لم يسبق أن امُتحن «المواطن» في دينه كما يُمتحن هذه الأيام، سواء كان ينتمي الى الأكثرية الإسلامية الساحقة،
أو إلى الأقليات الدينية ولا سيما المسيحيين الذين هم بعض أهل المنطقة الأصليين.
لم يسبق أن تم تفتيت المنطقة بالشعار الديني كما يتم تفتيتها هذه الأيام، من دون الالتفات إلى ما يهدد شعوب هذه الأرض من مخاطر مصيرية، بعضها يتصل بالمشروع الإسرائيلي وبعضها الآخر بمشروع الهيمنة الاميركية الذي استغنى عن الأساطيل والجيوش، بعدما اكتشف أن «الفتنة» تدمر أكثر من الأسلحة جميعاً، بما فيها النووية، ثم إن الطائرات من غير طيار تكمل هذه «المهمة المقدسة».
من لبنان المهدد في وحدته الوطنية وكيانه السياسي، إلى سوريا الغارقة في دماء أبنائها والمهددة دولتها بالتفكك، وصولاً إلى «الصوملة» التي انذر بها الموفد العربي- الدولي الأخضر الإبراهيمي، فإلى العراق الذي تطل في أرجائه نذر الفتنة الطائفية بل المذهبية التي قد تأخذه إلى التفتيت، فإلى البحرين وانتهاء باليمن مروراً بالسعودية، يتم «فرز» الأهالي بحسب أديانهم، ثم بحسب طوائفهم، فإذا بعضهم يستحقون السلطة بقوة التنظيمات الإسلامية التي تحتل المسرح الآن، إخوانية وسلفية، في حين يتوزع «الآخرون» بين «أهل الكفر» وبين «قيد النظر».
تجاوز الأمر تقسيم الرعايا بحسب أديانهم. وصل التقسيم إلى المذاهب، ثم إلى داخل المذاهب، فتم فرز «المؤمنين» عن الآخرين المطعون في إسلامهم.
وفقاً لهذا المنطق التكفيري، فليس كل المسلمين في مصر مسلمين مع أنهم جميعاً من أهل السنة.. بل أن المتطرفين من «الإخوان المسلمين» والأكثر تطرفاً من السلفيين يتهم معظم المصريين المسلمين بالكفر، أما الأقباط فهم خارج البحث!
كذلك الأمر في تونس ما بعد زين العابدين بن علي، فهناك حاليا «الإخوان المسلمون» والسلفيون و«الآخرون» ممن يكاد أهل السلطة ذات الطابع الإسلامي ينكرون عليهم إسلامهم، برغم وحدة المذهب..
أما في ليبيا، فثمة اختلاط عجيب في المفاهيم وفي النظرة إلى «المواطنين» فيها، وكلهم من المسلمين، وان اختلفت قبائلهم وأعراقهم بنسبة محدودة.
أما إذا انتقلنا إلى المشرق، فالأمر يغدو أكثر تعقيداً إذ يضاف إلى الاختلاف في المذهب نفسه توزع الرعايا المسلمين بين أكثرية سنية وأقليات شيعية – علوية ـ درزية فضلاً عن المسيحيين (لبنان وسوريا والأردن)، بينما يختلف الوضع في العراق حيث الأكثرية ـ النسبية – شيعية بين العرب، في حين تغلب العرقية أو القومية الكردية على الدين في الشمال وغالبيته الساحقة من أهل السنة، وتبقى مجاميع من الأقليات المسيحية التي تتعرض للاعتداءات بقصد تهجيرها، وقد تم بالفعل تهجير معظم هؤلاء الذين أعطوا العراق حضارته مع فجر التاريخ.
العراق والبحث عن فتنة
لقد أورث الاحتلال الاميركي العراق الذي دمرته مغامرات صدام حسين الذي افترض انه يمثل الغلبة السنية في الحكم، أزمة سياسية حادة ظاهرها طائفي، إذ انه سلم الحكم إلى الأكثرية الشيعية بقصد اكتساب ولائها، وفشل القادة الجدد الذين سلمهم الاحتلال السلطة في صياغة الوحدة الوطنية على قاعدة صلبة، فانقلب الخلاف السياسي الى مشروع فتنة، واتهم أهل السنة الشيعة بأنهم يكررون منهج صدام حسين مقلوباً. وبرغم أن رئيس الجمهورية (جلال الطالباني) من السنة إلا أن أهل السنة العرب لا يعتبرونه ممثلا لهم في السلطة فهو كردي.. بل يرون ان الشيعة يهيمنون على السلطة بعدما نقلت معظم صلاحيات الرئاسة الأولى إلى رئاسة الحكومة.
وإذا كانت «الانتفاضة الشعبية» في الانبار ـ غرب العراق – لما تتحول الى مشروع فتنة طائفية، إلا أن الأحداث الدموية في سوريا تلقي بظلالها على الأزمة العراقية، خصوصاً مع تبني حكام السعودية، ومعهم مجمل حكام الخليج الادعاء بان هذه «الانتفاضة» إنما تهدف إلى «إنصاف أهل السنة» حتى لا يصيبهم ما أصاب إخوانهم في سوريا من غبن وإقصاء عن القرار السياسي، ومنطقهم «استعادة» العراق للسنة يعوض»هيمنة» العلويين على سوريا..
بالمقابل فان حكم البحرين يمنع عن الأكثرية الشيعية في هذه الجزيرة حقوق المواطنة… وهو بالكاد سمح لهم بحق الانتخاب، فلما انتبه إلى أنهم سيحتلون مجلس النواب وفق أي نظام انتخابي عادل بادر إلى إنشاء مجلس للشورى له أكثريته، ثم رهن القرار دائماً بموافقة الأسرة الحاكمة… وحتى عندما حاول ولي العهد ونجح في اقتراح مشروع مقبول للتسوية فان «الأسرة» اعترضت وأبعدت «الشاب المتحمس» عن الجهود المبذولة من اجل حل مقبول. وبالطبع فان اتهام الأكثرية الشيعية بالولاء لإيران جاهز، برغم أن هذه الأكثرية رفضت الالتحاق بإيران دائماً وتمسكت بعروبتها في استفتاء اجري بإشراف الأمم المتحدة قبل ثلث قرن تقريبا، وحين كان شاه إيران إمبراطور المنطقة وأهل الخليج ينافقونه اتقاء لشره!
ولعل بين أسباب الشدة في التعامل مع انتفاضة أهل البحرين ان هذه الجزيرة تقع على بعد أميال قليلة عن أراضي السعودية (المنطقة الشرقية) وقد أقيم جسر يربطها بالبر السعودي… وهو الجسر الذي قطعته القوات العسكرية لدول مجلس التعاون (وأكثريتها سعودية بطبيعة الحال) لمواجهة الانتفاضة في البحرين وحتى لا تكون السلطة وحدها في مواجهة «الشيعة» بامتداداتهم الإيرانية المزعومة.
السعودية: حالة طوارئ دائمة
معروف طبعاً ان المنطقة الشرقية في السعودية تعيش في ظل حالة طوارئ دائمة، ليس لان فيها منابع النفط والمنشآت جميعاً بما في ذلك المصافي وموانئ التصدير، بل أساسا لان مجموع سكانها من الشيعة الذين يرون أنفسهم مضطهدين، إذ ينظر إليهم الوهابيون على أنهم «كفرة»، وتحرمهم السلطة من أي تمثيل وازن في مؤسسات السلطة برغم أنهم يشكلون حوالي 15 في المئة من مجموع سكان هذه المملكة المذهبة.
تبقى اليمن حيث يغلب الصراع السياسي على الخلفيات المذهبية، وان كان ثمة من يعتبر أن ظلم الجنوب وتدمير «دولته» التي أقيمت في السبعينيات ثم أسقطها اختلاف «الرفاق الشيوعيين» قبل أن تعيدها الحرب إلى الشمال، إنما هو ظلم له طابع مذهبي، لان الزيدية المحسوبة على المذهب الشيعي كانت صاحبة القرار في شطب الجمهورية ذات الأكثرية الشافعية… برغم ان قيادة الحكم في صنعاء اليوم «شافعية» ومن أهل الجنوب.
في البداية كان الحديث بالتأييد أو بالاعتراض يتركز على الجوانب السياسية وممارسات الأنظمة الحاكمة. أما بعد فورة الإسلام السياسي وتمكن «الإخوان» ومعهم «السلفيون» من ركوب هذه الموجة والوصول الى السلطة في مصر اساساً، وفي تونس وان بنسبة اقل، ومن دون أن ننسى ليبيا ، فقد اتخذ الحديث أكثر فأكثر الطابع الطائفي ثم المذهبي.
وهكذا فقد أُخرج الأقباط بداية في مصر من المعادلة السياسية..
ثم ارتفعت أصوات سلفية تخرج سائر المسلمين، من غير «الإخوان» والسلفيين، من الدين الإسلامي ذاته. فالتكفيريون في كل مكان، والتكفير منهج سياسي وليس أسلوب عبادة أو مجرد تشدد في تطبيق تعاليم دينية مفترضة في وجه الخارجين على الدين.
بالمقابل اخرج السلفيون والمتطرفون من أهل السنة الشيعة جميعاً من العروبة بداية ثم من الإسلام كله، واتهموهم في دينهم نتيجة تبعيتهم لإيران الزرادشتية… وسحبوا ذلك على «حزب الله» الذي يتولى قيادة المقاومة في لبنان، مغفلين مواجهته للعدو الإسرائيلي على امتداد عشرين عاماً أو يزيد، ثم نجاحه في إفشال الحرب الإسرائيلية على لبنان صيف العام 2006.
وفي سياق الحملات التكفيرية توجه إلى الشيعة في العراق التهمة بولاء مزدوج: لإيران وللولايات المتحدة بهدف تهميش السنة وإقصائهم عن السلطة تمهيداً للتفرد، وبدلاً من أن يحاسب رئيس الحكومة نوري المالكي على أخطاء السلطة بوصفه صاحب القرار فان الطرح يرتكز الى منطق طائفي، ربما بقصد استدراج تأييد دول الخليج التي صدر عن بعض المسؤولين فيها ما يؤكد الانخراط في هذه الحرب المذهبية، بينما تصدح بعض الفضائيات الخليجية بالتحريض على الفتنة.
ومن الضروري الإشارة إلى أن هذه الدعوات التقسيمية تلقى صدى من التأييد الضمني لدى الأكراد، الذين يرتاحون لانشغال الدولة المركزية في بغداد بهذه المخاطر التي تتهدد العراق في وحدة كيانه السياسي فيمضون قدماً في تحصين استقلالهم الذاتي في إقليم كردستان بحيث يقارب الدولة المستقلة مع الحفاظ على حصتهم من النفط العراقي ومن القرار السياسي في بغداد.
وكان ملفتاً للانتباه ان يتصدر المؤتمر الصحافي للقيادي البعثي (المطارد) عزت إبراهيم الدوري نشرات أخبار الفضائيات الخليجية بعدما تاب وأناب وهداه الله سبحانه وتعالى الى الإسلام الصحيح وانضم إلى ركب الساعين إلى تحرير العراق من الهيمنة الإيرانية.
بل ان بعض كبار المسؤولين في دول الخليج باشروا الحديث عن ثورة الإسلام الحق في العراق لاستعادة السلطة من غاصبيها.
ولولا شيء من التحفظ لاتخذت هذه الأحاديث طابع الدعوة إلى حرب شاملة لتصفية «جيوب الرافضة» وإعادة المضللين إلى فيء الإسلام الصحيح بالدعوة الحسنة وإلا بالسيف.
[[[[[
كثير من هذه التحديات والأخطاء السياسية التي تتوسل الفتنة طريقاً إلى السلطة والتفرد بها تتوقف على تطور الأوضاع في مصر، فإذا ظل الإخوان ماضين في نهج احتكار السلطة – مع إعطاء حصة ما للسفليين – وبالتالي في تبني منطق التحريض على الفتنة بإنكار إسلام المسلمين الذين لا يرون رأيهم في الدين والدنيا، فضلاً عن غير المسلمين، فان كارثة قومية شاملة تتهدد بلاد العرب جميعاً من أدناها إلى أقصاها.
حمى الله المسلمين من جهنم الفتنة، التي تطل برؤوسها مشرقاً ومغرباً.
تنشر بالتزامن مع جريدة «الشروق» المصرية