كانت مجموعة من الرجال والنساء حضرت احتفالا في منتجع سياحي وعادت لقضاء يوم في القاهرة تعود بعده بكامل عددها إلى المنتجع لحضور عرس. بعد العرس تنقسم المجموعة إلى فريقين، فريق يتوجه بعد يومين إلى أسوان لحضور عرس آخر وفريق يعود فورا إلى القاهرة ليقضي فيه يوم واحد يستأنف بعده السفر إلى جزيرة من جزر اليونان لم أعد أذكر اسمها لحضور عرس ثالث. مناسبة هامة استدعت أن التقي بأعضاء الجماعة خلال رحلتهم الأولى إلى القاهرة بعد حضورهم الاحتفال المشهود في المنتجع السياحي. وصلت فانقطع الحديث الدائر لنبدأ حديث المناسبة التي جمعتنا. استغرق حديث المناسبة حوالي الساعة وبعدها عاد أغلب الحاضرين إلى الحديث الذي انقطع بوصولي. فهمت على الفور أن الفساتين كانت موضوع الحديث الذي انقطع وأن هناك رغبة عارمة في الاستمرار في مناقشة هذه القضية كما لو كان لكل حاضر من الحضور مصلحة خاصة فيها. حاولت لدقائق معدودة أن أجد في الموضوع ما يستحق المشاركة في النقاش أو على الأقل الاستماع بدون مشاركة، لم أجد. أما وأن الجلسة مستمرة لدواعي اللياقة والذوق كان لا بد أن أتدخل لتوجيه النقاش نحو أمور أخرى قد لا تكون أكثر إثارة من الفساتين ولكنها أصبحت في الآونة الأخيرة محل كثير من الجدل والاهتمام. لم يعترض أحد، ومن غضب لم يكشف عن نفسه أو عن غضبه.
***
اعتذرت واعترفت. اعتذرت عن مقاطعتي حديث الفساتين فلست من خبرائها ولن أكون. ولي على كل حال موقف منها منذ رأيتها تتخلى ببساطة ودون قتال عن حقوقها لصالح البنطلون الجينز سليما كما كان عند إطلاقه أو ممزقا بل مهترئا في مرحلته الراهنة. ثم اعترفت. منذ اللحظة التي عرفت فيها أنني سوف التقي بجماعة حضرت حفل المنتجع وأنا متلهف للاستماع إلى ملاحظات وآراء عن السلوكيات الجديدة في مجتمع نخبة المشاهير. أنا أيضا ولأسباب عديدة مهتم مثلا بأحاديث الماكياج وصناعات التجميل بوجه عام. مهتم بشكل خاص بفهم تطور مفهوم الجمال عند المرأة المصرية وكذلك عند الرجل. لم أعد أخفي اقتناعي بأن السنوات الأخيرة شهدت، وتشهد، تغيرات هامة في نظرتنا كمصريين إلى الجمال. أتحدث عن جمال الإنسان، ولكني أتحدث أيضا عن جمال الأشياء والمدن والقرى والطبيعة نهرا كان أم صحراوات أم تلال وجبال وشواطئ وبحار. نعم تغيرت النظرة وأظن أن مفهومنا للجمال حتى المجرد تغير أو بصدد أن يتغير. الصغار في عائلتي لا يرون الجمال كما عرفته. حتى الكبار من عمري يقفون حيارى أمام نماذج جمال تحظى بالرضاء والتصفيق بينما بعض قلوبنا تنكفيء على ذاتها حسرة وانكسارا. قلت لهم أردت أن أسمع منكم وبينكم الشباب وأيضا الكبار، أسمع عن الجمال الذي تذوقتم هناك، عن مظاهره، عن سلوكياته، عن أدواته وآليات دفاعه وأخص منها بالذكر الماكياج، هذا الفن الذي ظل وفيا للإنسان، وبخاصة المرأة، منذ بدء الخليقة مرورا بعصور ازدهاره في زمن الفراعنة وعصور اندحاره في زمن الإغريق وأزمنة الظلام وانتهاء بيومنا هذا.
حكيت عن حب الإنسان للألوان. عشت بين شعوب كثيرة. كلها بدون استثناء تحب الألوان ولكن بعضها يحبها أكثر. تمنيت وأنا طفل أن أعيش بين الهنود الحمر، وقع هذا التمني قبل أن أعرف أنهم أبيدوا على أيدي الحجاج البيض الذين وفدوا على أمريكا هربا من الظلم والقمع في بلادهم. انبهرت بتلك المساحيق والألوان التي كانوا يصبغون بها وجوههم. ألوان ورسومات لمناسبات الحرب وأخرى للأعياد والصيد والأعراس. رأيت رسومات أخرى على وجوه الشبان الأفارقة المتسابقين بالرماح والعصي الخشبية للفوز بعروس فارت وصارت في رأي رؤؤس القبيلة جاهزة للزواج. رأيت هنود آسيا وهم يقدسون الألوان حتى جعلوا لها عيدا يطلون فيه الآلهة بالألوان التي تفضلها. حتى نهرهم المقدس تتلون مياهه في ذلك اليوم بألوان شتى. شعوب كثيرة عشت معها احتفالاتها الملونة. عشت مع البرازيليين يقضون الليالي يتلونون استعدادا ليوم الاحتفال الكبير. هناك وفي كل مكان ذهبت إليه كانت الوجوه هي التي تحظى بالنصيب الأكبر من التزويق، وكانت العيون والشفاه والخدود الأشد حظوة في سباقات هذا الفن الرائع، فن التجميل. وإن أنسى فلن أنسى الساعات التي قضيتها أتأمل عيون نساء الفراعنة. نساء وفنانون أبدعوا فخلفوا على جدران معابدهم وغرف الأبدية رسومات بقيت شاهدا على عبقرية فذة وفن راق، لهما الفضل الأكيد في وضع معايير للجمال تحكم وتتحكم إلى يومنا هذا.
***
فاتكم يا سادة وسيدات أن وراء نشأة هذا الفن ووراء كافة فترات تألقه وانتشاره موجات تمرد. تدخلت بهذه الكلمات صاحبة الدعوة، ثم أضافت قائلة “تعرفون أن الباحثين وجدوا علاقة مباشرة تربط بين قمع المرأة وإملاء شروط شكلها ومظهرها. المساحيق كانت دائما مكروهة في عصور الظلام والإظلام. ولكن ما أن تتاح ثغرة ضوء إلا وأسرعت المرأة في جرأة مشهودة لها تغير في تفاصيل وجهها ولو للحظات تخلو فيها إلى مرآتها أو بين صاحباتها. في كل مكان وفي كل زمان وجدت المرأة فرصة لتتحرر من قمع الرجال والكبار هرعت إلى المساحيق تتجمل بها وتحلم. كثيرون اعتبروا الماكياج طريقا نحو التعبير الحر عن النفس. تعرفون مثلا أن نساء نيويورك خرجن في تظاهرة كبيرة في عام 1912 من أجل الحصول على حق الانتخاب وقد وضعن أحمر شفاه زاعقا على شفاههن، تذكرون أيضا النساء المصريات وقد خرجن إلى ميدان التحرير في الأيام الأولى للثورة وقد تزوقن بالألوان المناسبة”.
***
تحفظت واحدة من الضيوف على القول بأن الماكياج في نشأته وتطوره اعتمد دور التمرد على هيمنة الرجل أو المجتمع على المرأة. تحدثت طويلا عن المرأة الفرعونية التي بحسب رأيها أبدعت في ممارسة فن الماكياج ولم يعرف عنها تعرضها لهيمنة قاسية من الرجل أو من الكهنة. بل إن دارسين للعصر الفرعوني شهدوا بأن ماكياج المرأة الفرعونية كان بالنسبة لهم دليل تمتعها باستقلال ذاتي ندر أن يوجد في ذلك العصر أو العصور اللاحقة. خذوا مثلا الحال في بلاد الإغريق حين كان الرجال يفرضون على المرأة وظائف لا يخرجن عنها، ومنها إدارة بيت الزوجية. رجال الإغريق، وبخاصة أعضاء النخبة السياسية الحاكمة، اعتقدوا أن جسد المرأة خطر يجب اتقاؤه، واعتبروا الماكياج عاملا يزيد فاعلية هذا الخطر.
***
طلب رجل التعليق فقال إنه كان دائما يريد أن يفهم السبب وراء هذا الاستثناء في تعامل الرجال، وبخاصة رجال السياسة، مع المحظيات والخليلات والراقصات، كلهن على امتداد كافة العصور ونظم الحكم وفي ظل مختلف الأديان حصلن على حق الاستخدام الواسع للمساحيق والماكياج بشكل عام والظهور به في الأماكن العامة. أضاف أنه لا يعرف الكثير عن ثقافة اليابان وموقع فتيات الجيشا في هذه الثقافة ولكنه كفنان كان دائما منبهرا بعبقريتهن في التزويق ورسم الوجوه وفي كونهن نماذج جمال. قال أيضا إنه لاحظ أن أغلب نساء العالم يفضلن الأبيض لونا لبشرتهن. يفعلن ذلك في شرق آسيا والشرق الأوسط وفي إفريقيا. وسأل لماذا لم يفلح اللون الأسمر في أن يكون كاسحا كقاعدة للجمال. لقد فرض الغرب على شعوب العالم تقاليده وأفضلياته والغريب أنه نجح في فرض لون البشرة السائدة فيه معيارا للجمال.
***
تحدث حاضرون عن الماكياج مستنكرين دوره المخادع. قالوا عنه إنه أداة كذب وتشويه للحقيقة ولا يجوز التمادي في استخدامها للتغرير بالرجل “البسيط!”. رد آخرون بينهم نساء تحمسن للدفاع عن الماكياج. قالت أفصحهن “دعوني أصرح أمام كل الرجال في هذه الغرفة بأن الماكياج ما هو إلا “بيان نسائي” نعلن عن طريقه رأينا في الأشياء. هو نوع من التمرد، وربما التخريب، إن شاء بعضكم استخدام هذه التسمية، وتعبير عن تمسكنا بالحرية. هو أيضا نوع من الخداع البريء والكذب الأبيض نعترف بهذا ونتمنى أن تتفهموه أيها الرجال. الغريب أنكم تطالبوننا بوضع المساحيق وأحمر الخدين وأحمر الشفاه ونحن نتأهب لكم. لا تغضبون يوم العرس من الماكياج الذي يكلفنا ثروة كثيرات من متوسطي الحال لا يتحملنها ولكنك تغضبون عندما تكون الخديعة غير متقنة. موقفكم هذا يذكرني بعبارة لبيكاسو أتى فيها على ذكر “الكذبة الصادقة” في الفن بكافة أنواعه. تعرفون كما نعرف أن الماكياج في نهاية الأمر ما هو إلا فن من هذه الفنون”.
تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق