يعيش “العرب” مسلسلاً من الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، لا فرق بين أقطارهم الغنية بالنفط والغاز أو الخبرات والكفاءات (كمصر، ولبنان ..)، فاقمت منها وكشفتها ركاكة “العلاقات الأخوية” التي يفترض أنها تجمع بينهم برباط المصالح والمصير المشترك.
وإذا ما تركنا القضية الفلسطينية التي كانت تعتبر، ذات يوم، “مقدسة”، والتي تكاد اليوم تغرق في بئر النسيان، يتولاها العدو الإسرائيلي وحده، بلا شريك،
وإذا ما أرجانا الحديث عن مستقبل العراق المهدد بمخاطر مصيرية لا تقل فداحة عن الحرب على “داعش” وما كلفته من خسائر في الأرواح والعمران،
..وأرجأنا الحديث عن مستقبل سوريا المهددة في وحدتها والتي يحتاج اعادة اعمارها إلى ما لا تقدر عليه بإمكاناتها التي ضيعت الحرب فيها وعليها الكثير منها،
إذا ما تركنا ذلك كله وركزنا على الحرب الضارية الناشبة الآن بين السعودية والإمارات والبحرين (وقد انضمت اليها مصر مدفوعة بالثأر البايت) من جهة وبين الإمارة المن غاز قطر، من جهة أخرى، لتبين لنا أن العرب قد اندثروا أو انهم على وشك الاندثار.
لكأنما كان ينقص العرب هذه الأزمة الضاربة في الخليج التي فجرت حرباً ضروساً انطوى تحت لوائها الرباعي الذي أوله مذهب (السعودية) وأثقله وزناً بلد المائة مليون فقير، تتوسطه إمارات الشيخ محمد بن زايد الأغنى من قارون، وتتوسطه مملكة البحرين التي تعيش على “الشرهات” السعودية و”إيجارات” القواعد العسكرية الأميركية والبريطانية فيها.
..وهي أزمة متفجرة، حتى الساعة، وان بقيت مجهولة الأسباب، في الظاهر، لا يعرف أسرارها إلا بيت السر الأبيض ودوائر المخابرات البريطانية والروسية والفرنسية .. والإسرائيلية بطبيعة الحال.
لا قطر قادرة، لو زين لها غرورها، أن تنافس السعودية في الثراء والدور السياسي، فكيف اذا كانت مصر معها (ولو لأسباب غير أسبابها) وكذا دولة الأمارات العربية المتحدة ثم مملكة البحرين..
ولا السعودية، ومن معها، قادرة على شن الحرب على الجزيرة المن غاز قطر، لأن الأصحاب الفعليين للنفط والغاز لا يريدون مثل هذه الحرب بل يريدون استمرار تدفق الثروة عليهم، بأبخس الأثمان، ولذلك فهم يمنعون الحرب فيها ومن حولها حتى لا يتكلفون أكثر.
ثم أن من لم يعاقب قطر على التجرؤ على الإرادة العربية، والاعتراف بدولة الكيان الصهيوني ـ إسرائيل ـ وإقامة قنصلية إسرائيلية فيها سرعان ما تحولت إلى “سفارة”، ليس سهلاً عليه الآن أن يعاقبها بسبب خلاف “محلي” تتبدى فيه الولايات المتحدة الأميركية طرفاً راعياً لاستمراره من دون أن ينفجر، محتفظة بقواعد الحل وتوقيته بين يديها..
واذا كانت السعودية عزيزة على قلب الإدارة الأميركية فقطر عزيزة عليها أيضاً، بدليل الإهتمام الأميركي الفائق بالخلاف واستثماره مع طرفيه السعودي والقطري على شكل صفقات طيران وأسلحة قد لا تستخدم مطلقاً ولكن المهم أن تدفع أثمانها نقداً.. ومن الطرفين السعودي، والقطري، من دون أن ننسى الإمارات..
فالحرب بين ملوك النفط والغاز مجزية بالنسبة للغرب والشرق معاً.. ولذلك فقد شدت اهتمام واشنطن كما موسكو وبرلين كما باريس ولندن وأنقرة التي رفضت وساطتها فاكتفت بحصتها من الغاز، وشراكة في قاعدة العيديد العسكرية الأميركية، مع ما تيسر من نفط السعودية والإمارات.
ولقد واتت الوساطة الكويتية واشنطن لتعزيز وجودها القوي في كامل منطقة الخليج العربي، بذريعة مواجهة الطموحات الإيرانية، بينما حجم الفوائد الأميركية من هذا الوجود أغلى من أن يقدر بثمن، سواء على صعيد الأرباح المباشرة، أم على الصعيد الإستراتيجي في مواجهة إيران..
وصحيح أن أكثرية عرب الخليج هم مع السعودية ضد قطر، ولكن هذه الدول أقل شجاعة من أن تتخذ قراراً همايونياً كذلك الذي اتخذته بحق سوريا قبل خمس سنوات أو ست، “فطردتها” من جامعة الدول العربية ثم حشدت المنظمات ـ أصولية وعسكرية، بما فيها “القاعدة” و”داعش” لقتال نظام بشار الأسد على امتداد الأرض السورية.
لذلك بقيت الحفلة التشهيرية بقطر خطابية من دون قرارات “حربية”.. وحتى “المقاطعة” المعلنة تعرضت لاستثناءات أبرزها مع موسم الحج، ثم أن “الاختراقات” السعودية للنظام القطري تبدت كاريكاتورية، في حين ظلت “الجزيرة” أقوى من وسائل إعلام التحالف جميعاً، بسبب من تراكم الخبرات وليس نتيجة صحة الموقف أو سلامة القرار.
على أن هذه الحرب الخليجية قد أساءت إلى صورة العرب في العالم… فاذا بمشكلة عادية بين “الأشقاء الأغنياء” تلهب حرباً عشوائية طاولت كل معاني الأخوة والمصير المشترك، بينما كان العدو الإسرائيلي يجري أوسع مناورات عسكرية في تاريخه، يحاكي بها “حرب تموز 2006” ضد المقاومة الإسلامية (“حزب الله”) في لبنان فلا تثير احتجاجاً أو استنكاراً أو حتى اهتماماً وتساؤلاً عن أهدافها الحقيقية وضد من هذا التمرين بالذخيرة الحية على الحرب الجديدة..
… وبينما ينشغل العرب بحروبهم غير المبررة تمضي إسرائيل في اختراق دولهم، لا سيما في الخليج، سياسياً وعسكرياً وتتبدى طرفاً فاعلاً في الحرب على اليمن، ويهاجم طيرانها الحربي سوريا وهي منهكة في حروبها ضد عصابات الإرهاب التي اجتاحتها من أدناها إلى أقصاها، وضربت في لبنان ضربات “صوتية” لكنها ليست بلا صدى .. ولا تكف عن محاولة ابتلاع ما تبقى من فلسطين، وترعى عصابات الإرهاب التي لا تكف عن محاولة ايذاء الجيش المصري في سيناء.
بل أن اسرائيل تمنع التلاقي بين الفصائل الفلسطينية وتواصل ابتلاع أراضي السلطة الفلسطينية في الضفة ولا تتوقف عن بناء مئات المستوطنات في مختلف أنحائها، بما في ذلك القدس، مما يجعل مستحيلاً إقامة “الدولة الفلسطينية” العتيدة بعاصمتها القدس الشريف ..
أن “الدول” جميعاً، الغربية والشرقية، تتقاسم الآن غنائم الحرب الجديدة في الخليج … وها هم قادة دول الخليج يتوافدون على عواصم الغرب والشرق، يشترون المزيد من السلاح مقابل النفط والغاز، وتسقط السعودية ” الحرم” عن روسيا فتستقبل وزير خارجيتها، ويقرر الملك سلمان زيارة موسكو. وتوعز الرياض لرئيس حكومة لبنان بتمتين العلاقات مع روسيا، وإطلاق التعهدات عن المشاركة في اعادة اعمار سوريا بعد تورطه في حرب مفتوحة ضد النظام السوري لسنوات طويلة.
أن العالم يتغير .. والعرب يحاولون اللحاق متباعدين، متخاصمين، فيستدرجون دوله البعيدة إلى مزيد من التدخل في شؤونهم، وينسون روابط الأخوة في ما بينهم فتذهب ثرواتهم وقيمتهم السياسية هباء..
خير مثال أن العيديد في قطر، والتي كانت الممر البري الوحيد إلى الإمارات قد طمعت فيها السعودية فطلبت الدوحة الحماية الأميركية فكان الشرط الأميركي الإعتراف بإسرائيل، وهذا ما كان.
.. في انتظار اعترافات عربية جديدة بالكيان الإسرائيلي.
تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق