في ربيع العام 1970، التقيت، لأول مرة، القائد الكردي المعروف “لالا” مصطفى البرازاني، في “جلالا”، في المنطقة الكردية من شمال العراق.
كنا مجموعة من الصحافيين العرب والاجانب نقوم بجولة حرة في مناطق العراق، شمالاً وشرقاً وجنوباً وغرباً وان ظل المنطلق والمآب في بغداد بحاكمها المفرد صدام حسين، وان كان لقبه “السيد النائب” احتراماً لخاله ورئيس الحزب والدولة احمد حسن البكر.
كان مصطفى البرازاني بوجهه الذي قد من صخر، يعيش لحظة من الاستبشار بغد أفضل.. فلقد أقرت الدولة العراقية بحق الاكراد في الحكم الذاتي في مقاطعة كردستان ضمن سيادة الدولة بعاصمتها بغداد.
اجتهدنا، نحن الصحافيين، في محاولة استدراج “كاكا مصطفى” إلى الحديث المطول، ولكن عبثاً.. فقد كان يكتفي بإجابات مقتضبة لا تشفي غليل السائلين لا سيما منهم من كان يريد الاطمئنان إلى مستقبل العراق بشعب موحد وكيان سياسي متين.
كان بيننا مصور صحافي أوسترالي يدعى “روب”. ولقد اكتشفنا خلال هذه الرحلة كفاءاته المميزة، وبينها انه ظل طوال وقت اللقاء مع “الملا مصطفى” يدور من حوله ولا يكف عن إطلاق تكتكات عدسته فتلتقط له عشرات الصور، بل ربما المئات.
وعندما انهينا اللقاء مع الملا مصطفى البرازاني سألت “روب”:.. ولكن لماذا أهدرت كل هذه الافلام، والرجل في مكانه، لا يتحرك، ونحن نمطره بالأسئلة؟!
ورد “روب” ببساطة: انه رجل بلا ملامح. وجهه قطعة من صخور هذه الجبال. وما يهمني أن التقط له صورة مميزة. ولقد تعلمت في مهنتي أن عليك أن تعّود من تريد تصويره على وجودك ووجود الكاميرا، وبالتالي فلا بد أن تنسيه وجودك وتكتكات العدسة حتى يسترخي ويألف حضورك فيستعيد وجهه ملامحه الاصلية، وقد يبتسم ـ للحظة ـ او قد تلتمع عيناه حين تذكر له واقعة او اسم صديق عزيز، او اسم خصم شرس.. وعندها يستعيد ذاته وينسى موقعه الممتاز وينساني فتكون الصورة الناجحة التي اريد.
بعد سنوات من غياب هذا الزعيم الكردي سمحت لي ظروف عملي أن التقي نجل “كاكا مصطفى” مسعود البرازاني الذي ورث زعامة ابيه. ولقد تم اللقاء في دمشق، حيث كنت التقيت قبله الزعيم الكردي الآخر “كاكا جلال” أي جلال الطالباني، الشخصية الغنية ثقافياً وسياسياً، واحد أظرف من عرفت من اهل السياسة، و”رجل كل العهود” المساوم، المصالح، المقاتل عند الضرورة، والحريص على التميز بالموقف دائماً، الراضي بالاضطرار بالموقع الثاني في زعامة الكرد، صديق العرب ـ قادة رسميين وزعماء احزاب اشتراكية من دون استثناء.
كان مسعود البرازاني هادئاً جداً. حتى لتشك في اسباب هدوئه، بينما كل ما في المنطقة يغلي، خصوصاً وقد كان صدام حسين باشر حربه غير المبررة والمفتوحة على إيران الثورة الإسلامية.
قال مسعود: أن النظام العراقي لم يحترم تعهده بالحل الذي ارتضيناه، وها هو يرتكب المجازر ضد ابناء شعبنا. وهذه حلبجة تشهد. مع ذلك فلن ننقض الاتفاق من جانبنا، او ما بقي منه، ولكن من يضمن صدام وسلوكه غداً؟ اننا نريد حقوقنا في ارضنا كاملة.. وعلى العرب مساعدتنا على تمتين الاخوة معاً بتمكيننا من هذه الحقوق، مع التأكيد اننا لا نطلب الانفصال ولا نريده، ونعرف أن لا قدرة لنا على تحمل اعبائه.
*****
ها هو مسعود البرازاني، الآن، يتقدم نحو حافة الخطر، فيتجاهل نصائح الدول الكبرى، شرقاً وغرباً، ويمضي قدماً نحو اعلان استقلال “دولته” التي اعلنت الولايات المتحدة الاميركية وايران وتركيا ومعظم الدول العربية انها لن تعترف بها.. ونصحته بالتراجع عن هذا القرار الانتحاري والقبول بالصيغة المعتمدة حاليا والتي تعطي “الاقليم الكردي” نوعاً من الاستقلال الذاتي، وتسمي كرديا على رأس الدولة العراقية، وتعطي الاكراد حصتهم في المجلس النيابي وفي الحكومة .. بل أكثر من حصتهم بما يستفز العرب.
معروف أن الاكراد يتوزعون على دول ثلاث، اساسا، هي: العراق وتركيا وإيران، مع اقلية في سوريا.
ولعل هذا الشعب الذي قذفته الاقدار إلى الجبال، عند التقاطعات بين دول تاريخية قوية هي إيران وتركيا والعراق، يعاني مشكلة توزعه بين ثلاث دول.
لكن الحل لا يمكن أن يكون بالقوة.. فالإرادة الدولية هي المرجع.. ولن تضحي دول ثلاث بكياناتها المعترف بها دوليا، وبوحدة شعوبها في دولها (وهي من اعراق ومن اديان وطوائف مختلفة)، لكي ترضى اقلية كردية وزعتها اقدارها بين ثلاث دول فصار اكرادها من مواطنيها الطبيعيين.
يمكن أن يقال انه ظلم الاقدار، بالتاريخ والجغرافيا والواقع السياسي..
لكنه لا يجوز المغامرة بمصير اقلية اعطيت في العراق ما لم تعط في أي بلد اخر يشكل فيه الاكراد اقلية من سكانه.
وعسى توفر القيادة الكردية، ممثلة بمسعود برازاني على العرب والاكراد نكبة أخرى تحت عنوان استقلال سيكون بمثابة عملية انتحارية..
تنشر بالتزامن مع السفير العربي