لا بدّ من استخدام تعابير مثل العنصرية، واليمين المتطرّف، والفاشية، والأصولية الدينية، لوصف الغرب عموماً في موقفه من قضية فلسطين. ولا بدّ من التساؤل حول ظهور المكبوت فجأة بعد عملية “حماس” في غزة. كما لا بدّ من ملاحظة الفجاجة في إظهار هذا المكبوت، فكأن الغرب ضاق ذرعاً بالعرب، وضاق ذرعاً بالفلسطينيين لمثابرتهم على المطالبة بحقوقهم، حتى ولو كانت العمليات العسكرية موضع تساؤل.
أهم هذه التعابير هي العنصرية، أي اعتبار أن للإنسان خصائص مرتبطة بوجوده، مثل لون البشرة، وشكل الجمجمة، وحتى اللغة. وهذه تقرر سلوكه ومستواه الإجتماعي ودرجة ذكائه.
أما الفاشية، فهي المبالغة في الإنتماء القوي والإصرار على صفات يمتلكها عرق ما أو قومية تُميّزه عن غيره، وتمنحه صفات لا تُتاح لغيره. يتظاهر اليمين المتطرّف بالإبتعاد عن العنصرية والفاشية، لكنه يؤكد على “صفات” مالية وأوضاع إجتماعية تُقرّر للفرد موقعه من الحضارة والمجتمع. فالفقراء يستحقون ما هم عليه بحكم فقرهم. أما الأصولية الدينية فهي من قبض على الحقيقة. وهذه لا تكون إلا إلهية. وهي تُميّزهم عن غيرهم من البشر، ولا تكون إلاّ ذات أولوية، تهون عندها حيوات البشر الذين لوجودهم مرتبة ثانوية. فهم لا يصلحون إلا وقوداً للقضية.
لا قيمة للإنسان عند أصحاب هذه الأفكار إلا بمقدار إنتمائه للجماعة التي يؤمن بها الواحد منهم، وعلى كل من ليس منهم أن يكون على الصورة التي يستسيغونها هم وإلا كانوا خارج الحضارة والمدنية، معرضين لتهمة الإرهاب حتى ولو لم يرتكبوه.
يغتصبون أرض فلسطين ويُهجّرون شعبها مرة تلو الأخرى، وإذا عبّر الفلسطينيون عن أوجاعهم أو عندما يُبدي هؤلاء احتجاجهم بعملية عسكرية أو حتى بمظاهرة سلمية، فهم في نظر الغرب، الذي تسيطر عليه نزعات العنصرية والفاشية واليمين المتطرّف والأصولية الدينية، إرهابيون دون اعتبار منهم للإرهاب الكولونيالي في فلسطين وفي أنحاء الأرض قبل ذلك وبعده حتى الآن.
مع صعود النيوليبرالية، كشّر الغرب عن أنيابه ولم تعد تلزمه الليبرالية هذه التي سقطت بعد سقوط الإتحاد السوفياتي الذي كان يُخيفهم، خاصة من شعوبهم. زال هذا الخوف، فأمعنوا فيما سموه في القرن التاسع عشر “عبء الرجل الأبيض”. كشفوا القناع في أيامنا عن المستور في خفايا نفوسهم. ليس في اعتبارهم احترامٌ لما هو خارج الغرب.. وطبعاً الطفل المدلل إسرائيل. حرب إبادة غزة وأهلها أمام أعينهم، وبرغم ذلك، يُبالغون بتأييد إسرائيل ودعمها بالمال والسلاح والايديولوجيا.
كُتِب الكثير في الشرق والغرب حول كتاب “صراع الحضارات”، وفاتهم أنه برنامج عمل للكولونيالية في العصر الجديد أكثر منه تحليل للواقع العام.
عملية غزة ليست منعطفاً تاريخياً برغم براعة التخطيط والتنفيذ. برغم عظمتها، إلا أنها مجرد خدش في الجسد الإسرائيلي والغربي. لكن هؤلاء ينظرون للعرب نظرة استعلاء واستنكار، ولا يعتقدون أن العرب يستحقون مثل هذا الإنجاز، فتنهال عليهم التهم ويكال لهم الهجاء الذي بلغ حد اتهامهم، بالأحرى الفلسطينيين، بأنهم “وحوش بشرية”. معظم العرب لا يوافقون على ايديولوجيا “حماس” ولا بقية الإسلام السياسي، لكنهم لا يُلامون على إلحاق الأذى بإسرائيل، بل يستحقون الإطراء والتأييد. لذلك؛ فإن سلب أرض فلسطين وإنكار حقوق الفلسطينيون ومعاملتهم وكأنهم لا يستحقون إلا الاحتقار والمهانة، كل ذلك يجتمع تحت عنوان واحد هو ما نسميه جريمة العصر، والعصور السابقة واللاحقة (إن استمر وجود إسرائيل).
ليست إسرائيل بالنسبة للعرب مجرد دولة يُعترف أو لا يُعترف بها، بل هي الوجه الآخر لما يعانونه من تخلّف وتأخّر وشرذمة وخضوع لشتى أنواع الإستبداد. ليست إسرائيل سبب كلّ ذلك، ولا أي من ذلك. بل هي نتيجة لما يُذكّرهم دائماً على ما هم عليه من العجز والهزيمة والضعف.
وجود إسرائيل هو في الضمير العربي رمز لنقيض ما يتمناه العرب لأنفسهم من نهوض وتقدم واستحقاق لما يضعهم في صف الأمم التي يُنظر إليها بعين المهابة. إسرائيل عدو، وهي في نفس الوقت تمثّل العدو الكامن في نفس كل واحد منا. الخلاص في الذات العربية من العدو الداخلي في النفوس بما فيه من تهالك وهلهلة يؤدي بطبيعة الحال إلى الخلاص من إسرائيل. لا تجد هذه الدولة مكاناً لها على الأرض العربية إلا لأنّ العرب على ما هم عليه.
لا تضيق أرض العرب ببضعة ملايين إضافيين من اليهود أو غيرهم، بل هي تضيق بأي وجود ينكر عليهم عروبتهم، وينكر عليهم الرغبة في أن يكونوا حيث يريدون أن يكونوا، أو حيث يجب أن يكونوا، على سلم الوجود الاجتماعي والسياسي. إسرائيل نتيجة لا سبب. وهي نتيجة مهينة لسبب مهين في داخل كل منا قبل أن يظهر خارجياً. الخلل في الروح العربية، إذا كانت هناك روح لأي شعب من الشعوب. هو علة العلل. وما وجود إسرائيل إلا من مظاهر ذلك.
لم تنته الكولونيالية، وإن تغيرت أشكالها. إسرائيل وجه الكولونيالية الجديد في المنطقة. الدعم الكامل غير المشروط من قوى المركز الإمبريالي دليل على أنهم يُعوّلون عليها لتلعب دوراً ما؛ إلا في حال انتهت الإمبريالية إلى غير رجعة، ولم يعد لإسرائيل دوراً، لا سلباً ولا ايجاباً. من أهم أدوارها إثارة الحروب في المنطقة لإهدار الموارد. الدور الثاني، إثارة ردات الفعل ضد الأصولية والفاشية، وهي حالة من حالتهما، وإلحاق فاشيات المنطقة بها، عن حق أو غير حق، من أجل إثارة الحروب الأهلية؛ وقد نجح هذا الدور.
يستطيع أي فريق، سواء كان صغيراً أو كبيراً، أن يضع في سلم أولوياته العقيدية والايديولوجية قضية فلسطين والصراع ضد إسرائيل، ويجذب شعبية بناء على ذلك حتى ولوكان كاذباً، وحتى لو كان يتلاعب بالقضية الفلسطينية. المهم عند من يدفع هولاء إلى العمل، أو يقودهم في النضال، صرف النظر عن القضية العربية. ليست فلسطين على أهميتها جوهر القضية العربية، بل القضية العربية هي الجوهر. الفرق بين الاتجاهين كبير. ما تخشى منه الكولونيالية وقادتها في العالم هو القضية العربية. فكأن القضية القُطرية من ناحية، وقضية الأمة (الإسلامية) من ناحية أخرى، تحاصران القضية العربية. تحقيق ما للقضية العربية هو ما يخشى منه الغرب الامبريالي، وهو ما تجنّد ضده القوى العنصرية والفاشية واليمين المتطرّف والأصولية بأنواعها.
هم الكولونيالية هو أن لا نفكّر بخصوص عروبتنا بعقل سوي. من هنا كانت أشكال الخطاب اللاعقلاني من العنصرية إلى الفاشية هي ما يُسوّق له في ساحة الفكر العربي. ومن هنا كان الدور المحوري للقضية الفلسطينية.
تنشر بالتزامن مع مدونة الفضل شلق