يتبدى الوطن العربي، في هذه اللحظة من تاريخه، اشبه بأرخبيل من الجزر تتنافس في ما بينها على المرتبة الاولى في البلاد التي تطرد اهلها إلى أي مكان خارجها.. ولو في اقصى الارض.
واذا كان ابناء الدول العربية في شمالي افريقيا قد وجدوا الملجأ في بلاد مستعمرهم القديم، فرنسا، فان ابناء المشرق العربي يهيمون على وجوههم وهم يقصدون أي مكان يقبلهم.. حتى لو تعرضوا للتوقيف قبل نيلهم تأشيرة الدخول إلى جنة الغربة.
وشهيرة هي تظاهرة المليون جزائري التي استقبلت، ذات يوم مضى، الرئيس الفرنسي جاك شيراك، في قلب ميادين مدينة الجزائر بهتاف موحد: “فيزا، فيزا، فيزا..”، وكأنها رد مفجع على مذابح المستعمر الفرنسي التي ذهب ضحيتها اكثر من مليون شهيد خلال حرب التحرير..
ولقد بات الاتجار بـ”الفيزا” مصدر رزق لكثيرين في مختلف انحاء الوطن العربي..
الموجع أن “الاكفاء” من خريجي الجامعات والمهنيين المميزين يأتون في طليعة الراغبين في الهجرة.. أما الاسباب فتتجاوز تناقص فرص العمل في الداخل، وضيق مصادر الحياة، إلى “الرغبة بالتنفس” و”التفكير بحرية” والتخلص من اشباح المطاردات البوليسية والتضييق على حرية الرأي والمعتقد، فضلاً عن “البحث عن غد أفضل”.
على الضفة الاخرى، ونتيجة التفاقم في تردي الاوضاع المعيشية وانعدام فرص العمل، والتضييق على الحريات العامة، تعاظمت اعداد الشباب العرب الذين يهربون من بلادهم قاصدين الالتحاق بالتنظيمات الارهابية مثل “داعش” و”النصرة” وسائر مشتقات “القاعدة”.
وليس بين الاسرار أن اعداد الشبان التوانسة، اساسا، والمغاربة عموماً، تحتل مكاناً بارزاً بين الملتحقين بهذه التنظيمات الارهابية.. في حين ينتشر الليبيون الذين فقدوا دولتهم في كل اوروبا بعنوان مالطا ـ ايطاليا.
أما ابناء المشرق فيتوزعون بين مهجر، وهم الاكثرية، ومهاجر.. ويحتل السوريون المرتبة الأولى بين المهجرين (او النازحين تخفيفاً من وقع الكلمات).. ويأتي بعدهم العراقيون، وقد قارب عدد النازحين السوريين، في ذروة ارتفاعه الثمانية ملايين رجل وامرأة وأطفال.. الكثير من الاطفال.
وإذا كان هؤلاء النازحون قد وجدوا الملجأ في دول الجوار (تركيا، لبنان، الاردن) فان دول اوروبا، (ما عدا المانيا التي تحتاج إلى يد عاملة رخيصة)، قد اقفلت ابوابها في وجوههم، وكذلك الولايات المتحدة الاميركية، مع استثناء كندي محدود.
الظاهرة الجديدة هي الجمعيات الاهلية المرتبطة بمصادر تمويل خارجية (N.G.O) والتي انتشرت على نطاق واسع في العديد من الاقطار العربية، اولها مصر، ومعها لبنان ودول أخرى.. وهذه الجمعيات تشكل جسر عبور إلى بعض اقطار اوروبا فضلاً عن الولايات المتحدة الاميركية، التي “تتساهل” في منح جنسياتها للمتعاونين من اجل “المجتمع الافضل” و”حقوق الانسان” التي يمكن تفريعها إلى “حقوق الطفل” و”حقوق المرأة” وصولاً إلى “حقوق الحيوان” الخ..
فأما النخب الفلسطينية فقد وجدت من يشجعها ويسهل رحليها وتخلصها من وضعية “اللجوء” المهينة، او من حال الضيق داخل الارض المحتلة سواء تلك التي يحكمها العدو الاسرائيلي مباشرة او بواسطة “السلطة”.
أن النخب العربية تغادر اوطانها فلا تعود.. وعلى هذا فان الاقطار العربية، مشرقاً ومغرباً، تخسر نسبة كبرى من ابنائها الاكفاء (اساتذة جامعات، اطباء، مهندسون، علماء، كتاب ومفكرون الخ)…
وهكذا يتسبب هؤلاء في زيادة الفارق في نسبة التقدم بين دول الغرب الصناعية وبين بلدانهم التي تحاول الانتقال من الزراعة والحرف والبداوة إلى التصنيع ومكننة الزراعة والتقدم العلمي عامة.
لماذا تهرب الكفاءات العربية من اوطانها؟!
ولماذا يخرج الشباب العربي من بلاده إلى أي مكان في العالم يقبله ويتيح له فرصة عمل توفر له الامان في مستقبله ومستقبل ابنائه؟
لماذا تضيق الارض العربية الفسيحة بأهلها فيرمون أنفسهم في البحر للخروج منها طلباً للحياة، مجرد الحياة، في الغربة؟!
أن الاسباب عديدة، بعضها يتصل بطبيعة الانظمة الحاكمة، وبعضها الاخر بالزيادة المطردة في عدد السكان في البلاد المكتظة باهلها (مصر على سبيل المثال)، وبعض ثالث بضيق الحال وتناقص فرص العمل والدخل المقبول في الدول العربية الفقيرة بثرواتها (تونس، مثلاً، لبنان، اليمن، فضلاً عن فلسطين التي حرم اهلها من ارضها)..
على أن الاسباب السياسية المتصلة بطبيعة الانظمة الحاكمة في مجمل الدول العربية تشكل “القوة الطاردة” للأجيال الجديدة..
كذلك فان الانظمة الفاسدة التي تسببت في نهب الثروات الوطنية للدول المعنية تضيق ذرعاً بشبهة المعارضة فتطارد كل من يشكو من سوء الاحوال فتحصر خياره بين المقهر والمهجر..
بالمقابل فان انظمة “الدول” التي اصطنعها النفط والغاز، والتي لم تكن دولاً في أي يوم، تشترط على الآتين اليها بوصفها “النعيم” أن يتركوا افكارهم وعقائدهم وطموحهم إلى مستقبل افضل لأوطانهم خارجها، وان يدخلوها عراة من الافكار والعقائد لاهم لهم الا الدينار.
كانت البداية مع الافكار والعقائد السياسية، ثم توسعت دائرة المطاردة والقمع لتشمل الاديان والطوائف (الاسلامية خاصة).. وهكذا بات محظوراً على “انواع” من المسلمين أن يعملوا في معظم اقطار الجزيرة والخليج العربي.
ويذكر من عاش في انحاء الخليج في الخمسينات والستينات حتى الثمانينات أن بناة اقطار تلك المنطقة العربية كانوا يتكونون من الفلسطينيين والمصريين واللبنانيين والسوريين اساساً، إلى جانب العمال من “المهرة” قبل أن تبدأ سياسة احلال الهنود والباكستانيين والبلوش، ومعهم نسبة من المغاربة الذين هجروا السياسة، مكان تلك الطلائع المشرقية.
*****
أن الوطن العربي يعيش، حالياً، مجموعة من النكبات معاً، تضيف ابعاداً خطيرة إلى نكبة فلسطين لأنها تتصل بمستقبل الامة جميعاً.
لقد اختفت او ضربت فحطمت المؤسسات والاحزاب والشعارات القومية والتقدمية، وحل محلها الغرائز الطائفية والعصبيات الجهوية او التنكر للهوية العربية وكأنها وصمة عار.
سادت الاقليمية معززة بالعصبية الطائفية والمذهبية، وصارت “العروبة” تهمة، او اعلان انتساب إلى الماضي..
لقد ضربت لغة القرآن بتهمة التخلف، فهجرها ابناؤها العرب إلى “اللغات الحية” التي غدت، في الغالب الاعم، لغة العائلة، فضلاً عن كونها لغة الغد والعالم الجديد..
أما في السياسة فقد تم تمزيق الهوية الجامعة، فصارت العروبة تهمة، وتمت فبركة هويات جهوية او عنصرية او كيانية او .. اممية!
أن الاقطار التي حملت مشاعل التنوير والوعي الوطني والقومي، مثل مصر وسوريا والعراق (فضلاً عن لبنان) غارقة الآن في بؤس وفي تردي واقعها الاجتماعي وفي غربتها عن السياسة او نفورها منها باعتبارها مصدر خطر على الافراد والجماعات.
لا حزب حقيقي في الوطن العربي.. والتنظيمات السياسية العريقة اشلاء او نتف من تجمعات كان لها مجدها في الماضي وهي تعيش الآن على ذكرياتها.. والمسرح يتسع لـ(N.G.O) الممولة من الخارج، والتي يسمح لها أن تتحدث عن الديمقراطية وحقوق الانسان (ولو تحت الرقابة)..
بل أن الهوية باتت موضع نقاش، والعروبة صارت تهمة..
ليس سهلاً أن يقبل المصري او اللبناني او الجزائري او المغربي او الخليجي “اتهامه” بأنه عربي.. ذلك أن هويته الكيانية هي الاهم، لأنها غالباً ما تشكل مصدر ثروته او حمايته.
والعرب الاغنياء يتنصلون من “اخوتهم” للعرب الفقراء بل ينظرون بريبة إلى هؤلاء “الحاسدين” الطامعين في ثرواتهم .. ومن هنا منهم يفضلون عليهم الاجانب مع افضلية مطلقة للأميركيين ثم البريطانيين فالألمان فالفرنسيين وسائر الغرب..
من اين يأتي، اذن، المستقبل العربي إذا كان العرب قد غادروا ماضيهم وحاضرهم ومعهما هويتهم الجامعة؟!
تلك هي المسألة..
تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق