بعد دهر من النسيان (بالأمر) عاد اسم عبد الحليم خدام إلى الصفحات الأولى في الصحف العربية، لمناسبة وفاته في المنفى الفرنسي..
لعلها المرة الأخيرة التي يستذكر فيها المعنيون من اهل السياسة والاعلام اسم هذا الرجل الذي كان “نجماً” و”صاحب دور مؤثر” و”حضور ملحوظ” في علاقات الحرب والسلام بين الدول العربية، كما بينها وبين دمشق حافظ الاسد على المستوى الدولي.
“رجل المهمات الخاصة”، المكلف “تهذيب” من يخرج على ما اتفق عليه مع “داهية دمشق”، الرئيس حافظ الاسد، و”تأديب” من يتجرأ فيحاول الاستعانة بالدول الاجنبية على “معاوية ـ الثاني” القابع في بيته في “حي المهاجرين” لا يخرج منه الا نادراً… بل ويرفض الانتقال إلى القصر الجمهوري الجديد الذي بُنيَ على احدى قمم قاسيون الجنوبية المطلة على دمشق وضواحيها جميعاً.. حتى مشارف حوران ودرعا في الجنوب السوري.
ولقد قبس “ابو جمال” عن “معلمه الذي لا ينام ” بعض البراعة في التفاوض، تم اكسبته صداقته الوطنية مع رئيس اركان الجيش والقوات المسلحة في سوريا العماد حكمت الشهابي بعض تقاليد العسكر في مواجهة الخصوم تمهيداً لاستدراجهم إلى المصالحة بالشروط المناسبة.
من هنا فقد كان الرجلان يشكلان مع بعض قادة الاجهزة الامنية وأولهم اللواء محمد الناصيف الذي عرفه الجميع باسم “ابو وائل”، والذي كان مسؤولاً عن “بيت الرئيس” وعائلته.. ومفهوم أن “بيت الرئيس” يشمل سوريا جميعاً، ويختص بالاستماع إلى تظلم من يرون انهم قد اهملوا او تم التخلي عنهم من “اصدقاء سوريا”.. كما عن الشعراء والادباء (العرب لا سيما الهاربين من العراق) والذين كان يرعاهم ويحفظ لهم ما تيسر من الاعتبار … حتى لو “اجبر” بعض زواره اللبنانيين على الاستماع إلى اشعارهم والثناء عليها: ثم اللواء غازي كنعان الذي تسلم ملف لبنان ، كمرجعية في السياسة والامن والاقتصاد الخ..
…ولان الرئيس حافظ الاسد لم يكن يحب السفر، الا “إلى حيث، يجب”. فقد صار على عبد الحليم خدام أن ينوب عن “السيد الرئيس” وان ينقل رسائله إلى من يعنيهم الامر، وسواء كانت لإظهار الغضب والاعتراض بصوت عالٍ تمهيداً لتحقيق الغرض، او للثناء على من يلتزم ودعوته “بإسم الرئيس” لزيارة دمشق.
بل أن الرئيس حافظ الاسد لم يكن يتورع أن يشكو لخدام سوء الاداء وتفاهة البرامج التي يقدمها التلفزيون السوري، طالباً اليه الاهتمام.
ولما تم تفجير الاوضاع في لبنان، بعدما نزحت المقاومة الفلسطينية بعجرها وبجرها إلى الاراضي اللبنانية التي تنتشر في انحائها مخيمات اللاجئين الفلسطينيين، تم تكليف خدام (ومعه العماد الشهابي) بالتواصل مع القيادة الفلسطينية بشخص ياسر عرفات، الذي جمع شخصه بين قائد فتح ثم رئيس منظمة التحرير الفلسطينية، وقد كان له مكتب في احد اهم شوارع دمشق … لكنه سرعان ما تخلى عنه، واستقر بألقابه واختصاصاته الواسعة وجماهيريته الناجمة عن الرمز، في بيروت..
صار لبنان، وانطلاقاً من بيروت الى المحافظات جميعاً، بثلاث رئاسات وثلاث قيادات للجيوش: الجيش اللبناني والجيش السوري الذي دخل إلى لبنان ضمن قوات الردع العربية (ثم انفرد بها)، ومعهما قوات المقاومة الفلسطينية متعددة الرؤوس بتعدد المنظمات، وان ظل قرارها الاخير في ايدي “ابو عمار”.
وكان طبيعيا أن ينشأ صراع على النفوذ في لبنان بين القيادتين السورية والفلسطينية وبين القوات المسلحة السورية والمنظمات الفدائية الفلسطينية.
كذلك كان طبيعيا أن يستعين عرفات بالتعاطف الشعبي مع المقاومة واهداف التحرير، وان يضمن ولاء بعض القوى السياسية في لبنان، مما تسبب في انشقاقات وحالات تمرد او ضياع بين القوتين الوافدتين، او بين السيف والذهب.
لهذا كله كانت مهمة عبد الحليم خدام صعبة، حتى لو جاء معززاً برئيس اركان الجيش السوري العماد حكمت الشهابي، وقائد قوات الردع التي دخلت لبنان بقرار من جامعة الدول العربية، وكانت تتكون من كتائب عديدة من بعض الجيوش العربية لكن كتلتها الاعظم من الجيش السوري وان حملت تسمية “قوات الردع العربية”.. ولمهمة تحمل عنوان حماية لبنان من الصدام بين القوات الفلسطينية والجيش اللبناني.
لفترة طويلة امتدت لسنوات، تولى عبد الحليم خدام، بتفويض من الرئيس حافظ الاسد، “رعاية الحياة السياسية في لبنان”… وهكذا ذهب إلى الرياض للقاء بشير الجميل حين استقر القرار الدولي على “اختياره” رئيساً للجمهورية، قافزاً من فوق زياراته المتكررة للقاء قيادات من الصف الاول في اسرائيل.
..وكانت دمشق قد مهدت لذلك بدعوة الشيخ بيار الجميل، رئيس حزب الكتائب ووالد بشير ومؤسس “الجبهة اللبنانية” لزيارتها ولقاء الرئيس حافظ الاسد، تحت عنوان مواجهة المقاومة الفلسطينية والنفوذ الاجنبي في لبنان.
لقد رحل عبد الحليم خدام في “بلاد الغربة”، باريس، بعدما “نفى نفسه” إلى فرنسا، حينما تعذر التفاهم بينه وبين “العهد الجديد” في دمشق، وخشي من أن يُقدْم الرئيس ـ الوارث الدكتور بشار الاسد على محاكمته وادانته بتهم عدة ابرزها “الفساد واساءة استخدام السلطة”.
ولقد استأذن الرئيس رفيق الحريري العهد الجديد في دمشق، أي الرئيس بشار الاسد في “أن يتولى امر عبد الحليم خدام وضمان صحته وعدم الاساءة الى سوريا وحكمها”.. فلما وافق الاسد ـ الثاني تم استئجار مقر اقامة مريح للرجل الذي شغل منصباً سامياً ولمدة استثنائية ولعب دوراً خطيراً ليس في الحياة السياسية السورية فحسب، بل في السياسية في دنيا العرب كافة، كمبعوث خاص او كوزير للخارجية او كنائب للرئيس (بلا عمل)… كما انه رعى واستولد بعض اهل الطبقة السياسية في لبنان.. والذين انكروه قبل صياح الديك!
تنشر بالتزامن مع السفير العربي