لم أعرف في حياتي رجلاً أكثر دماثة وأعظم ثقافة ومعرفة بشؤون العلم، بدوله المختلفة مثل سمير صنبر، العربي ـ الأممي ـ المولود فلسطينياً، المهجر إلى لبنان حيث عاش قضاياه عبر الصحافة، ثم الرجل الذي أمضى ثلثي عمره في الأمم المتحدة يتابع برفقة أمنائها العامين القضايا الكونية بالثورات والخيبات والنكبات، لا سيما العربية منها..
ولقد التقيت سمير صنبر مع بداية عملي، كصحافي، في مجلة “الحوادث” بداية، أواخر الخمسينيات، ثم في مجلة “الصياد” وجريدة “الأنوار” بعد ذلك.. وجمعتنا الصداقة، من بعد، مع البيك منح الصلح وشفيق الحوت، كما جمعتنا، في بعض الحالات، موائد الطعام في مطعم فيصل المواجه لبعض بوابات الجامعة الأميركية والذي كان يشكل منتدى ثقافياً وسياسياً ومجمعاً لأهل العلم والثقافة والأدب والصحافة من أساتذة الجامعة وخريجيها و”الفضوليين” و”الغاوين” من امثالي.
كان سمير صنبر أنيقاً في كلامه وفي قيافته، مزهواً بوسامته، يفيد من الإصغاء حتى اذا حبكت النكتة، أطلقها مدوية فضحكنا لها جميعاً.
لكن “الرجل الذي يعرف كثيراً” كان يتهرب من مطالبة الأصدقاء، وأنا منهم، بأن يكتب تجربته الغنية في “قلب الكون” الأمم المتحدة، حيث بدأ عمله مع موفديها الى منطقتنا ابتداء من بيروت، فالى دمشق، فالى القاهرة، فالى عواصم افريقيا، فالى عواصم أوروبا…
ولقد عايش سمير صنبر، الذي بلغ ذروة مكانته كمدير عام للإعلام في المؤسسة الدولية، الأزمات والحروب والنكسات العربية من ذلك المقر الأممي، حيث تنكشف العنتريات وهرطقة الخطب الحماسية، فرأى الدول والقيادات العربية عبر وفودها ومبعوثيها الى هذه المؤسسة الكاشفة وقد سقطت الأقنعة عن الوجوه، ولعله لهذا السبب بين أسباب أخرى لم يفكر بالزواج.
سمير صنبر المتقاعد الآن، والمتخم بالتجارب والخبرات، خصوصاً وانه عمل مع مجموعة من الأمناء العامين، بدءاً من هامرشولد، مروراً بيوثانت وفالدهايم وآخرين، هرب من “الكتاب” بما هو تأريخ لتجربته بكل ما حفلت به من وقائع ودروس نتيجة ما مر به العرب من نكسات (1967)، ومعاهدة (1973)، وما حققته اسرائيل من انتصارات لا تستحقها لأنها كانت أشبه بهدايا من القادة العرب المهزومين..
سمير صنبر، وفي انتظار أن يفي بوعوده في أن يقدم “لأهله” تجربته الغنية بوقائعها التي ـ بما يتصل منها بالعرب ـ يندى لها الجبين، أنجز بعد تردد هذا الكتاب اللطيف والمحزن باللطائف والطرائف والخيبات والهرب من مواجهة الوقائع..
هنا بعض المحطات التي سجلها هذا الكهل الذي ما زال يحافظ على وسامته ونضارة قلمه.. في انتظار أن يتحفنا بخلاصة تجربته الغنية قبل أن يطوينا معها الزمن.
الخطاب جاهز…
عندما تسلم الجنرال فؤاد شهاب رئاسة الجمهورية كنت في باكورة عملي الصحفي: أكتب صفحة في اسبوعية “الصياد” ما بين الأخبار والأسرار والتعليق.
أيامها، كان مطعم “فيصل” مقابل الباب الرئيسي للجامعة الأمريكية المقر الدائم والممر اليومي لأغرب وأوسع تشكيلة من أهل الرأي والرأي المضاد وأصحاب الأقلام المشهورة أو الشاهرة نصالها كحد السيف.
انطلقت التصريحات اليومية بأن خطاب القسم الذي سيلقيه الرئيس الجديد هو سر من أسرار الدولة لا يمكن الحصول عليه أو الوصول إلى أي فقرة من فقراته قيد الإعداد.
كنت حينها صديقاً لعدد من المحيطين بالرئيس اللواء (لم تكن رتبة “العماد” قد دخلت القاموس بعد)، إلا أن الذي أثارني وعدد من الزملاء أن موظفاً رفيعاً من رواد المطعم أخذ يحدث الجميع بصوت مرتفع بأنه ليس هناك ابن آدم يمكنه معرفة كلمة واحدة من الخطاب ملمحاً إلى أنه وراء السلطة الحقيقية للعهد الجديد! هذا بينما كنت أعرف أن الحقيقة هي عكس ذلك تماماً.
باحث، صحفي، أم…؟
توقفت في جنيف في الطريق بين نيويورك وبيروت. أرسلتني شركة الطيران إلى فندق قريب من المدينة القديمة، حيث فهمت من عامل الاستقبال انه يوناني الأصل، مصري المولد، وسويسري الجنسية بحكم الزواج من ابنة صاحبة المحل. بدا شديد الحماس لتأكيد اهتمامه بأمن وطنه الجديد. فما أن وصلت إلى المطار لاستمرار الرحلة قادماً من الفندق، حتى وجدت نفسي في آخر مقعد في الطائرة وعلى يساري رجل سويسري متوتر الأعصاب، ظل يحدق إليّ طوال الرحلة التي استمرت ثلاث ساعات ونصف. إلى يميني كان يجلس شاب اكتشفت انه أمريكي في مهمة “تدريبية دراسية” إلى لبنان.
وبينما كان السويسري يردد كلمات باللكنة الألمانية الحادة لم أفهم منها إلا عبارات “بالستينا… ليبانون”، بادر الأمريكي الشاب إلى طمأنتي بأن اهتزاز الطائرة ليس مؤشراً على أي خطر بل من الأرجح أن تستوي الأمور عندما نعبر جبال الألب ونبدأ في الطيران فوق البحر الأبيض المتوسط. أما الخطر الحقيقي ـ أضاف ـ فهو حيث نحن متجهون. وبعد أن تزايدت أسئلته عن ظروف المنطقة وآرائي في الأحداث، سألته عن مهنته أو مهمته؟ فقال انه سينصرف إلى دراسة دور الطائفة الشيعية في لبنان والمنطقة العربية، وانه خلال تلك السنة الدراسية سيقيم في مقر احدى المؤسسات الثقافية الأجنبية في رأس بيروت، بالقرب من شارع عبد العزيز في منطقة الجامعة الأميركية.
عدت بعد ثلاثة أعوام لاستلام مركز الأمم المتحدة للإعلام في بيروت، فوجدت أن الباحث الأمريكي الشاب قد تحول إلى صحفي دون تحديد الصحيفة، وانه يرافق باستمرار صحفياً لبنانياً قليل الكتابة كثير الانتقال المهني من صحيفة إلى أخرى. ثم انتقل الاثنان إلى باريس: الأمريكي مسؤول في صحيفة عالمية، والآخر بقي فترة بلا عمل يذكر، دون أن تبدو عليه الحاجة إلى المال. اذ كان يتنقل بين بعض الأسبوعيات الصادرة في لندن وباريس، فيعمل على شفط ما تنشره الصحف الصادرة هناك ثم يطلع بما يدعي انها أسرار حصل عليها من مصادره الأمنية الخاصة. خلال متابعة عملي في الأمم المتحدة، أصبحت لدي فكرة واضحة عن مدى عمل كل منهما، ولكنني احتفظت بذلك لنفسي كالعادة إلى أن زارني أحدهما خلال توقفي مرة بباريس وسألني عن معلومات حساسة عن أشخاص آخرين، لا علاقة لهم بالصحافة ولا بعملي الرسمي انما بوضعي الخاص. اعتذرت عن الإجابة وساعدته على ارتداء معطفه إشعاراً بضرورة الإياب من حيث أتى.
علمت بعد عودتي إلى نيويورك بأنه بعث تقريراً ـ إلى غير صحيفته ـ يؤكد من مصادره ـ التي لا يرقى اليها الشك ـ أنني من أنصار النظام الاعلامي “الجديد” وصحافة العالم الثالث، وضد حرية السوق أو توفير المعلومات لأهل الاختصاص.
هل هو باحث أم مباحث؟
تشـي
بعد أن ألقى ارنستو تشي غيفارا خطابه بالإسبانية في مقر الأمم المتحدة بمدينة جنيف، عندما كان وزيراً في حكومة كوبا الثورية، ذهب إلى كوات الترجمة الفورية ليشكر الذين نقلوا كلمته إلى اللغات الرسمية الأخرى. كانت بينهم زميلة من بلده الأصلي الأرجنتين، بل من بلدته الأصلية “روزاريو”، وهي بالمناسبة بلدة لاعب كرة القدم الشهير ليونيل ميسي. وكانت هناك أيضاً مترجمة فورية أمريكية أبدت إعجابها الشديد. وهي شقيقة رجل اشتهر فيما بعد بمعالجة قضايا الشرق الأوسط، وانتقلت للعمل في مكتب وزير خارجية أمريكي مرموق.
“مون جنرال”
عندما نزل المارينز على شواطئ بيروت صيف 1958 في جهوزية عسكرية شاملة لكي يخمدوا ثورة مسلحة، فوجئوا بالسابحات الفاتنات على شواطئ السان جورج والأوزاعي والسبورتينغ. توقفوا على الرمال ولم يتقدموا بانتظار تعليمات البنتاغون من واشنطن. وصلت رسالة عاجلة إلى ادميرال الأسطول السادس من قائد الجيش اللبناني الأمير اللواء فؤاد شهاب يطلب أسرع لقاء ممكن “تجنباً لسفك الدماء حصل اللقاء على الواقف” عند زاوية “الأيدن روك” آخر الرملة البيضاء (الصورة موجودة في “دار الصياد”).
حضر اللقاء ثلاثة ضباط وشهده صحفي ناشئ. قال الجنرال بكل هدوء وحزم ما معناه: “نحن، أنت وأنا عسكر، لعلنا نتفاهم. أنا قائد جيش لبنان المستقل، واجباتي حماية حدود الوطن وكرامته وسيادته. أقول لك وبكل مودة للدولة الصديقة الولايات المتحدة الأمريكية، مع التقدير الواعي لقدرتها العسكرية، أنني سأكون وأركاني الضباط على استعداد للمواجهة الخاسرة بالطبع دفاعاً عن مواقعنا”.
علياء
رفيقة عمر، علياء أو عالية أو عليَة… هي نفسها، لا نراها سنوات ونلتقي وكأننا لم نفترق منذ (أيام النضال). في بيروت وباريس ونيويورك والقاهرة وجنيف كانت تذكرني كيف التقينا لأول مرة في بيروت. طلاب جامعة نجمع الدعم لأهلنا المشردين من فلسطين. لم أكن أعرف من تكون زميلتي ونحن نطوف الشوارع من الصنائع إلى المصيطبة إلى القريطم إلا عندما بدأ الناس يدعون لوالدها “رياض بك” وتشد أزرنا وتقدم لنا كل ما لديها. بعد سنوات في مظاهرة من اجل الجزائر، ونحن نتقدم نحو الباب الرئيسي المواجه للمستشفى، توقفت سيارة سوداء تحمل الرقم 1943، ترجلت منها علياء ولمياء ومنى، مشينا معاً وكنا ننشد “موطني… موطني”.