاجر يطلب إليها وقف الحرب، ولو كهدنة إنسانية محدودة، تكفي لرفع الأشلاء من تحت الأنقاض وإسعاف الجرحى وتمكين الناس من تأمين مستلزمات حياتهم اليومية.
ولأن مصر غائبة بقرار انتقامي، يمكن تفهم أسبابه في ظروف مختلفة ولا يمكن قبوله مع تمادي الحرب الإسرائيلية وبلوغها ذروة الوحشية واستهدافها البشر والحجر، المستشفيات وسيارات الإسعاف والمدارس ودور العبادة والأحياء السكنية وطواقم الإسعاف..
ولأن معظم الدول العربية، أو من كانت الأقوى والأكثر استعداداً للتحرك، غائبة أو مغيبة في ظل أوضاعها الداخلية الصعبة، وبين عناوينها الحرب الأهلية أو ما يماثلها (العراق، سوريا، اليمن، ليبيا).
ولأن القيادة الأميركية أضعف من أن تتصدى لنتنياهو وطموحه إلى دور البطل الذي أنقذ إسرائيل من «آخر أعدائها» وقضى على «بدعة الأنفاق» التي غدت الهاجس الدائم لجيش الحرب الإسرائيلي،
ولأن تحرك قطر مع تركيا يثير الشبهة أكثر مما يستقطب التأييد الدولي، خصوصاً في ظل التأثير الطاغي لـ«الإخوان المسلمين» على القرار السياسي في أنقرة والطموح المنفوخ لقطر من أجل لعب دور أكبر من حجمها وقدرتها على التأثير،
… لهذا كله، توجب على شعب فلسطين في غزة أن يدفع من دمائه ثمن إطلاق آلة القتل الإسرائيلية لتعمل فتكاً وتدميراً في هذا القطاع المقطوع عن أهله داخل فلسطين، كما عن أهله على امتداد الوطن العربي.
وربما لهذا كله استطاع ملك السعودية عبد الله بن عبد العزيز أن يتبدَّى وكأنه الأشجع في المبادرة، بغض النظر عن النصوص والمضامين ومدى التأثير على المستوى الدولي، فضلاً عن استكمالها بتحرك عربي فاعل يحمي الشعب الفلسطيني في غزة من إبادة جماعية عبر محرقة إسرائيلية مفتوحة.
واضح أن القيادة الإسرائيلية، وعلى رأسها نتنياهو، تحاول أن تتخلص من «كابوس غزة»، مستفيدة من الغياب العربي المفجع، وبين آخر تداعياته الحرب المفتوحة على اتساع الوطن العربي مع «الإسلام السياسي» ممثلاً بـ«الإخوان المسلمين»، و«الإسلام المقاتل» الذي لم يقاتل إلا المسلمين والممثل في «داعش» و«النصرة» وغيرهما من التنظيمات المتطرفة التي وجدت من يمولها ويسلحها ويطلقها لتخريب الأوضاع في «دول خصومه»… وهكذا شغلت سوريا عن دورها العربي، وغاب العراق في قلب أزماته السياسية والعسكرية المتلاحقة، وغرقت اليمن في دماء أبنائها، وغيبت الجزائر نفسها متخوفة أو متذرعة بتحركات «القاعدة» والتنظيمات الإسلامية المقاتلة في مالي وبعض أفريقيا السوداء إضافة إلى ليبيا والمشاركة الإخوانية في حكم تونس إلخ..
وباختصار، فإن نتنياهو، يخوض حربه ضد خصومه داخل حكومته وخارجها بدماء الشعب الفلسطيني في غزة، مستفيداً من انشغال القيادات في مختلف الدول العربية بهمومها الداخلية.
وليس سراً انه كلما طمح «زعيم إسرائيلي إلى إدامة وجوده على رأس السلطة رئيساً للحكومة شن حرباً على العرب الذين غدت «جبهاتهم» محدودة، وهي تكاد تنحصر- حتى أشعار آخر- في غزة، وقبلها وربما بعدها لبنان، ممثلاً بمقاومته التي سبق لها أن نجحت بإجلاء احتلاله، ثم بمواجهة حربه في تموز 2006.
إن رؤساء الحكومات الإسرائيلية عموماً هم أبطال الحروب على العرب، بينما قيادات الصف الأول من أهل الحكم في دنيا العرب هم أبطال الخروج من دائرة الحرب مع العدو الإسرائيلي إلى الصلح معه بشروطه.
وليس سراً أن العجز عن مقاومة إسرائيل والميل إلى الخروج من ميدان الحرب معها، بأي ثمن، قد أضعف الموقف العربي عموماً، وأخضع معظم الدول المؤهلة لمواجهة هذا العدو المعزز بالتأييد الدولي المفتوح إلى حصار مفروض على إرادتها كما على مواردها وقدرتها على تلبية احتياجات مجتمعه… لا سيما بعد إسقاط ذريعه الكلفة الباهظة للاستمرار في مواجهة إسرائيل ومن معها..
بالمقابل فقد واصلت إسرائيل بناء قواتها العسكرية، فضلاً عن تعزيز اقتصادها بالتقدم العلمي والمساعدات غير المحدودة التي تأتيها من «الحليف الأميركي» ومن «الأصدقاء رغم أنوفهم» في أوروبا، حتى صارت تتباهى بأن جيشها هو السادس في مراتب القوة بين جيوش العالم، وأن نموها الاقتصادي يحقق أرقاماً فلكية.
الخلاصة: إن إسرائيل لم تكن يوماً ولن تكون «حليفاً» لأي دولة عربية، أو لأي نظام عربي… وها أن معاهدات الصلح معها قد أضعفت الدول العربية التي عقدتها بدل أن تقويها او تعزز خططها للتنمية والتقدم بمجتمعاتها.
وللتذكير، كخاتمة، لا بد من الإشارة إلى أن مخازن الذخيرة للجيوش الأميركية قد فُتحت للجيش الإسرائيلي، وأن الخزانة الاميركية قد تكبدت مبلغ مئتين وخمسة وعشرين مليون دولار لتعويض النقص في تجهيزات «القبة الحديدية» التي تتولى صد الصواريخ الموجهة إلى الكيان الصهيوني… وهذا ما أُعلن أما المخفي فأعظم.
لا سلام مع إسرائيل، ولو بشروطها. والسلام معها يعني، آليا، اندفاع العرب إلى حروب أهلية بلا نهاية… وهو بعض ما نشهده هذه الأيام، من دون أن نستطيع توجيه أصابع الاتهام بالمسؤولية عنه إلى غزة التي كتبت وتكتب بمقاومتها صفحات مضيئة في التاريخ العربي الحديث.
تنشر بالتزامن مع جريدة «الشروق» المصرية