بينما تشهد الأرض العربية مجموعة من الانتفاضات التي تزلزل واقعها الديموغرافي، وبالتالي السياسي، انسلخ جنوب السودان عن شماله بهدوء لافت لتقوم في المحيطين العربي والإفريقي دولة جديدة لم يكن لها، حتى الأمس القريب، تاريخ مستقل ولا بنية اقتصادية واضحة ولا هيئة اجتماعية محددة، بمعنى وحدة الشعب والأرض.
ومع التنويه بهذا التسليم العربي الجماعي بواقع الانقسام ومبادرة الدول العربية – وفي مقدمها السودان – الى الاعتراف بالدولة الجديدة التي بادرت إسرائيل الى احتضانها وهي «مشروع»، ثم سبقت الى الاعتراف بها «دولة»، فمن الضروري التنبه الى مخاطر هذه «السابقة» على مستقبل الكيانات العربية التي ترجّها الانتفاضات وعجز الأنظمة عن تلبية طموحات شعوبها، مما يترك الباب مفتوحاً للتدخل الأجنبي، او حتى لطلبه مباشرة إذا ما تقاعست «الدول» او ترددت في اقتحام الأرض المشتعلة بالغضب.
واضح ان تشليع السودان الى دولتين ليس نهاية المطاف… فهناك جهات أخرى من هذا البلد – القارة تعيش حالة من الاضطراب لا يستبعد ان تتفاقم خطورة ودموية الى حد طلب الانفصال عن الدولة المركزية التي كانت أوسع الدول العربية مساحة والمرشحة لان تتوزعها الأعراق والقبائل والعناصر، التي لا يكفي الدين الحنيف لان يكون وحده قاعدة توحدها في دولة واحدة… لا سيما في ظل حكم دكتاتوري، يرى ان استمراره في السلطة، أهم بما لا يقاس من وحدة الوطن ودولته.
بل ان تقسيم السودان يقع بالمصادفة (؟) بينما الأرض العربية، مشرقاً ومغرباً تمور بالانتفاضات الشعبية المنادية بإسقاط الأنظمة المعتقة والمتهالكة والتي يرفض العديد من قادتها الطغاة تلبية مطالب شعوبهم، او يتحايلون عليها بإصلاحات جزئية ودون مستوى الطموح، وغالباً ما تعلن بعد ان يتجاوزها «الشارع» فتؤدي الى رد فعل عكسي، اذ يتعاظم غضب الجماهير إزاء الاستهانة بها ومحاولة الالتفاف على مطالبها المحقة.
قد لا يكون السودان بتركيبته السكانية المتنوعة والمتعددة الأصل هو النموذج المثالي للدولة المركزية العربية، آخذا بالاعتبار مساحته الشاسعة وانعدام وسائط التواصل والاتصال، والفقر، والتخلف.
لم يعرف السودانيون يوماً بلادهم بالكامل. ولم يفهموا منطقاً موضوعياً لهذه الخلطة السكانية بالمدى الجغرافي المفتوح بأكثر من القدرة على استيعابه في دولة مركزية هشة التكوين، ضعيفة الامكانات، لا تستطيع الوصول بأجهزتها الإدارية والتنفيذية الى جهاته البعيدة وإلى «شعوبه» المتعددة اللهجات، المتنافرة الأعراق بقبائلها ذات الجذور الأفريقية التي لا صلة لها بالعروبة او حتى بالإسلام. ظلت العلاقات بين الجهات و«شعوبها» ما كانت قبل الاستقلال: عمادها الأساس التجارة، وميدانها في الجنوب الرعي، والحدود بين الجهات هي حدود انتشار القبائل…
ولم يعرف السودان المسيحية ديناً إلا في الحقبة الاستعمارية الأخيرة، ثم نشطت فيه البعثات التبشيرية التي اصطنعت له ولسائر الأفارقة «مسيحاً اسود» كوسيلة ترويجية… وها نحن نلمس أثر هذه البعثات في جنوب السودان الذي اعتبرته دولته الجديدة «مسيحية» بمعزل عن ان الأكثرية الساحقة لا تعرف الا عباداتها القديمة وآلهتها التي أخذتها عن الأجداد والتي لا صلة لها بالأديان السماوية المعروفة، بل هي أقرب الى التقاليد التي يمكن نسيانها او إهمالها او استبدالها بأخرى حديثة أكثر توهجاً بموسيقاها ذات الإيقاع الصحراوي المنغم.
[[[
كيف يمكن قراءة انفصال جنوب السودان عن شماله، في هذه اللحظة السياسية؟
بغض النظر عن المعطيات السودانية الداخلية لهذا الحدث الخطير، وعن تداعياته المحتملة عربياً وأفريقياً، فلا بد من تسجيل عدد من الملاحظات التي تتجاوز السودان الى ما حوله من أقطار عربية أساساً، تعيش كياناتها السياسية حالة غير مسبوقة من الاضطراب تنذر بتداعيات قد تتجاوز سلطاتها الحاكمة الى أساسيات واقعها الجيوبوليتيكي.
ان عدداً من الكيانات السياسية العربية تشهد تصادماً مرشحاً للتصاعد حدة بين أنظمتها الحاكمة وبين المعارضات المتعددة التوجهات، والمفتوحة على الخارج، مما قد يطرح مستقبل هذه الكيانات على بساط البحث.
وإذا كانت الانتفاضة الشعبية قد نجحت في كل من تونس ثم مصر بإسقاط النظام من دون تعريض الكيان السياسي للخطر، إما نتيجة لمتانة الوحدة الداخلية، وإما لركاكة النظام الذي كان قائماً، او ربما بسبب عدم تنبه قوى الهيمنة العالمية لمثل هذه الأحداث المفاجئة وتطورها الذي انتهى بسقوط الطاغية في تونس والقاهرة بأسرع من التوقع…
… فإن الانتفاضات المشتعلة او التي في الطريق والتي تتصاعد في دول عربية أخرى، والتي تواجهها الأنظمة المعنية برصاص القتل وبالاعتقالات الجماعية، وبرفض الحوار مع المعارضين، او بتقييده بشروط لا يمكن قبولها، قد تندفع – بوعي او بردود فعل كيدية – الى منزلق المطالبة بالانفصال، او بمحاولة «الاستقلال» بجهات تضم اكثريات دينية او طائفية او عشائرية او عنصرية، عن الكيان السياسي القائم، تاركة للعناصر الأخرى أن تقرر مصيرها بشكل مستقل عنها.
إن اليمن يعيش، هذه اللحظة، في قلب الخطر على كيانه السياسي. ففي ظل الصراع على السلطة استعان «الرئيس» المفرد، كما استعان معارضوه المتعددو التوجهات، بكل الأسلحة: القبائل، التي لها تاريخ في المخاصمات والتي لم تعرف الدولة ولم تتعرف اليها الا مؤخراً، وباعتماد النمط «الأمامي» السابق على قيام الجمهورية: الولاء لمن يدفع أكثر.. فادفع بالتي هي أحسن!
ولأن «دولة الوحدة» هشة التكوين، وقد قامت بالحرب بين «الشمال» و«الجنوب»، فإن النزعة الانفصالية التي لما تمت، قد انتعشت في ظل الصدامات بين ميداني المعارضة والموالاة، وقد وجدت كل «قوة»، سواء اتخذت شكل «الحزب» او شكل «التمرد العسكري» لبعض التشكيلات العسكرية، من يساندها ويحميها ويؤمن لها مقعداً في «مجلس الوصاية» على مستقبل اليمن، وهل تكون دولة واحدة او تتوزع دولاً على افرقاء النزاع بميادينهم المختلفة؟
لافت طبعاً ان السفير الاميركي قد شكل «مرجعية سياسية» لأطراف النزاع جميعاً، فكان يشارك في جلسات الحوار بين طرفي النزاع، السلطة ومعارضاتها، ويبدي رأيه وملاحظاته على مشاريع الحلول المقترحة قبل ان يتطوع مجلس التعاون الخليجي للدخول وسيطاً… وهو الذي امتنع طوال عقدين عن النظر في طلب انضمام فقراء اليمن الى ناديه المذهب، بحجة انها – بثقلها البشري وبملايين المعوزين فيها – قد تفسد أناقة هذا المجلس الملكي… خصوصاً أنها «جمهورية» استولدتها الثورة، فكيف يمكن جمع الماء والنار؟
وفي هذه اللحظة يسود التخوف من ان تفرض التطورات الدموية التي تشهدها سوريا ورفض المعارضات المتعددة التوجهات مبدأ الحوار مع النظام، الذي تأخر أكثر مما يجب في عرض برنامجه للإصلاح السياسي، ارتفاع الأصوات الانفصالية متذرعة بالتعدد في المجتمع السوري، سواء على مستوى العناصر (عرب، أكراد، سريان، أرمن) او على مستوى الأديان والطوائف (مسلمون، سنة وعلويون وإسماعيليون ودروز وشيعة، ومسيحيون، أرثوذكس وموارنة وكاثوليك ونسطوريون ويعاقبة وسريان الخ..)
وبرغم ان الشعب السوري ما زال شديد التمسك بوحدته الوطنية وبكيانه السياسي، فإن «الدول» قد عودتنا اللعب على أي انقسام، سياسي او عنصري او طائفي، ان لم يكن للتحريض على الانفصال فمن اجل الضغط على الدولة المعنية لتغيير توجهاتها السياسية بما يتلاءم مع مصالح الخارج، عن طريق تزوير مطلب إصلاح النظام وتحويره الى مطالبة الأقليات بحق تقرير المصير الذي قد يتخذ شعاراً: الاستقلال بدولة لكل عنصر او لكل طائفة، او بدولة اتحادية بديلاً من الدولة المركزية الواحدة الموحدة.
وها هي تجربة العراق قائمة وقابلة للتكرار..
لقد «قبض» الاحتلال الاميركي من العراقيين جائزة تخليصهم من حكم «الطغيان»… وكان عليهم، بداية، ان يدفعوا الثمن في «استقلال» الأكراد بإقليمهم في الشمال. ومع ان هذا «الإقليم» لم يصبح دولة بالمعنى الحرفي لكلمة دولة، الا انه لم يعد قطعاً جزءاً لا يتجزأ من دولة العراق، بل بات له كيانه الخاص: يأتيه الرؤساء فيستقبلون في المطار رسميا، فوق منصة الشرف، ويعزف النشيدان. ويتم استعراض حرس الشرف و… وإذا ما أراد المسؤولون في بغداد (عاصمة الدولة المركزية) أن يزوروا الإقليم، فضلاً عن أي مواطن غير كردي، فإن لذلك إجراءات خاصة وتدابير استثنائية وتراخيص الخ.
.. وليس سراً ان بين «السنة» من يرفع شعار الاستقلال بإقليم خاص، وأن بين «الشيعة» من يرحب بتقسيم العراق أقاليم… والأقاليم طوائف او عناصر قواعد مستقبلية للهيمنة الاميركية ومعها دائماً إسرائيل.
يعيش العرب مرحلة جديدة في تاريخهم الذي لم يكتبوه وحدهم، بل كثيراً ما كتب لهم، وفي كيانات لم ينشئوها بإرادتهم، بل هي قد أنشئت لهم، ولم يكن أمامهم مفر من ان يرتضوها..
وحرام ان تحمل الانتفاضات تبعة فشل الأنظمة في حماية كياناتها التي صورت – زوراً – وكأنها ثمرة النضال الاستقلالي، لكن من الظلم ان يكون شرط الوحدة الطغيان وأن يكون الانفصال هو المدخل الى التحرر والتحرير!
تنشر بالتزامن مع جريدة «الشروق» المصرية
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
مع الشروق الانتفاضــات الشــعبية العربيــة.. والســودان: بين قمع الأنظمة و«إغراءات» انفصال الأقليات
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان