تجهيل الفاعل قضية معرفية كما هي سياسية. يمارسها أهل السلطة بكفاءة عالية. الجرائم المتلاحقة منذ عقود قتلت أبرز شخصيات البلد وصولاً الى انفجار مرفأ بيروت الذي سمي جريمة العصر قبل ثلاث سنوات. تشترك هذه الجرائم في صفة أساسية هي أننا لا نعرف الفاعل، ولا يفترض أن نعرفه.
التجهيل سمة المرحلة وهو قضية معرفية؛ لم يكن من قبيل المصادفة أن يتزامن ذلك مع عدد كبير من الجامعات اللبنانية الخاصة التي رُخّصت ليس من أجل العلم، بل من أجل تعليم الجهل. وقد كشفت فضيحة كبرى في السنوات الأخيرة عن إعطاء بعض هذه الجامعات آلاف شهادات الدكتوراه دون استحقاق علمي. هذه الجامعات نفسها غير مؤهلة معرفياً.
يُرادُ مواطنون جهلة ليس لديهم كفاءة إلا الخضوع للأوامر؛ حتى معرفة الدين تقتصر على التلقين بما يكفي لتأدية الطقوس. القضاء الذي يسأل غير مرغوب به. وقد حصل فعلاً تهديد قضاة وتنحيتهم عن التحقيقات. لا يُراد للقضاة وللمواطن كشف الحقائق ومعرفة ما جرى، كما لا يُراد للمواطن معرفة أي شيء عن التاريخ والعالم إلا ما يُلقّن. يعتمدون أسلوب الخطابات والتصريحات كي يكون اتجاه الخطاب إلى الجمهور باتجاه واحد.
يُمنع السؤال من الأدنى إلى الأعلى في أي مجال من المجالات، كما يُعتمد أسلوب التلقين في مجالات التعليم. ليس للمواطن أن يعرف أكثر مما يُراد له أن يعرف. معرفة بعض العلوم الحديثة ممنوعة، وتدريسها مُلغى من الجامعات التي تخص بعض جماعات الإسلام السياسي.
هناك تخمة في عدد الجامعات، خاصة الإسلامية منها، كما التخمة في الجهل والتجهيل. تستمع أو تشاهد نشرات الأخبار فتجد أنها مجرد عناوين دون شرح الأسباب والنتائج. تسمع تصريحات السياسيين فتؤمن أنها “مواقف” دون تعليل. جامعات ذات احترام لكن دون مراكز بحث. عدد قليل من الكتب يصدر كل عام، والصفحات تعجّ بالأخطاء اللغوية والإملائية. الجديدون في القراءة لا يحبون فعل ذلك بالعربية. فكأن الجهل والتجهيل سمة للثقافة الراهنة كما للسياسة.
لا ننسى قضايا الاقتصاد والمال. أنت لا تعرف “قيمة” أو “سعر” الليرة اللبنانية الحقيقي مع تعدّد أسعارها وتلاعب المصارف، بما في ذلك مصرف لبنان المركزي. تنتهي أنت وجيبك دون أن تعرف ماذا يساوي ما فيه، والأهم دون أن تعرف كم من المواد يُمكن أن تشتري وأنت داخل إلى المتجر.
سلسلة متواصلة متكاملة من الجهل والتجهيل، بما يُذكّرك بقول المتنبي:
وَمِن جاهِلٍ بي وَهوَ يَجهَلُ جَهلَهُ/ وَيَجهَلُ عِلمي أَنَّهُ بِيَ جاهِلُ
أهم سمات نظام الإستبداد، سواء كان طغياناً معلناً أو نظاماً ديمقراطياً، هي أن يكون الشعب جاهلاً لما يفعل النظام الحاكم، بالأحرى لما يرتكب أسياد النظام من جرائم على اختلافها. مثلاً، لا نعرف عدد مساجين الرأي في أي نظام استبدادي، ولا نعرف الجريمة التي ارتكبها أيٌ منهم، وأحياناً كثيرة يُسجن المرء دون محاكمة أو يحاكم بتهمة إهانة الوطن أو من يحكمه، حتى بتنا لا نعرف معنى الإهانة، كأن يقال إهانة شعور ما. وفي بلدنا لبنان، يحاكم كثيرون ممن يجاهرون برأي “مهين” أما الذين ارتكبوا اعتداءات فعلية وجرائم موصوفة من القتل إلى سرقة مدخرات الناس في المصارف فهم أحرار.
أما الجريمة الكبرى في مخالفة الدستور والقوانين، والتي كان مؤداها شغور الرئاسة والكثير من المناصب الأساسية في الدولة، فهي جريمة نتعايش معها، وكأنها قدر لنا. حتى الحكومة مستعارة بتسمية “حكومة تصريف أعمال”. مفقود نصاب الحكم في معظم السنوات الماضية، ولا نعرف من المرتكب الذي يتحمّل مسؤولية ذلك، أو لا يُراد لنا أن نعرف. يوم نشبت ثورة تشرين كان ذلك من أجل أن نعرف، لكن المعرفة اعتبرت حراماً لدى أركان أساسية في السلطة الفعلية.
الإخضاع عن طريق الجهل، بالأحرى التجهيل، سمة أساسية لنظامنا اللبناني الراهن، كما هي سمة أساسية لكل أنظمة الاستبداد.
“من يجرؤ على الكلام” عنوان كتاب صدر منذ عقود في الولايات المتحدة لقول الحقيقة بخصوص قضية فلسطين والصهيونية. هل سمّى أحدٌ ما من القضاة، مرتكب جريمة مرفأ بيروت الفعلي، مهما كان ثمن تلك التسمية؟ كاتب الكتاب المذكور في الولايات المتحدة سمّى الأشياء ولكنه لم يُقتل ولم يُحاكم.
الجمهور في لبنان ضحية النظام الحاكم وليس لديه استعداد للتسمية. والمُحيّر في الأمر أن نسبة المقترعين في كل انتخابات نيابية ما تزال عالية، فهل فقد الجمهور اللبناني زخمه التشريني وصار أكثر طواعية ومطواعية؟
تنشر بالتزامن مع مدونة الفضل شلق