أول ما يستقبلك في القاهرة القلق على فلسطين، وآخر ما تودعك به القاهرة القلق على الحاضر والمستقبل، حاضر العرب وليس فلسطين وحدها أو مصر بذاتها ومستقبلهم جميعا.
العجز موجع، والوضع العربي نهر متدفق من الأوجاع متعدد الينابيع، وأخطرها انعدام الخيار… ففي غياب القدرة على الحرب تتهاوى احتمالات التسوية فتصير استسلاما لا يقدر على »ارتكابه« أحد.
وفي ظل الانقسام في الرأي والجهد، ومع »بخل« المقتدر ماديا، ومزايدات العاجز عسكريا، وتلاقي مصالح كل الهاربين من المواجهة حفظا لمواقعهم ومداراة أو تجنبا للغضب الاسرائيلي، أو للاتهام الأميركي بالتقصير، يشحب دور القاهرة، تجسيدا لغياب التضامن وبالتالي القرار العربي.
… ومصر، اليوم، »فلسطينية« كما لم تكن في أي يوم، فلم تعد فلسطين قضية »خارجية«، بل لعل القاهرة ترى نفسها معنية بمصير ياسر عرفات والسلطة الوطنية الفلسطينية، فضلا عن سلامة الفلسطينيين في الأراضي المحتلة، أكثر من أي طرف عربي قطعا، وأكثر مما كانت هي ذاتها معنية ومسؤولة في أي يوم مضى..
ولعل الرئيس حسني مبارك كان يعرف، سلفا، أن إيفاد وزير خارجيته للقاء شارون لن يوقف المذبحة، ولكنه ربما أراد أن يوقف »الخطة« الشارونية (المعلنة) بتصفية عرفات والسلطة ومحاولة خلق حالة مريعة من الفوضى تدفع الفلسطينيين الى مهالك الحرب الأهلية.
على أن أخطر ما طرأ على الوضع الخطر في الأراضي المحتلة هو ابتعاد الموقف الأميركي عن موقع الوسيط ليتماهى أو ليتبنى أكثر فأكثر الموقف الشاروني.
فبعد انتصار الحرب الأميركية في أفغانستان وعليها، تحت لافتة »الإرهاب الدولي«، افتضح تماما الضعف بل التهالك في الموقف العربي، سيما وان العديد من الأنظمة العربية سارع الى شراء سلامته »ببيع حصته« من فلسطين، والخروج من ميدان المواجهة بل من الاعتراض على ما تقرره اسرائيل لها، مفترضا أنه بذلك إنما يشتري الرضا الأميركي الحافظ لعرشه والضامن لاستمراره.
ولقدجاءت عمليتا القدس وحيفا لتوفرا بتوقيتهما أساساً ثم بكثافة القتلى الاسرائيليين فيهما الذريعة للوسيط الأميركي لكي يبرر انحيازه الى »الضحية« موجهاً الى الفلسطيني تهمة »الارهابي« قاتل »المدنيين«، وموفراً لشارون الغطاء لكي يمضي في خطته، متسبباً في افشال مهمة الموفد المصري، رافعاً سقف التهديد بتحويل فلسطين السلطة بحيرة من الدم وركاماً من الخرائب، الى مستوى الاحتمال الجدي، بل والخطر الداهم.
وتتساءل القاهرة بمرارة: هل كتب عليها، وعلى معظم العرب، ان يدفعوا فاتورة افغانستان في الذهاب والاياب، ودائماً بالأمر الأميركي؟!
على ان التساؤل قد تحول الآن الى كابوس ثقيل الوطأة: فماذا لو نفذ شارون تهديده وصفى السلطة الفلسطينية؟!
ومع ان القاهرة لم تقطع الأمل تماماً من ان تتحرك واشنطن، في اللحظة الأخيرة، لمنع شارون من ارتكاب هذا الخطأ السياسي القاتل، الا ان القلق يملأ الأفق فيها بغيم أسود ثقيل الوطأة وينذر بطوفان رهيب…
… ولا عاصم الا الله، وله الأمر من قبل ومن بعد!
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان