لم يكتف الاسرائيليون بـ”صلب” السيد المسيح مرة اولى، بل انهم يتابعون صلبه كل يوم..
وها هم يطاردونه حتى كنيسة القيامة، في القدس الشريف، التي يفترض انها تضم آخر ما يشهد بنبوته من مقدسات، فيفرضون على الكنائس من الضرائب ما تعجز عن دفعه.. فلا يتحرك قداسة البابا، ولا تنزل جماهير المؤمنين، مسلمين ومسيحيين، لحماية ما تبقى من الاماكن المقدسة في “اولى القبلتين وثاني الحرمين”.
انها الخطوة الثانية بعد محاولة “شطب” المسجد الاقصى ومحاولات تهديمه عبر علميات التنقيب العبثية عن ” الهيكل” الذي لا دليل على وجوده في ذلك المكان.
القصد واضح تماماً: لا بد من شطب فلسطين التاريخية ومسحها عن خريطة الجغرافيا الطبيعية لهذه البلاد التي لم تكن في أي يوم “وطناً قومياً ليهود العالم”.. بل هي لم تكن، بمساحتها الكاملة، وطناً لليهود في أي يوم، وكان الكنعانيون فيها الاكثرية دائماً.
انها عملية ديناميكية استعمارية مستمرة: تزوير الجغرافيا بالتاريخ المزور “لشعب” لم يكن في أي يوم شعباً واحداً، ولم يكن من أُعيدوا إلى فلسطين شعبها او من شعبها في أي يوم، بل أن تزوير الهوية كان مدخلاً لتزوير الجغرافيا ثم التاريخ.
وتشهد كتب التاريخ جميعاً أن اليهود كانوا، على الدوام، أقلية في فلسطين، وان مشروع الكيان الصهيوني لا علاقة له بفلسطين التاريخية، ولا باليهود فيها.
وشهيرة هي الكلمات التي رد بها السلطان العثماني عبد الحميد على العرض البريطاني الذي قدم اليه “لمنح” فلسطين لليهود، في نهايات القرن التاسع عشر والذي كان مضمونه يقول: “لن اقبل أن يصيبني في فلسطين ما أصابني في لبنان..”
وكان يعني بذلك ما فرضته عليه “الدول” ـ وبالتحديد بريطانيا وفرنسا ـ من سلخ جبل لبنان عن السلطنة وإقامة ما سمي “متصرفية جبل لبنان”، بحيث تكون مستقلة عنها، وان ابقي للسلطان حق تسمية “المتصرف” من رعاياه على أن يكون مسيحياً… وربما لهذا كان معظم المتصرفين الذين تناوبوا على سدة السلطة في جبل لبنان من الارمن..
ولم يتبدل هذا الوضع الا بعد هزيمة تركيا (وألمانيا) في الحرب العالمية الأولى وانتصار الحلفاء، بريطانيا وفرنسا، اساساً، وان انضمت اليهما اميركا تالياً، عشية انتهاء الحرب.. وهكذا تقاسمت الدولتان المنتصرتان المشرق العربي الذي صار بعد استعماره غير ما كان قبله: وهكذا قُسمت سوريا الطبيعية، فالحق ما كان يسمى “الاقضية الاربعة” بمتصرفية جبل لبنان ليقوم الكيان اللبناني او الجمهورية اللبنانية، كما نعرفه اليوم… واقتطعت منطقة شرقي نهر الاردن من سوريا لإقامة “الامارة الهاشمية” فوقها، وأعطيت لبريطانيا مع العراق، في حين فرض الانتداب البريطاني على فلسطين التي كانت عربية في هويتها وشعبها، مع وجود اقلية يهودية فيها.
لكن هذه الاقلية اليهودية كانت عنوانا للمشروع البريطاني ثم الاميركي في ما يتصل بمستقبل فلسطين… وهكذا شجع البريطانيون يهود الغرب على القدوم الى “فلسطين” باعتبارها “الوطن التاريخي ليهود العالم”، وهو ما لم يكن صحيحاً في أي يوم.
كانت الحركة الصهيونية ناشطة جداً.. وتحركت في العالم كله تشجع اليهود على الهجرة إلى فلسطين وعلى شراء ما امكنهم من اراضي الفلسطينيين، وبالذات من اراضي الملاك غير الفلسطينيين الذين كانوا يملكون مساحات واسعة من الاراضي الخصبة في فلسطين (لبنانيين أساساً وسوريين وبعض الباشوات المصريين.. أيام كان “قطار الشرق” يصل ما بين مصر واوروبا عبر فلسطين ولبنان وسوريا.. وهو خط انشأه الالمان عشية الحرب العالمية الأولى، ثم اكمله البريطانيون للضرورات الحربية..)
.. وانفجرت الحرب العالمية الثانية مع نهاية الثلاثينات من القرن العشرين، فكانت الفرصة الممتازة لتدريب اليهود في جيوش الحلفاء ومن ثم “تصديرهم” إلى فلسطين مدججين بالسلاح.
ولقد تم تعظيم شأن “المحرقة” التي اقامها النازيون مستهدفين بها اليهود، واتخذت تبريراً إضافياً للتعويض عليهم على حساب شعب فلسطين.. وهكذا زاد ارسال طوابير من اليهود بعد تدريبهم وتسليحهم إلى الارض المقدسة، فقاتلوا اهلها ـ من ضمن تواطؤ معلن مع البريطانيين.
وفي 15 ايار 1948، انتصر الاسرائيليون بقيام “دولتهم” والحاق الهزيمة بالجيوش العربية التي لم تكن جيوشاً بالمعنى المعروف لكلمة الجيش، بل فصائل محدودة بسلاح فاسد من مصر وسوريا والعراق ومجموعات من المتطوعين العرب الذين جاء بعضهم مشياً على الاقدام او على ظهور الخيل او الجمال من اقطار مختلفة..
وفي 5 حزيران 1967 انتصر الاسرائيليون على العرب، مرة أخرى، والحقوا الهزيمة بالجيشين المصري والسوري، واحتلوا ما كان تبقى من فلسطين، بما في ذلك مدينة القدس التي كان الامير عبدالله ابن الشريف حسين قد الحقها بإمارته “شرقي الاردن” لتتحول إلى مملكة هاشمية.
ولقد دخل قائد الحرب الاسرائيلي موشي دايان القدس غير مصدق عينيه باكتمال “النصر” وتحويل فلسطين، بكل تاريخها، إلى اسرائيل..
*****
ها هي دولة العدو الاسرائيلي تعمل، بعد، على تهجير المسيحيين من فلسطين، فتفرض ضرائب ثقيلة على كنائسهم، بدءاً بكنيسة القيامة، يتعذر عليهم دفعا، بهدف واضح ومعلن: هو تهجير من تبقى من مسيحيي فلسطين الذين باتوا الآن اقلية معدودة إلى أي مكان خارجها..
.. والدول العربية يكتفي اقلها ببيانات الاستنكار، في حين تتزايد اعداد الزوار من الرسميين العرب إلى دولة العدو، وآخر الوفود جاءتها ن البحرين (برئاسة شيخ شيعي، من اجل الفتنة) ومن سلطنة عمان برئاسة وزير الخارجية، في حين استنكر وزير قطري (الذي كانت بلاده اول من “تبرع” فاعترف بدولة العدو) الاعتداءات الاسرائيلية على كنيسة القيامة..
“.. ويا فلسطين جينالك.. جينا وجينالك
جينالك لنشيل احمالك…”
تنشر بالتزامن مع السفير العربي