لا يترك الغرب، بدءاً بواشنطن وانتهاء بتل أبيب فرصة واحدة ولو محدودة للتعاطي مع الاتفاق الإسرائيلي – الفلسطيني وكأنه أخذ “العرب” بالاعتبار، ليس بمشارعرهم وأحلامهم وإنما بمصالحهم وهمومهم اليومية.
فالمنطق الغربي السائد في مخاطبة “العرب” يقوم على إن ما كان قد كان، وعلى أن العصا لمن عصا، وأنهم لم يكونوا ضروريين للاتفاق لكي يكون لهم رأي فيه!
بل إن “الاتفاق” يقدمط كمصلحة غربية (ومن ثم إسرائيلية) لا تتحقق إلا على حساب العرب، ولعلها تشترط غيابهم كقوة مؤثرة، بل غيابهم كأطراف تربط بينهم مصالح مشتركة قبل أن نصل إلى العواطف والمشاعر والوجدان الموحد والموحد.
ولأنه اتفاق “غربي”، ومن طبيعة معادية للعرب بمجموعهم،
ولأن شرط نجاحه أن يتفرّق العرب عبره ومن حوله وبواسطته وكنتيجة له أيدي سبأ، فينقسمون بين أقلية مؤيدة وأقلية معترضة أو متحفظة وأكثرية صامتة أو مغيبة أو عاجزة عن التأثير بالسلب أو الإيجاب،
لهذا كله يبدو “الفلسطيني” أضعف محام عن “الاتفاق” الذي ذيله بتوقيعه.
ولهذا تتزايد الحرارة في الدفاع عن “الاتفاق” وفي التعهد بحمايته في العواصم غير العربية بل والمعروفة تاريخياً بعدائها للعرب، تستوي في ذلك عاصمة الكيان الصهيوني وعواصم بعض الغرب “الصليبي” انتهاء بواشنطن التي تتصرف وكأنها تكمل بهذا “الاتفاق” إنجازها التاريخي بتدمير القوة العربية (المحتملة) التي باشرتها عبر “عاصفة الصحراء”، وتحاول إكمالها الآن بوسائل غير عسكرية وإن كانت أقسى وأعظم تأثيراً!
إنه “اتفاق” مفروض قسراً، وبغير مواربة أو تمويه.
وبغض النظر عما تدعيه القيادة الفلسطينية وعما تبتدعه من مبررات ومعاذير، بعضها صحيح وبعضها الآخر مختلق لدرء تهمة التفريط أو الانحراف أو التواطؤ مع العدو، فإن هذا “الاتفاق” كان عرضاً لا يمكنها رفضه لمليون سبب أولها إنه “العرض” الوحيد الذي كان يمكن أن يقدّم إليها،
وهذه القيادة تدرك حتماً أنها – بظروفها الذاتية كما بالظروف العربية والدولية السائدة – لا تستطيع بل ولا يحق لها أن تأمل بعروض أخرى وليس فقط بعروض أفضل!
هي نفسها لم يكن لها حق الخيار، فكيف ستستطيع أن تناقش أو تنسق مع سائر العرب حول ما تقبل وما ترفض… أو بالأحرى كيف سيمكنها أن تطلع الآخرين على العرض الذي لا مجال لا لرفضه ولا حتى للتبديل فيه؟!
والقيادة الفلسطينية تدرك حتماً صحة الاستنتاج الذي توصل إليه الرئيس السوري حافظ الأسد من أن “كل نقطة في هذا الاتفاق تحتاج إلى اتفاق آخر… وإن الاتفاق الآخر يحتاج إلى مفاوضات جديدة”.
وبرغم أن الرئيس المصري حسني مبارك لم يُعرف بدقة الاستنتاج فقد كان مضطراً لأن يلتزم جانب الدفاع الضعيف، ومضطراً بالتالي لأن يعترف “أن الاتفاق بداية وليس نهاية، وإحدى مشكلاته قد تكون المفاجأة في التوصل إليه”…
… والغرب يرى “الاتفاق” بداية، ولكن المرحلة تغدو فيها منطقة الشرق الأوسط بغير عرب. فيها “لبنانيون” و”سوريون” و”فلسطينيون” وبالطبع “إسرائيليون”. وفيها أيضاً “خليجيون”، وفيها “مغاربة”. وقد يكون فيها “أتراك” و”إيرانيون”. وفيها مع هؤلاء جميعاً، ومع كل منهم، “أميركيون” و”غربيون” بعضهم متحدر من أوروبا وبعضهم حديث الوصول من اليابان، ولكنهم “غربيون” في الرؤية وفي المصلحة.
لكن الغرب الذي اصطنع “المفاجأة” سيوظفها عبر “الاتفاق” وبسرعة لخلق واقع سياسي جديد يطمس ما كان لهذه المنطقة من تاريخ ومن سياسات ومن أهداف معلنة ومن شعارات وتنظيمات ونظم، ويدخلها إلى الطور الجديد الذي يجعلها مجرد حقل نفطي ومدى حيوي ومجالات استثمارية محروسة جيداً من الداخل ومن الخارج،
والحديث عن “هونغ كونغ” الجديدة على أرض ما تبقى مما كان يعرف بفلسطين هو حديث عن النموذج الذي يراد تعميمه في هذه المنطقة لتأمين المصالح الغربية عموماً، والأميركية خصوصاً، والإسرائيلية ضمنها،
الوطن شيء من الماضي،
لا أوطان في المستقبل، ولا هوية ولا انتماء ولا رابطة قومية ولا قضية عربية.
الكيانات – الشركات متعددة الجنسيات هي النموذج المطروح للمستقبل.
لا مجال بعد للوطنيات ولا للقوميات ولا للأمميات بالمعنى “الشيوعي” التقليدي.
ثمة أمميات جديدة ستنشأ على قاعدة المصالح والأسهم والأرباح.
الأمميات – الشركات.
أمميات “الجووين فانشير”.
والمال “الأممي” المطلوب الآن من أجل إنجاح تجربة “غزة – أريحا” هو مال سيوظف لإلغاء فلسطين نهائياً وليس لبعثها عبر هونغ كونغ أو سنغافورة الجديدة.
لن تبنى فلسطين جديدة للشعب المشرد.
ولن تقوم مدن نظيفة وحديثة لكي تعوّض أبناء المخيمات سنوات البؤس والشقاء كلاجئين في وطنهم.
المال المطلوب هو لمسح فلسطين نهائياً عن الخارطة ومن الوجدان، تمهيداً لفك العرب ونثرهم بحيث يرتدون إلى عناصرهم الأولى، عشائر وقبائل وكيانات وإمارات وسلطنات ودوقيات، بعضها على أساس طائفي والبعض الآخر على أساس مذهبي وبعض ثالث على أساس عرقي وبعض رابع هجين يبحث عن جواز سفر ولو من سنغافورة الجديدة أو هونغ كونغ “الفلسطينية”ز
إن الغرب الذي ابتدع الخريطة التي نعرف للمنطقة مع بدايات هذا القرن وعشية الحرب العالمية الأولى والذي استولد معظم دولها بعد الحرب العالمية الثانية، يحاول أن “يطورها” في اتجاه مع يخدم مصالحه الآن، مع نهايات القر، وفي ظل النظام العالمي الجديد.
فلكي تدخل نعيم هذا النظام يجب أن تخفف من حاضرك المستند إلى ماضيك.
وفي النظام الجديد لا شعوب ولا قوميات ولا أوطان.
فقط هناك “سيد” أوحد ومجموعة من الولايات بل الشركات البلا هوية وأسواق وبنوك وزبائن وعملاء وسماسرة، والكل في فلك “السيد” يدور، يعمل له وينتمي غليه ويعيش تحت حمايته فإذا كابر أو تمرد أو عصا طرد من “الجنة” فهلك جوعاً وعطشاً وغربة حيث لا منفى، لأن المنافي أيضاً تنضوي تحت لواء شركة من شركات “السيد” عابرة القارات!
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان