فلسطين قضية سياسية عند العرب. هي في الوجدان العربي. لكن هناك من يصالح إسرائيل بالكامل، ويبني معها علاقات دبلوماسية وتجارية. وهناك من يعترف بها ويعترض على الاحتلال بعد عام 1967، فكأنه يوافق على ما احتُلَ قبل ذلك. وهناك من يعطي الاهتمام لمدينة القدس ويهمل شأن البقية، فكأنها لا تعنيه. وسط هذه الالتباسات، ربما كان ضرورياً التفكير في قضية إسرائيل بموازاة قضية فلسطين.
التمييز الفطري بين الدولة ونظام الحكم يضطرنا الى التمييز بين إسرائيل كدولة وإسرائيل كنظام. إسرائيل ليست دولة، إذ هي لا ترسم حدودها النهائية ولا دستورها النهائي، ولا تحوز رضى أكثر من نصف السكان على أرضها، بغض النظر عن شكاوى هؤلاء وهؤلاء من القمع والإذلال والطرد من البيوت والنهب بما يوازي التطهير العرقي.
هي سلطة نظام سيطرة وتمييز عنصري بين الإسرائيليين والعرب، من المسلمين والمسيحيين. الدولة هي ما ينفرز في ضمائر الجمهور حيث يصير الولاء لدى الفرد مطلقاً للدولة وإن كان معارضاً للنظام. النظام ومؤسساته يمارس الأبارتيد على العرب. وهذا يشبه أفريقيا الجنوبية قبل تحرير مانديلا وصيرورته رئيساً لدولة متساوية الحقوق بين المواطنين.
تعاني إسرائيل مأزق الدولتين. صار واضحاً أنها لا تريد دولة فلسطينية مستقلة الى جانب دولة إسرائيل. وقد صار معروفاً أن انعدام الدولة الفلسطينية سيؤدي تدريجياً الى تآكل الدولة الإسرائيلية. فإما أن توجد الدولتان معاً أو لا توجدان. البديل الذي تواجهه إسرائيل هو الدولة الواحدة التي تشمل اليهود والفلسطينيين. وهي لا تريد قبول هذا الأمر، لأن ذلك يجبرها على نظام التمييز بين السكان (الأبارتيد) أو الديمقراطية. نظام الأبارتيد غير مقبول عالمياً. النظام الديمقراطي الذي يشمل العرب أمر مرفوض لدى السلطة. المأزق هو أن إسرائيل تحول دون تحقق حل الدولتين ولا تستطيع تحقيق الدولة الواحدة.
تحقيق مطلب الدولة الواحدة يتطلّب طرد الفلسطينيين من أرضهم. وهذا أمر شبه مستحيل في ظل المراقبة الدولية. المشروع بحد ذاته يتطلّب الكثير من الجهد، والقبول لدى دول عربية محيطة تجد صعوبة في قبول تهجيرهم إليها، أو حرب إبادة ترتكب بحق الشعب الفلسطيني، وهذا لن يكون أمراً مستغرباً على إسرائيل أن تفعله.
أما مطلب الدولة الواحدة الديمقراطية، حيث يتساوى الجميع في الحقوق والواجبات. فإن قبول إسرائيل به يعني رسم الحدود، ووضع الدستور، والتخلي عن يهودية الدولة، والقول بدولة علمانية. وهي تعاني رفضاً داخلياً لذلك، بسبب غلبة العنصريين على النظام.
تنتهج إسرائيل سياسة القضم كي تحقق مبتغاها وتصير دولة يهودية، وذلك يؤدي بها الى عدم الاستقرار مهما بلغت من القوة والجبروت.
تحتال إسرائيل على نفسها وعلى بقية العالم. هي ديمقراطية للجمهور اليهودي وحسب، دولة أبارتيد بالنسبة للعرب. تسيطر على كامل فلسطين ولو أعلنت الانسحاب من هنا وهناك، لكنها تمارس السلطة الفعلية في كل مكان. تحتفل بالقدس عاصمة لها بحضور كبار الأميركيين، وتواجه المتظاهرين الفلسطينيين وبعض اليهود بالحديد والنار.
مأزق إسرائيل أنها ليست دولة، هي آلة حكم ونظام. النظام بمؤسساته يمارس القمع ويقوّض ما تدّعيه إسرائيل من ديمقراطية صورتها الحقيقية المشوّهة أمام العالم. ما يناضل العرب ضده هو النظام وليس الدولة (التي لم توجد بعد)، وليس الشعب اليهودي، الذي تعشعش فرق التطرّف فيه. يجوز للفلسطينيين الدعوة لإسقاط النظام، كما دعوا الى إسقاط النظام في بلدان عربية أخرى. الوجدان الذي يطلب إسقاط النظام في كل البلدان العربية تقريباً. ما دامت إسرائيل نظاماً لا دولة فإن النضال ضدها هو نضال سياسي من أجل إسقاط نظامها، قبل البلدان العربية. بالطبع، يدّعي الإسرائيليون أن كل من ينتقد النظام هو متهم باللاسامية. وقد صارت هذه الدعوة مكشوفة. معارضة النظام متاحة بل مطلوبة في كل بلدان الغرب الديمقراطية. يتظاهر الناس هناك ضد الحكومة لا ضد الدولة. نذكّر أن الدولة في إسرائيل غير موجودة. النظام هو الموجود. معارضة النظام شأن سياسي وحق لكل الشعوب.
أمنية إسرائيل هي بناء علاقات مستقرة مع مزيد من البلدان العربية. هي أمنية لا تتحقق. الوجدان العربي، حتى الآن، لم يقبل نظام إسرائيل. حتى مصر، ورغم اتفاقيات كامب دايفيد، اضطرّ المدعوون الى احتفالية إسرائيل في 14 أيار هذا العام الى التخفي. وعلى كل حال، حصلت الاحتفالية بحراسة أمنية مشددة.
إسرائيل اليوم غيتو اختياري. الغيتوات الأوروبية كانت إجبارية. ولا يخفى أن الحركة الصهيونية بدأت في أواخر القرن التاسع عشر في بلدان لم يكن فيها غيتوات. بالعكس، بدأت الصهيونية في بلدان رحّبت بالتماثل واندماج اليهود فيها، حتى ألمانيا والنمسا. المحرقة التي ارتكبها هتلر وأتباعه استفاد منها الصهاينة، إذ أدّت الى مزيد من الهجرة الى ما اعتبروه وطنهم. أنصار إسرائيل يقولون ذلك.
استندت العصابات التي أنشأت إسرائيل الى روايات كتابهم المقدس. وهذا أمر مرفوض شبيهه عند كل الشعوب الأخرى. الكتاب المقدس ليس تاريخا. أقدمية الفلسطينيين في أرض فلسطين أمر ثابت. لا دول أخرى تمارس السياسة من الكتاب الديني كما تفعل إسرائيل.
مأزق إسرائيل أنها رغم الابداعات التي حققتها في مجالات أخرى، فإنها لا تستطيع أو لا تريد الحل مع الفلسطينيين، وكذلك لا تريد حلاً مع البلدان المجاورة؛ وهي تعتبر أن استقرارها مهدد دائماً. فهي قد انتقلت الى غيتو طوعي في الوسط العربي، ولن تستطيع الخروج من الغيتو طالما ما زالت تمارس سياستها الحالية. الاندماج الذي هربت منه في بلدان أوروبية لا تريد، وربما لا تستطيع، قبوله في هذه المنطقة. هو أمر يتناقض مع الأيديولوجيا الانعزالية الصهيونية.
مأزق إسرائيل أنها كيان استبداد مرفوض، مثل كل الأنظمة الأخرى في أرجاء الأمة العربية. برهنت ثورة 2011 أنها ضد هذه الأنظمة، وكان شعار كل منها دعوة الى إسقاط النظام. لكن أزمتها الوجودية لا تقل أثراً عن أزمة عدم قبول العرب بها. تعاني إسرائيل من أزمة النصر كما تعاني من أزمة الهزيمة. في الوقت عينه ترفض إسرائيل أي حل.
ما دامت إسرائيل تتصرّف على أساس جبروتها، فإنها لن تنتهج طريق العقلانية. بالعكس يزداد استكبارها مع ما تراه من تردي الوضع العربي. الحل يتطلّب جرأة كبيرة من نظام إسرائيل، والقبول بحل الدولة الواحدة الديمقراطية. عندما جاء رابين بحل الدولتين قتلوه. حكم المتطرفون منذ ذلك الحين. يريدون دولة واحدة من دون عرب فلسطينيين. هذا الهدف لن يتحقق. عدم الاستقرار في إسرائيل ناتج عن محاولة إجبار الفلسطينيين بالقبول بما لا يمكن أن يرضوا به: مغادرة بلادهم. الغطرسة الإسرائيلية تزداد مع صلاتها ببعض الدول العربية سراً؛ وهي تظن أن ذلك سوف يصل بها الى حالة قبول لدى العرب. الوجدان الشعبي العربي لن يقبل بإسرائيل النظام لأنه يرفض الاستبداد والتمييز العنصري. أما معاملة اليهود في فلسطين كمهاجرين إليها فهذا شيء آخر. يقدم الواقع العربي، ربما التاريخ العربي، في المنطقة والعالم على الهجرة. والمطلب هو قبول المهاجرين أينما كانوا، سواء كان التهجير قسرياً أو إرادياً.
عندما أنشأ الإسرائيليون نظامهم، هل كانوا يتوقعون هذا المأزق في عمق الكيان الذي يخصّهم؟ هم لم يعودوا الى أرض أجدادهم. مستنداتهم التوراتية ليست تاريخية. هم جاؤوا مهاجرين الى غير أرضهم. حققوا معجزة تتهاوى عناصرها عند البحث المعمّق. عليهم القبول بواقعهم والإقرار بمأزقهم، وأن فلسطين يمكن أن تكون ملاذهم كما كان اليهود بين العرب عبر التاريخ. وذلك يتطلّب التنازل عن الغطرسة والاعتراف أن إسرائيل ليست دولة؛ هي مجرّد نظام قمعي. تكون الدولة عندما يقبلون أن يكونوا مهاجرين إليها. أي بحث في غير ذلك يعني بقاء إسرائيل بؤرة غيتو وسط بيئة لا تقبل بها كدولة بل تقبل، ربما، بدولة فلسطين ذات كمية كبيرة من المهاجرين.
قضية فلسطين العربية هي قضية الديمقراطية والحرية. قضية إسرائيل النظام هي قضية الاستبداد. صراع الشعوب العربية من أجل الحرية هو في صميم موقفهم الرافض لنظام إسرائيل.
تنشر بالتزامن مع مدونة الفضل شلق