..وبعد مائة عام من وعد بلفور “الذي أعطى من لا يملك لمن لا يستحق”، بينها عشرات السنين من المواجهات بين شعب فلسطين في وطنه والمستوطنين اليهود الذين صدرتهم المنظمات الصهيونية الى “أرض الميعاد”.
وبعد حرب بائسة خاضها العرب بلا استعداد، وبلا قدرات فعلية، فلا قيادة موحدة، ولا جيوش مستعدة، وبأسلحة فاسدة تقتل حاملها، انتصر المشروع الصهيوني واقيمت دولة اسرائيل فوق أرض فلسطين العربية، وتم تشريد شعبها في الجهات الأربع، وتم اخضاع من تبقى من الفلسطينيين داخل بلادهم لحكم عنصري متوحش، ينتزع مع مطلع كل شمس مزيداً من أرض أهلها ليزرع فيها المزيد من المستعمرات المسلحة..
أما بعد ثلاثة حروب أخرى، من ضمنها العدوان الثلاثي على مصر (1956) ثم حرب 5 حزيران (يونيه) 1967، وبعدها حرب 6 تشرين الأول (اكتوبر) 1973، فقد استقر الأمر للكيان الصهيوني على كامل الأرض الفلسطينية، وتسابق العرب الى الصلح بشروط اسرائيل وعلى حساب حقوق الأمة في أرضها بعنوان الشعب الفلسطيني.
كان لا بد من مسلسل من المساومات مع “المنتصر” لاستنقاذ الحد الأدنى من الأدنى من حقوق شعب فلسطين في أرضه، داخل الكيان الصهيوني، الآن، وفي وضع “الأسير” تحت عنوان “السلطة الوطنية” التي ليس لها أية سلطة ولا من وطن، في انتظار المقادير… بينما واصل العدو الإسرائيلي بناء مستوطناته على الأرض التي يفترض أن تكون للفلسطينيين متحدياً “السلطة” العاجزة، ومعها الأمة العربية بدولها الأشد عجزاً والمشغولة بهموم ثقيلة، غالباً في داخلها، عن “القضية المقدسة”.
وكان بديهياً أن يقدم رئيس المصادفة في الولايات المتحدة الأميركية على المغامرة المحسوبة: الإعتراف بالقدس (الغربية..) عاصمة لدولة إسرائيل.
لم ينتبه “العرب” بدولهم الكثيرة، التي بعضها أغنى من قارون، وبعضها الآخر أفقر من أن يجد الطعام والدواء والعلم في دولته الفقيرة، إلا عبر مهرجان خطابي في جامعتهم العتيقة برز فيه الموقف الأصلي والشجاع على لسان وزير خارجية لبنان بينما كان سائر الوزراء يتثاءبون…
على أن “الدول الإسلامية” المنضوية في منظمة المؤتمر الإسلامي تنبهت فتصدى رئيس حكومة تركيا (المتحدر من أصول اخوانية) للدعوة الى “لقاء عاجل” احتشدت فيه عشرات الدول، التي معظمها جائع بينما بعضها متخم، والتي للعديد منها علاقات علنية ـ أو سرية ـ مع دولة الكيان الصهيوني..
غاب، بالطبع عن هذه القمة ملوك الذهب الأسود، ورؤساء القدرات العسكرية (ما كان منها وما تبقى)، ورؤساء وأمراء ومشايخ “الدول” التي جعلتها المصادفات المتقاطعة مع المصالح الأجنبية “دولاً”.
وبعد ساعات قليلة كانت كافية لالتقاط الصور التذكارية لقبلات التلاقي بعد افتراق، والتفاهم بعد خصام، تمخض الجبل فولد بياناً هزيلاً ينذر ويتوعد ويرفع القبضات في الهواء، ثم انفض المؤتمر وسط عاصفة من التصفيق لعرض الأزياء الرجالية الأنيقة التي تميز بها صاحب الدعوة أردوغان و”ضيف الشرف” محمود عباس.
كان “القرار التاريخي” الجديد ـ القديم: الاعتراف بدولة فلسطين (المعلقة في فراغ الإرادة الدولية والعزيمة العربية) وعاصمتها القدس.. الشرقية، حيث كنيسة القيامة والمسجد الأقصى ومسجد الصخرة وغيرها من الأماكن المقدسة.. الى جانب “دولة يهود العالم ـ اسرائيل”.
أدى الملوك والرؤساء والأمراء والوزراء، قسطهم للعلى، وعادوا الى عواصمهم، سواء تلك التي فيها سفارات لدولة العدو الإسرائيلي (كما تركيا وغيرها كثير…) أو التي تستعد لاستقبال سفارات لهذه الدولة!
…وماذا بعد ؟؟
لنفرض، جدلاً أن ترامب قد تراجع عن قراره الهمايوني بنقل سفارة بلاده من تل أبيب الى القدس أو أرجأ تنفيذه لشهور أو سنة، فهل انتهى الأمر، وانتصر “العرب” و”المسلمون” ومُنيت إسرائيل بهزيمة نكراء؟..
هل نشكل وفود الشكر والتحية لقمة اسطنبول التي حققت ما لم يستطعه الأوائل؟
هذا من غير أن ننسى ان لتركيا سفارة في اسرائيل كما لإسرائيل سفارة في أنقره، وكذا العديد من الدول العربية والإسلامية.
ان اسرائيل لم ولن تتوقف عن بناء المزيد من المستوطنات والتهام المزيد من الأراضي الفلسطينية التي يفترض أن تكون من نصيب “السلطة التي لا سلطة لها”.
والدول العربية في شغل يشغلها عن فلسطين ..
بين حكامها من يشغله أمر العرش، بعد تطويع الأعمام وأبناء الأعمام والخؤولة، وشيوخ الوهابية، واستعادة ما يعتبره “ثروات وطنية مسروقة”، فضلاً عن حرب الإبادة ضد اليمن..
وبينهم من تشغله هموم توطيد العلاقة مع الكيان الصهيوني، ولا يهتم لنقل عاصمته الى القدس، بل يتبرع بأن يوفد وفداً شعبياً ـ باسم البحرين ـ ليجول في المدينة المقدسة، مؤكداً تمتع رعاياه جميعاً من غير اليهود، أي المسلمين والمسيحيين بحرية العبادة وسائر حقوق الإنسان..
وبينهم من تشغله هموم المصير، وهل تبقى الدولة، التي كانت ذات يوم قوية، وغدت ضعيفة ومفككة وبحاجة الى عملية إعادة بناء مكلفة وتحتاج زمناً، كما العراق وسوريا..
كما أن من بينهم من يحاول إعادة بعث دولته وتجديد كيانها، كما حالة ليبيا ما بعد معمر القذافي..
..وبينهم من يحاول انقاذ دولته من الموت مع رئيسها، كما حال الجزائر مع عبد العزيز بوتفليقة..
وبينهم من يحاول التثبت من أن اليمن، يمن ما بعد الحرب الظالمة التي تشن على هذا البلد العريق والفقير، والذي تهدر دماء شعبه، بمختلف أطيافه، أبناء العرب، فلا تحرك دولة من دولهم ساكناً لبذل وساطة أو شفاعة تنتهي بوقف هذه الحرب الهمجية التي تدك العمران وتشرد ملايين اليمنيين الفقراء والمحتاجين أنواع المساعدات الطبية والغذائية..
أما الدول الإسلامية ففي شغل شاغل يبعدها عن فلسطين ..
هل فكرت واحدة من هذه الدول، عربية أو اسلامية، باستدعاء سفيرها من واشنطن، ولا نقول انذاراً بقطع العلاقات، لا سمح الله، أو تجميدها، حتى يتراجع الرئيس الأميركي عن قراره.
هل فكرت دولة عربية سبق أن أقامت علاقات مع دولة العدو الإسرائيلي بالتهديد بتجميد ـ ولا نقول “بقطع” ـ هذه العلاقات معه حتى يتراجع ترامب عن قراره، توكيداً لحق شعب فلسطين في مدينته المقدسة، القدس، ولو مجزأة ومقسمة بينه وبين عدوه؟
قديماً قيل:
من يهن يسهل الهوان عليه وما لجرح بميت إيلام
أما اليوم فيمكن أن نردد مع محمود درويش: يا لوحدك..
لكن فلسطين لن تسقط، ولسوف تنتصر بدمها، كما في الانتفاضات الشعبية العظيمة السابقة، والتي تكررت في العشرينات والثلاثينات حتى بلغت الذروة في ثورة 1936 والتي شارك فيها المتطوعون العرب، وقادها بعض ثوارهم الآتين من ديار مختلفة، كما الشيخ عز الدين القسام، الآتي من سوريا، ومتطوعون من العراق وبعض أقطار الجزيرة واليمن، والمغرب فضلاً عن تركيا وإيران وصولاً إلى أبعد بلاد المسلمين عن فلسطين..
ولسوف يوجد بين العرب من ينجدها … ذات يوم، بعد أن يجد العرب أنفسهم.
تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق