ها هو التاريخ يُعيد نفسه مع عرب المشرق خاصة، بل العرب عموماً: فإذا بلادهم محتلة من داخلها ومن خارجها، واذا إرادتهم مرتهنة للأجنبي، اميركيا بالأساس ومعه بعض “الذكريات” الاستعمارية البريطانية والفرنسية الخ..
ليس من “دولة” عربية، كبيرة كانت ام صغيرة، غنية كما السعودية او فقيرة كما سوريا، تستطيع الادعاء انها حرة، وذات سيادة مطلقة على ارضها التي لا وجود لقوات اجنبية عليها ولا تأثير للأجنبي على قرارها يستوي في ذلك ما يتصل بالداخل ام بعلاقاتها مع الخارج.
قبل قرن كامل، كان هذا “الوطن العربي” يتأهب لاستعادة قراره، بعد انهيار السلطنة العثمانية إثر انتصار “الحلفاء” ـ بريطانيا وفرنسا ثم الولايات المتحدة الاميركية عشية الانتصار على جمهورية اتاتورك ومعها المانيا، قبل أن يفاجئه “الحلفاء” بتقاسم المشرق العربي بين بريطانيا وفرنسا: ثم اقتطاع شرقي الاردن من سوريا لإقامة امارة هاشمية للأمير عبدالله ابن شريف مكة ومطلق نداء الثورة العربية بالتحالف مع الغرب، وضعت تحت الانتداب البريطاني مع فلسطين، في حين أُعيدت صياغة “متصرفية جبل لبنان” بضم الجنوب والبقاع والشمال وبيروت اليها لاستيلاد “الجمهورية اللبنانية” بكيانها الحالي، في حين قُسمت سوريا إلى اربع “دول” لم تعمر ابداً فاستعادت هذه البلاد ذات التاريخ وحدتها منقوصة، وبالمقابل انشئت مملكة هاشمية في العراق ثار ضدها شيعته فأعطي الحكم للسنة بقيادة الملك فيصل الاول ابن الشريف حسين كجائزة ترضية.
ولسوف تخوض شعوب هذا المشرق نضالاً عظيماً من اجل الحرية، امتد لحوالي ثلاثين سنة، حتى تم اجلاء القوات الفرنسية عن سوريا ولبنان، في حين بقيت القوات البريطانية في العراق حتى تفجر ثورة 14 تموز 1958 فيه.
باشر الاستعمار القديم “تجديد شبابه” بعد انضمام الولايات المتحدة الاميركية اليه، فطرح صيغة “الأحلاف” بدلاً من الاستعمار المباشر (حلف بغداد، حلف الدفاع المشترك، ومن بعد مشروع ايزنهاور الخ..)
ها هي الارض العربية الآن تتسع لوجود عسكري (اميركي اساساً مع مشاركة رمزية من بريطانيا وفرنسا في العراق، وروسي في سوريا مع وجود عسكري أمريكي محدود في شرقها، وتركي في شمالها، وقاعدة حامات ومطارها العسكري تحت تصرف القوات الاميركية في لبنان.. وفي السعودية واقطار الخليج عشرات القواعد الاميركية والفرنسية، مع “وجود اسرائيلي” مقنع بالدبلوماسية في الامارات والبحرين).
يمكن القول، من دون خوف من الخطأ، أن المشرق العربي مسلوب الارادة والاستقلال مرتين: اولاً بالاحتلال الاسرائيلي المعزز بالدعم الاميركي المفتوح والإسناد الدولي من “الشرق” و”الغرب”، ومن دول غربية عدة، ثم بالهيمنة الاميركية المطلقة على دوله، مع مشاركة روسية محددة ومحدودة في سوريا.
على أن ثمة فوارق اساسية بين سنة 1919 وسنة 2019: فاليوم لا ثورات ولا احتمال بتفجر الثورة في أي قطر عربي (والله اعلم بما في الغيب..) وآخر الانتفاضات الشعبية التي جرت في تونس (بأفضال البوعزيزي) ثم في مصر سنة 2011 ـ 2012 انتهت بتجديد الدم في النظام القديم وسيادة مناخ الهزيمة والانسحاق والعجز عن التغيير في اربع جنبات الوطن العربي..
واذا كانت جريمة اغتيال الصحافي السعودي جمال خاشقجي في القنصلية السعودية في اسطنبول قد هزت مملكة الذهب والسيف، ومكنت اردوغان تركيا (ومعه ترامب اميركا) من ممارسة ابتزاز المملكة التي ستدفع غالياً “ثمن” هذه الجريمة الشنعاء، من دون أن يعني هذا أن ذيول هذه الجريمة قد انتهت، فلعلنا نشهد في المقبل من الايام الكثير من التداعيات التي سيفرضها الاعتراض حكم ابن سلمان..
بالمقابل فان جريمة الحرب الغبية على اليمن الذي كان سعيداً في ماضيه، والذي تفتك الطائرات الحربية والدبابات والمصفحات والمدفعية وجنود المرتزقة الذين جاءت بهم السعودية ومعها دولة الامارات من اربع انحاء الارض.. هذه الجريمة التي تمت المباشرة بمحاولة علاجها عبر اللقاءات بين اليمنيين بإشراف دولي، لن تنتهي الا بهزيمة مدوية للسعودية والامارات بدأت تلوح مؤشراتها بوضوح.
من أسف لا تظهر نجمة الصبح المبشرة بالتغيير في الافق حتى الساعة..
إن الوطن العربي يكاد يغرق بدماء ابنائه ويأسهم: في الجزائر والى حد ما في المغرب وتونس يهرب من استطاع إلى اسبانيا والبرتغال، وسعيد الحظ من يحصل على فيزا إلى فرنسا.
العراق غارق في دماء اهله، عاجز عن تشكيل حكومة، والطبقة السياسية المستجدة تجمع حشداً من النهابين والجهلة الذين لا يعرفون كيف يحكمون ارض الرافدين التي خاطب خليفتها العباسي هارون الرشيد الغيوم ذات يوم قائلاً: امطري حيث شئت، فان خراجك عائد اليّ!..
وسوريا تخوض، للسنة الثامنة، الحرب ضد العالم للحفاظ على كيانها ووحدة شعبها، يكاد يتقاسمها الاتراك والأمريكان فضلاً عن الروس الذين لهم “وجود شرعي” بقواعد ومطارات عسكرية..
مع ذلك، فما اضيق العيش لولا فسحة الأمل.
وبالأمل سنعيش ونعيد بناء وطننا الأكبر..
وكل عام وأنتم بخير!
تنشر بالتزامن مع السفير العربي