تتصرف السعودية ومعها دولة الإمارات وكأن اليمن غنيمة حرب، خصوصاً بعدما أخرجت مصر ذاتها من هذا الميدان الذي يحمل لها ذكريات تاريخية مرة، ثم انها لن تكسب من هذه “الحرب” التي لا مبرر لها أي غنم.. بل هي ستخسر من رصيدها التاريخي لدى اليمنيين الذين ما زالوا يستذكرون تضحيات جيشها من أجل حماية الجمهورية فيها.
ومؤكد أن السعودية لم تكن تتوقع أن تستغرق حملتها العسكرية المدمرة على اليمن بعاصمته صنعاء ومعظم أراضيه بجبالها الشاهقة، والطرقات الوعرة، كل هذا الوقت (سنتان ونصف السنة حتى اليوم) وكل هذه الخسائر المرهقة في الضحايا والجرحى من الجنود، ثم التكاليف الهائلة التي تكبدتها من دون طائل… بل انها خسرت مع المال بعض سمعة جيشها الذي عجز عن تحقيق انتصارات جدية، وان كان قد هدم الكثير من معالم العمران في بلد الحضارة الأولى في الأرض العربية، فضلاً عن ضحاياه من البشر… خصوصاً وان حالة الحصار بالنار قد تسببت بضرب البلاد بالكوليرا، التي التهمت آلاف الأطفال والنساء وهددت بالموت آلافاً أخرى.
معروفة أطماع السعودية في اليمن وهي تاريخية ومعلنة، ولحربها الحالية عليها سوابق أخطرها أيام الملك المؤسس عبد العزيز آل سعود، وقد قاد الحملة حينها الملك فيصل، وبعد تعاظم الخسائر وتعذر التقدم أمره والده بالرجوع وان بقيت العين على صنعاء..
أما بعد اسقاط نظام الإمام أحمد حميد الدين وقيام “الجمهورية” بعد الإنقلاب العسكري الذي قاده العقيد عبد الله السلال في أيلول 1962 واستقر له الأمر بدعم عسكري مباشر من الجمهورية العربية المتحدة في عهد الرئيس جمال عبد الناصر، فقد اكتفت السعودية بشراء ولاء القبائل وتحريضها على القوات المصرية كما على الجيش اليمني الوليد، من دون أن تتورط بالتدخل العسكري المباشر.
وبديهي أن تكون السعودية قد تقبلت بشيء من الرضا قيام دولة يمنية ثانية في الجنوب بعاصمتها عدن، واثقة أن الدعم السوفياتي لن يستمر.. وان المساومة مع دولة صغيرة وفقيرة ولا تملك مقومات الحياة أسهل من المساومة مع دولة التاريخ، وان اقامتها تمنع عن اليمن فرصة أن يكون دولة كبرى في الإقليم… مع الانتباه إلى أن السعودية كانت تطمع “بشراء” بعض “بلاد المهره” في الجنوب للوصول مباشرة إلى بحر العرب ومنه إلى المحيطات… والاستغناء عن المرور في الخليج العربي وتحت رقابة الثورة الإيرانية.
هذا عن الماضي البعيد، أما في الماضي القريب فقد كانت السعودية تخشى اليمن واليمنيين، حتى من قبل قيام الجمهورية فيها. فاليمن دولة طبيعية لها تاريخها الممتد عبر الزمن، وهي بلاد جيوش الفتح الإسلامي، حتى ليقال أن الأندلس قد فتحت بعمامة مقاتل يمني..
أما السعودية فدولة مركبة، ثم انه لم يكن لهذه البلاد الشاسعة في مساحتها وتعدد التلاوين في سكانها دولة واحدة حتى الثلاثينات من القرن الماضي.. و”الوهابية” هي الدعوة السلفية التي أطلقها الإمام محمد بن عبد الوهاب واقيمت عليها الدولة السعودية بحد السيف وتلبية لمصالح دولية مؤثرة بعنوان بريطانيا، والتي حلت محلها الولايات المتحدة الأميركية مع نهاية الحرب العالمية الأولى واكتشاف النفط، لم تكن موضع ترحيب من سائر المسلمين… ولقد قاتلها السلطان العثماني بجيش محمد علي باشا، والي مصر، الذي أوفد حملة عسكرية بقيادة نجله ابراهيم باشا فدمرها واحتل “عاصمتها” الدرعية.. ثم تجددت الدعوة واشتد عودها مع تراجع السلطنة وتبدل الرياح واحتضان بريطانيا لها، حتى خلع الشريف حسين عن الحجاز وتركها لهم الوهابيين بمكة المكرمة والمدينة المنورة.. فقامت المملكة واستقرت بينما مات الشريف حسين منفياً في قبرص، وان عوض البريطانيون ولديه: الأمير عبد الله بأن اقتطعوا له من سوريا إمارة في شرقي الأردن، التي حولتها نكبة فلسطين إلى مملكة في أواخر الأربعينات من القرن الماضي… أما الشريف فيصل فقد نصبه البريطانيون ملكاً على سوريا ثم خلعه الفرنسيون فأخذته بريطانيا لتنصبه ملكاً على العراق .. الهاشمي.
على أن تلك أموراً أخرى فلنعد إلى اليمن..
بعد الثورة في العام 1962 وخلع الإمام، وتولي العسكريين بقيادة عبد الله السلال حكم اليمن بدعم مصري عسكري واقتصادي وسياسي، تزايد التآمر السعودي واللعب على المذهبية، في محاولة لاستمالة الشوافع ضد الزيديين.. وتحييد العسكر.
وعندما اعادت مصر قوة الدعم العسكري من اليمن، سادت الفوضى لفترة، وتعددت الإنقلابات العسكرية إلى أن استتب الأمر قبل حوالي ربع قرن للعقيد علي عبد الله صالح الذي تمكن بدهائه من اللعب على الحبال جميعاً، فصادق صدام حسين، ووالى الملك فهد بن عبد العزيز، وحالف معمر القذافي، واستقبل أمين الجميل الرئيس اللبناني الأسبق الذي كان موضع خلاف في بلاده.. كذلك فقد حاول ربط علاقة ما مع إيران الخميني، وفتح مع روسيا من دون أن يخاصم أميركا، وابتدع صيغة جبهوية للائتلاف السياسي بين المختلفين، كانت آخر نماذجها التحالف مع تنظيم “أنصار الله” وهو الحزب الزيدي، المتهم بعلاقة خاصة مع إيران الثورة الإسلامية.
بعد محاولات عدة لاغتيال علي عبد الله صالح، أمكن اقناعه بترك الرئاسة لنائبه “الجنوبي” عبد ربه منصور هادي الضعيف والذي استطاعت السعودية شراءه وتوظيفه في الصراع القديم..
ولم تنفع محاولات التسوية التي بذلها الموفد الخاص للأمم المتحدة الموريتاني اسماعيل ولد الشيخ أحمد، فقررت السعودية الحرب على اليمن، واندفع طيرانها الحربي بالشراكة مع طيران الإمارات في شن غارات مدمرة، استهدفت المواقع العسكرية حول العاصمة، والهجوم العسكري لإحتلال مدينة تعز وجهات أخرى في اليمن السعيد.
وسط هذه الحرب المدمرة ابتليت اليمن بداء الكوليرا الذي حصد المئات من الأطفال والأمهات، وأخذ ينتشر مهدداً بأن يعم الوباء البلاد خصوصاً وقد هدد عشرات الألوف من أهلها بالموت، لنقص الامكانات، مستشفيات وأطباء وأسباب علاج..
كان في عدة الهجوم أن تتهم السعودية ومعها الإمارات إيران بالتدخل ورعاية الحوثيين..
ثم بدأت تظهر مشاريع مستقبلية لهيمنة دولة الإمارات على المخا، وإقامة عسكرية فيها، بينما تلوح السعودية بالسيطرة على حضرموت بذريعة ايجاد منفذ على البحر والمحيطات..
لقد تم تدمير اليمن، بمبانيها القديمة ذات الأبراج والنقوش الجميلة، ومستشفياتها القليلة ومدارسها.. وفرض الجوع على أهلها فضلاً عن البطالة والفقر المدقع.
أن مملكة سبأ، إحدى أقدم الحضارات في التاريخ تكاد تندثر.. تحت ضغط اطماع الأخوة الأغنياء الذين لم يتورعوا عن استخدام اسلحة الدمار والقتل لتحقيق أغراضهم، بالعنوان الأميركي، على حساب أهلهم الفقراء في اليمن الذي كان سعيداً ثم غرق في دمائه والبؤس… إلى يوم الدين.
…ولا بد من صنعاء، ولو طال السفر!