فرض الدم الفلسطيني قضيته كطرف ثالث في »لقاء الشريكين« جورج بوش وأرييل شارون، كما فرض تقديم الموعد وتعديل جوهري في بنود جدول الأعمال ليستوعب الدلالات السياسية للتطورات الأمنية الخطيرة التي شهدتها الأرض المحتلة خلال غياب »السفاح« عن مركز حكمه الوطيد.
إذ لا بد من سبب أو أسباب جدية تدفع بعض الناس إلى تفجير أنفسهم »بالآخرين« تتجاوز توصيف هذه العمليات بأنها »بشعة« (كما رآها بوش) أو »دنيئة« (كما رآها وزيره كولن باول)، و»إرهابية« كما رآها الإثنان ومعهما شارون.
ولا بد من أسباب جدية تمنع السلطة الفلسطينية أو تُعجزها عن »منع« هذه العمليات، وعن التسليم بدمغها بتوصيف »الإرهاب«، الرائج الآن، وبالتالي عن اعتقال المنذورين للموت الذين ينفذونها ويمضون إلى لقاء ربهم مستبشرين!
ولن تصلح »أفغانستان« وما جرى لها وفيها ومن حولها نموذجاً أو دليلاً لفهم ما حصل ويحصل في فلسطين، ولن يفيد النصر الأميركي المؤزر هناك الشريك الإسرائيلي في مواجهة »محنته« التي يتسبب فيها تعنته وإصراره على القراءة المغلوطة بأساسها للموضوع الفلسطيني والتي تزين له أن يبدو »ضحية« كالأميركي في مواجهة »إرهاب« بن لادن الثاني أو »طالبان« التي أمَّرت نفسها بالقوة على شعب لم يقبلها.
سيضطر الشريكان، والأميركي بالدرجة الأولى، إلى الإقرار بأن فلسطين ليست أفغانستان بل هي النقيض تماماً: لا الشعب هنا منقسم حول الأهداف، بل ومقتتل حول غنائم الحرب نفسها، ولا تصادم بين الهوية الوطنية العربية وبين الإسلام، ولا الذين يقدمون دماءهم هنا رخيصة يزعمون أنهم »مجاهدون« وما هم إلا أفاكون ومرتزقة وتجار مخدرات كما الذين في أرض الأفيون.
كذلك لا ينفع هنا الخطاب الأميركي الذي فرض بالقوة على العالم حول »الإرهاب الدولي«، بل ان التجربة الفلسطينية تُسقط هذا التبسيط الأشوه والمتعمد لمفهوم الإرهاب لتعيد الاعتبار إلى نضالات الشعوب من أجل حريتها..
أكثر من ذلك وأخطر: ان هذه التجربة تكشف »إرهاب الدولة« الذي مارسته إسرائيل على امتداد عقود من السنين، والذي بلغ في السنة الأخيرة إحدى ذراه الدموية التي لا تترك مجالاً لأي التباس… فكيف يمكن جعل حجارة الأطفال أو هتافاتهم أو حتى تفجير الإنسان نفسه بقاتله، أعظم قدرة على إنجاز الإرهاب الأكمل من جيش الدولة الهائلة القوة بطائراتها الحربية وحواماتها (وكلها أميركية) ودباباتها ومدافعها فضلاً عن أسلحة الاغتيال الجماعي كالعبوات الناسفة لتلامذة المدارس وبيوت الفقراء؟!
هل يمكن أن يخطئ أحد في تحديد الإرهاب، بمصدره واستهدافاته وضحاياه، إذا ما نظر إلى فلسطين والاحتلال الإسرائيلي الذي يلتهم أرضها ويمنع على شعبها الحياة بحدودها الأدنى من الأدنى؟
إن العمليات الاستشهادية التي توالت على مدار الساعة، خلال اليومين الماضيين، لا يبدو أنها ستتوقف إذا ما ظلت المعالجة أمنية وقاصرة على ابتداع الأساليب الأكثر فعالية في »منع الإرهاب«، وإذا ما استمر تغييب القضية السياسية للشعب الفلسطيني والتي عنوانها حقه في الحياة فوق أرضه، وبالتالي حقه في إقامة دولته خارج »الحرم الأمني« لدولة إسرائيل وخارج هيمنتها المطلقة على أسباب معاشه، فضلاً عن أمنه وحرياته السياسية.
إن العمليات التي شهدتها القدس وحيفا وغزة، وقبلها العفولة والخضيرة، سيكون لها ما بعدها بالتأكيد، ولا تبدو لها نهاية طالما تمّ تجاهل الأسباب السياسية لثورة الشعب الفلسطيني، وطالما استمرت الإدارة الأميركية المستقوية والممتلئة غروراً وإحساساً بالعظمة أنها تستطيع أن تأمر فيلتزم الجميع بالموت صامتين، حتى لا يشاغبوا على نصرها المجيد على أفاكي أفغانستان، وعلى شبحها الهائل الامتداد الذي ترهب به الآن دول العالم جميعاً وتجعلها مجرد أداة منفذة لأغراضها ومؤكدة لهيمنتها المطلقة.
وإنها لشراكة مكلفة هذه العلاقة »الحميمة« بين الإدارة الأميركية وحكومة هذا السفاح الآتي من جنون القتل والذاهب إليه أرييل شارون.
بل لعلها تكاد تبدو الآن شراكة فاضحة للإدعاءات الأميركية، بقدر ما هي فاضحة »للعجز« الإسرائيلي عن تنفيذ متطلباتها بنجاح.
فكلما افترضت إسرائيل أن حاجة الأميركيين إليها ستشتد، من خلال موقعها في هذه المنطقة العربية وجوارها الإسلامي الفسيح، كان عليها أن تقبل خاضعة الصد الأميركي حتى لا يفتضح أمر التواطؤ بين واشنطن وتل أبيب بما يلحق الأذى بالمصالح الأميركية، وبما يكشف أكثر فأكثر طبيعة الدور القذر المكلفة به إسرائيل في أرض العروبة والإسلام.
من تجربة حرب التدخل الدولي ضد غزوة صدام حسين للكويت، قبل عشر سنوات، إلى أفغانستان، كان على الولايات المتحدة الأميركية أن تحاول إيهام »أصدقائها« العرب أن إسرائيل ليست شريكها فيهم،
ولقد دفع العرب في العراق (والجزيرة والخليج بل وفي كل دنياهم) ثمناً باهظاً لسقوطهم في فخ الخداع الأميركي بأنهم سيعوضون في فلسطين، إذا هم شاركوها »تحرير الكويت«.
لكن الأمر في أفغانستان مختلف جداً، وها هم العرب يدفعون غرم انسياقهم مع المطالب الأميركية لصد هجمة »الإلحاد السوفياتي« بإيمانهم الإسلامي، فإذا هم »المقتولون« والمشهّر بهم كمرتزقة وكدعاة فتنة وكمساندين لأعتى أصناف التخلف والقهر الإنساني، وإذا إسلامهم مادة تشهير يومية باعتباره يخرجهم من دائرة الحضارة الإنسانية.
… مبروك للجنرال زيني هذا النجاح الفائق الساحق المطلق في تحقيق وقف فوري لإطلاق النار!
ولعل هذا الجنرال الخبير في قيادة حروب العرب على العرب يفهم أخيراً ويُفهم إدارته أن العلة في أسباب إطلاق النار، وأن في قضايا الشعوب لا تكفي قوة النار وحدها لإبادة القضايا العادلة باعتبارها إرهاباً يتهدد الحضارة الإنسانية ومجتمع التقدم.. وحقوق الإنسان!
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان