أعترف بادئ ذي بدء بأنني غير قادر على رؤية «السفير» من موقع المؤرخ أو الباحث أو المحلل السياسي. ليس فقط لأنني لا أمتلك العدة المعرفية اللازمة لمثل هذه المقاربات، بل لأن ما يربطني بالجريدة هو شيء يتجاوز المقاربة الذهنية، والتحليل المنطقي، والنظرة المجردة من التحيز والولاء الشخصي. ما يربطني بها هو تماماً ما يربط القلب بوريده، والشجرة بنسغها، والروح بصورتها في شظايا الحنين. ما يربطني بها هو أبعد بكثير مما يربط بين قارئ عادي وصحيفة يومية تحولت علاقتهما بحكم التكرار إلى ما يشبه الزواج الرتيب والممل. إنها علاقة أقرب إلى الشغف والافتتان والإدمان منها إلى أي شيء آخر، ولا أعتقد أن أحداً سوى الموت، أو توقف الجريدة عن الصدور، منوط بوضع النقطة عند سطرها الأخير.
قد يرى البعض في هذا الكلام نوعاً من مبالغات الشعراء الذين يفرطون في كل موقف أو عاطفة ويذهبون بهما إلى التخوم القصوى. وقد يرى فيه بعض آخر محاباة أو مجاملة للجريدة وصاحبها. ولكن كيف يمكن لشخص مثلي أن يضع الحب جانباً في علاقة «عاطفية» تأسست منذ أربعين عاماً، هي عمر «السفير»، ولم تزل تتجدد فصولاً حتى يومنا هذا. فقد صدرت الجريدة في العام الذي تلى تخرجي يافعاً من كلية التربية قبل أربعة عقود ولم نفترق بعدها إلا في ما ندر. أي أن الزمن الذي تقاسمته مع «السفير» فاق في مساحته كل زمن مماثل تقاسمته مع الأهل أو النساء أو المدن أو مسقط الرأس. إنه يأتي بذلك تالياً بعد ضوء العيون وتتابع الأنفاس وضربات القلب، ولكنه في جميع الحالات كان يسهم في بطئها أو تسارعها، في انتظامها أو خللها، في احتفائها بالحياة كما في تمرسها بالألم.
حين اختار طلال سلمان، مع نفر من رفاقه وأصدقائه، أن يصدر المطبوعة الجديدة التي بدت أشبه بمغامرة غير مأمونة في بلد يمور بالأحداث المفصلية والتحولات المتسارعة، لم يكن أحد يتوقع أن يطول عمر الجريدة إلى هذا الحد، أو أن تصمد بهذا القدر أمام العواصف العاتية التي أوقفت البلد وأهله غير مرة على شفير الكارثة. لكن «السفير»، شأنها شأن الأبطال التراجيديين، شاء لها القدر أن تظهر في لحظة حاسمة ومفصلية من تاريخ لبنان الحديث، وأن تداهمها الحرب الأهلية الماحقة بعيد أشهر قليلة من لحظات الاحتفال بالتأسيس. والحقيقة أن الجريدة قد وُلدت من حاجتنا إليها. من ذلك المكان الشاغر الذي أخلاه وراءه لبنان الستينيات وأوائل السبعينيات، حيث بلغ الحلم اللبناني تخومه الخلّبية القصوى وتقدم الكابوس ليحتل مكانه في صدارة المشهد. كان ثمة في جانب من الصورة لبنان المسرح والقصيدة واللوحة والأغنية والمنحوتة وأعمال الرحبانيين وصوت فيروز الأيقوني. وفي جانب آخر كان لبنان الخدمات والسمسرة والشقق المفروشة والاتجار بالملذات. كان إفلاس النظامين العربي واللبناني بعد السقوط الحزيراني المدوّي في جانب، وفي جانب آخر كان اليسار الجديد وصعود المقاومة الفلسطينية والتظاهرات العارمة لطلاب لبنان والبراكين الهائجة التي تغلي تحت السطوح الظاهرة للواقع اللبناني.
هكذا وُلدت «السفير» من المنازلة الصعبة بين صورة لبنان الآفلة وصورته التي لم يتم تظهيرها بعد. كانت على صورتنا ومثالنا، نحن المكتظين بالآمال والرافلين بالوعود والمصدقين ما ارتسم في عيني كمال جنبلاط من صور التغيير المثالية، قبل أن تتكفل رصاصات قليلة غادرة بوأد الأحلام في مهدها وإعادتنا جميعاً إلى بيت الطاعة «العربي» المظلم. ومع ذلك، فلم تكن الجريدة التي ظلت، رغم المخاطر، تواصل صدورها بالنيابة عن أحلامنا لترضى بالخذلان أو تعترف بحقائق الأمور المفروضة على الأرض. وكانت بعض «مانشيتاتها» لا تنقضي بانقضاء حدث عابر أو جولة بعينها بل تصلح أن تكون عناوين كبرى مرفوعة في وجه الزمان برمّته، كعنوانها العريض عشية سقوط تل الزعتر «ما سقط ولكن شبِّه لهم»، أو عنوانها العريض الآخر أثناء الاجتياح الإسرائيلي لبيروت عام 1982 «بيروت تحترق ولا ترفع الرايات البيضاء».
الفن والواقع
وفي الجانب الثقافي، أخذت الجريدة على عاتقها منذ البداية مهمة التوفيق بين موجبات الالتزام بتغيير الواقع وموجبات الالتزام بالشرط الإبداعي والجمالي. على أن ملاحقها وصفحاتها الثقافية لم تكن أبداً صدى آلياً لذائقة مؤسسها، أو لمفاهيمه وقناعاته المتعلقة بالأدب والشعر والفن.
وإذا كانت «السفير» قد احتضنت كوكبة الشعراء الذين أطلقت عليهم في مقتبل أعمارهم وتجاربهم تسمية «شعراء الجنوب»، فإنها لم تغلق الباب في وجه أحد، بل شرّعته واسعاً أمام حداثة الشعر الحر كما أمام قصيدة النثر، دون أن تتجاهل نصوصاً أخرى عمودية أو محكية. هكذا تفتحت في كنف الجريدة عبر حقبها المتعددة عشرات التجارب المخضرمة والجديدة، ومئات القصائد والمقاربات الفكرية والنقدية، قبل أن توضع في ما بعد بين دفتي كتاب.
لم تكن «السفير» متطابقة دائماً مع رغبات قرائها الكثر، أو مع العناوين المثالية التي أناطت نفسها بحملها في مقتبل الصدور. كان «صوت الذين لا صوت لهم» تقل نبرته أحياناً عن المتوقع أو المرتجى. وكان تحالفها مع بعض أنظمة «الممانعة» يفضي في أحيان أخرى إلى تغييب الهامش النقدي الذي يتطلبه الإخلاص غير المنقوص للحرية ولحاجة البشر المهانين إلى كامل حقهم في التعبير والتغيير وتداول السلطة. ومع ذلك، فإن الجريدة لم تكن يوماً جريدة القلم الواحد والصوت الواحد. وعلى هامش موقفها السياسي «الرسمي»، كانت ثمة مساحة معقولة للاعتراض وإيصال الصوت الآخر إلى من يهمه الأمر. كما أن الجريدة لم تركن إلى لغة خشبية أو يقين نهائي بل كانت، متفاعلة مع هواجس قرائها، تأنف من التخثر والتزام المواقف الدوغمائية، وتضيِّق ما أمكنها ذلك المسافة بين المتاح والمحلوم بتحقيقه.
على أن كل ذلك يبدو نافلاً وعرضياً إزاء علاقة الكثيرين، وأنا من بينهم، مع الجريدة التي قطعت بشجاعة نادرة عامها الأربعين، متجاوزة طلقات الترهيب التي سددت إلى فك طلال سلمان وقلمه الاستثنائي، ومتربعة على القمة الزمنية الأروع التي تجمع بين الشباب والنضج، والحيوية والحكمة. كل تدليل نقدي أو ذهني على قيمة الجريدة أو مكانتها يبدو عاجزاً عن البرهنة أو الإقناع بالقياس إلى الواقع الملموس الذي بدت معه «السفير» امتداداً لأرواحنا وأجسادنا وأحلامنا المؤجلة. فكل صباح لا تستهله الجريدة ناقص ومبتور وأعمى. وكل فنجان قهوة لا نرتشفه على وقع أعمدتها وزواياها وكلماتها بارد وباهت ولا مذاق له. وأيام العطل القليلة التي ينتظرها الكثيرون بفارغ الصبر ينغصها عليهم غياب جريدتهم الأحب. لقد اعتدنا أن نقيس سنوات عمرنا التي تصرمت في ضوء الصدور اليومي لـ«السفير». ولا أظن أننا سنقلع عن هذه العادة في ما تبقى لنا من أيام.
شوقي بزيع
السفير، 2132014