نشرت في جريدة “السفير” بتاريخ 5 كانون الثاني 2001
يتجاوز الشغف العربي بالموت وتقديس الشهادة والشهداء حدود المعقول أحيانا، حتى ليتوهم البعض ان العرب لا يكنون احتراما كافيا للحياة مع أنهم بين عشاقها من الرواد.
من دلائل هذا الشغف التباهي بأرقام الشهداء، فالعشرات ”أبهى” من المئات والآلاف أعظم وقعا من المئات، اما ”المليون” فهو الذروة التي لم تبلغها الا قلة من الشعوب التي تستحق مراتب البطولة والتي كان شعب الجزائر العربي الرائد والسابق الى احتلالها.
على ان الإحصاء العربي للضحايا يغفل في العادة ”شهداء” آخرين قد لا يحتسبون من بين البشر ”لكنهم” يعطون للحياة طعمها ونكهتها وبعض معناها، كما ”انهم” يؤكدون في الانسان علاقته الحميمة بالحياة.
وعلى سبيل المثال وليس الحصر فان البيوت والاشجار والبيئة (بمناخها وطيورها وفراشاتها وورودها ونباتاتها البرية) تسقط وتندثر من دون مشيعين ومن دون نعي ومن دون احتساب او حتى ذكر.
في لبنان بداية ثم في فلسطين الآن أقدمت إسرائيل وما تزال تقدم على اقتلاع الآلاف بل عشرات الآلاف من الاشجار، مثمرة وغير مثمرة، النسبة الغالبة بينها من أشجار الزيتون التي وردت الاشارة الى بركتها في معظم الكتب المقدسة.
كيف لا تحتسب أشجار الزيتون من بين الشهداء، وهي بين أسباب الحياة وبين أسباب العلاقة بالأرض واتصالها على مر الزمن، وبين ملامح الهوية للانسان في أرضه، فضلا عن كونها ظلت دائما مصدر العون في رزقه وبين عوامل صموده؟!
الارض مقدسة، في نظر الشعوب، ولو كانت صحراء قاحلة كالربع الخالي، فكيف اذا كانت عامرة بأهلها، واذا كان أهلها قد خضروها بعرقهم، فاستصلحوها واستزرعوها وملأوا جنباتها بالشجرة المباركة التي ”لا شرقية ولا غربية”؟!
ان الاعدام الاسرائيلي المتعمد للاشجار، والزيتون أساسا، في أرض فلسطين يجسد هذا الميل الغريزي عند هؤلاء الذين لم تربطهم يوما علاقة أبوة او بنوة او انتساب إلى أي أرض، بدليل انهم بمجموعهم قد هجروا البلاد التي ولدوا فيها وشرفتهم بهويتها وتركوها بغير ان يلتفتوا الى الوراء وجاءوا لاحتلال أرض لا تعرفهم ولا يعرفونها ولم يسقوها يوما بقطرة من عرقهم.
انهم يقتلون الاشجار كما يقتلون البشر: بالقسوة نفسها، بالشراسة نفسها، بغريزة الانتقام نفسها، بالعداء لحياة الآخرين (أهل الارض) نفسه.
شهداؤنا من الاشجار يستحقون شيئا من الذكر، وخصوصا ان الهتاف المحبب للمشيعين هو: الشهيد حبيب الله.
الشهيد بأرضه ايضا التي أعطته حياته ولون بشرته من تربتها المباركة التي تنبت تلك الشجرة التي كرمتها الكتب المقدسة حين جعلتها هوية سياسية كاملة.
ثم ان الاشجار تموت واقفة، وهذا بين أعظم معاني الشهادة.