تتفجر الخلافات بين الدول العربية بلا اسباب مفهومة وبلا ضابط للإيقاع مثل “المصالح العليا” او “ضرورة التلاقي والتعاون ضد العدو المشترك ـ اسرائيل”، او التكاتف في وجه مطامع الدول الاجنبية في الثروات العربية الخ..
أحياناً، بل غالباً ما تكون الاسباب “شخصية”، او لان حكام بعض الدول العربية “طارئون” على الحكم، وقد استولوا عليه بانقلاب عائلي (الملك سعود، مثلاً)، (امير قطر السابق ومن قبله الاسبق).. هذا من غير أن نستذكر الانقلابات العسكرية في العديد من الدول العربية (ليبيا، تونس، العراق ومن قبلها جميعاً سوريا وآخرها، حتى اشعار آخر اليمن).. والبقية تأتي!
مفهوم أن بعض الانقلابات العسكرية قد دبرتها او رعتها الدول الاجنبية، لأسباب تتصل بمصالحها، وان ظل الغطاء “الارادة الشعبية”!
أبرز المثلة وأخطرها الإنقلاب العسكري الأول في سوريا والذي قاده “المشير” حسني الزعيم، في العام 1949، مباشرة بعد نكبة فلسطين، والذي تبين في ما بعد انه بتدبير من شركة التابلاين السعودية والتي كانت تريد إقامة مصفاة للنفط في الزهراني قرب صيدا جنوب لبنان.
أما في بعضها الآخر، لا سيما في تلك المشيخات الخليجية التي صيرها النفط او الغاز “دولا” بأمراء وثروات خرافية، فقد تم “شراء” المواطنين من خارج البلاد، بل من خارج دنيا العرب، وصار لها جيوش من “المرتزقة” او من المطرودين من بلادهم، قسراً بالدكتاتورية او بالفقر، او بكليهما (الهند، باكستان، افغانستان، ثم فلسطين واليمن الخ..)
ـ الطارئ والمستجد، (منذ بضعة عقود) سقوط المرجعية العربية المرشدة وتوزع العرب أيدي سبأ بعد غياب القاهرة عن دورها القيادي..
ـ ثم كان تدمير العراق بالدكتاتورية والاحتلال الاميركي ثم “داعش” قبل انفجار مسألة الاكراد وتطلعهم إلى الانفصال.
ـ عدها او بالتزامن كان تدمير سوريا بالحرب فيها وعليها نتيجة اخطاء النظام وخطايا المعارضة وتدخل “الخارج” تركياً وعربياً ـ السعودية وقطر ـ
ـ ثم كان تعاظم دور الثروة، نفطاً وغاز، وحلولها محل “الثورة” بجماهير الفقراء والمضطهدين من الطامحين إلى مستقبل افضل..
… وهكذا، وبعد انحرافات وتطورات خطيرة، بل مدمرة، تم “نقل” المركز من العواصم التاريخية للوطن العربي، القاهرة ودمشق وبغداد، إلى عواصم النفط والغاز.
ـ والاخطر: غياب او تغييب قضية فلسطين كجامع مشترك له طابع من القداسة، “وحد” العرب كشعوب وان لم تتوحد من حولها الدول بحكوماتها ذات الارتباطات الخارجية متعددة الولاء.
حلت الفرقة، لا سيما بعد خروج مصر أو إخراجها من ميدان العمل العربي، الذي استتبع اخراج الجامعة العربية من القاهرة إلى تونس، ولو إلى حين، وتفرق العرب عشائر وقبائل مختلفة.
وحين “أعيدت” هذه الجامعة العجوز، فاقدة القدرة على القرار، والتي سقطت او اسقطت كمرجعية (سياسية او حتى معنوية) للدول العربية، على اختلاف انظمتها، انقطع الخيط الناظم لما كان يسمى “الموقف العربي الموحد او الجامع” وتفرقت الدول العربية أيدي سبأ.
اختلت المقاييس، وانعدمت المعايير، فصار الاصغر اغنى (بلا جهد) والاكبر أفقر..
حلت الثروة محل الثورة.. فتصاغر “الكبير” او صغرته التنازلات، فتعاظم “الصغير” حتى اعتبر نفسه مرجعاً، وأحيانا جلس في موقع القيادة..
وبعدما تراجع دور مصر، عربياً، تجرأت دولة صغرى مثل قطر على المطالبة بطرد سوريا من جامعة الدول العربية.. وهي من الدول المؤسسة لهذه الجامعة في منتصف الاربعينات من القرن الماضي، في حين كانت قطر مشيخة تربى فيها الجمال والاغنام.
بالمقابل، وفي ظل هذه الاوضاع العربية المتردية، تجرأ التنظيم الارهابي بقيادة “الخليفة ابي بكر البغدادي” والشهير باسم “داعش” على اجتياح العراق واحتلال عاصمته الثانية، الموصل، ومعظم شماله وشرقه مهدداً عاصمته بغداد… كما اجتاح وحوش هذا التنظيم شرق سوريا ومعظم شمالها، مهدداً لبنان، والاردن، مقدما عوناً غير متوقع للعدو الاسرائيلي.
تجرأت قطر على مصر فدعمت الاخوان المسلمين ضد شعبها، ومولت حكمهم الذي لم يستمر طويلاً، فسقط وكشفها..
تجرأت قطر، ايضاً، على سوريا، بعد شهر عسل طويل، فدعمت العصابات المسلحة بزعم انها “الثورة” فكادت تدمر اعرق المدن في الوطن العربي..
تجرأت السعودية، ومعها دولة الامارات العربية المتحدة، على اليمن الذي كان سعيداً، فشنت على البلد الفقير حرباً دمرت العمران وهددت اهله بالإبادة، خصوصاً وقد أعانها انتشار مرض الكوليرا في الدولة السابقة على التاريخ.. فضلاً عن غارات الطيران الحربي السعودي والإماراتي على اليمن، وشاهد العربي هذه الطائرات ذات الصواريخ المجنحة تدمر البيوت والمدارس والجامعات، في حين لم تكن تظهر إلا في الاستعراضات الملكية..
كان غياب مصر عن دائرة التأثير مفجعاً، ليس فقط لأن لم يكن لها بديل، بل لأنها في ظل قيادة مؤهلة كانت “مرجعية” موقفها أساس لأي قرار يوحد العرب معها ومن حولها..
ثم جاء غياب سوريا، بعد غياب العراق، فخلا الجو لأهل النفط والغاز، كباراً وصغاراً ليلعبوا في مسرح خال: يحاصرون سوريا، ويساعدون العصابات المسلحة عليها (داعش، النصرة، أحرار الشام، جماعة نور الدين زنكي…) يتواطأون على العراق بالشراكة مع تركيا، مما مكن لداعش أن تستقر في بعض أنحائه بعنوان الموصل لأكثر من سنتين.. ويضغطون على مصر بذهبهم.. يتقاسمون ليبيا بعد سقوط القذافي.. يحاولون بيع تونس للأخوان المسلمين.
****
في مثل هذه الأوضاع البائسة، وانتفاء المرجعية العربية الجامعة والمؤهلة لاتخاذ القرار، ومنع التهور والانحراف والغلط، والحد منه، يمكن لدولة نافذة مثل المملكة العربية السعودية ان تستدعي ـ بالأمر ـ رئيس حكومة دولة أخرى، لبنان، وتحتجزه فيها.. في غمرة الترتيبات لنقل العرش من الملك سلمان الى نجله، ولي العهد الوحيد، بعد تصفية ولي العهد الأول، الأمير مقرن، ثم ولي العهد الثاني الأمير محمد بن نايف، لتكون السلطة للأمير الذي سيغدو ملكاً مفرداً بعد حين، باسم الملك محمد بن سلمان.
لم تنفع المناشدات التي أطلقها لبنان، باسم رئيس الجمهورية العماد ميشال عون، ولا مطالبات القوى السياسية والدينية، على اختلافها..
كذلك لم تجرؤ الدول العربية، كبراها والصغرى، على المطالبة أو الطلب أو المناشدة والرجاء بإطلاق سراح الرئيس سعد الدين رفيق الحريري وإعادته الى بلده..
وحدها فرنسا، بشخص رئيسها ماكرون، الذي زار المملكة خارجاً على برنامجه المقرر، بعد انتهاء زيارته لدولة الإمارات، استطاعت “التدخل”، ثم أوفدت وزير خارجيتها الى الرياض “لإتمام الصفقة”… وهكذا أمكن “تحرير” رئيس حكومة لبنان “الشقيق” من محتجزه في السعودية “الشقيقة”!
لقد قدمت عملية الخطف الملكي المدبر في السعودية لرئيس حكومة بلد عربي آخر، هو لبنان، صورة مكبرة عن الخطايا فضلاً عن الأخطاء التي يمكن أن ترتكبها الأنظمة العربية القائمة..
… في انتظار أن يعود الرئيس ـ الرهينة إلى الحرية فيشارك، مع رئيس الجمهورية وكبار المسؤولين في الاحتفال بذكرى الرابعة والسبعين للاستقلال، في لبنان، وانتهاء عهد الانتداب الفرنسي الذي فرض عليه بموجب معاهدة سايكس ـ بيكو بين بريطانيا وفرنسا، في أعقاب الحرب العالمية الأولى..
فمن أين يأتي الغد العربي الأفضل اذا استمرت هذه الأوضاع المخزية؟!
تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق