تركنا القاهرة في الصباح الباكر قاصدين ”نويبع” على خليج العقبة، بين شرم الشيخ وطابا بفندقها الدولي الشهير.
عبرنا قناة السويس إلى سيناء مستفيدين من نفق الشهيد أحمد حمدي، ثم انحدرنا مع الشاطئ في اتجاه الطرف الشرقي لشبه الجزيرة المستكينة للصمت ومرور الزمن، في حين لا يعرف البدو من أهلها الاستكانة بحثاً عن الرزق العزيز.
في الهدوء المطلق تطل ذكريات الحروب، وتلتفت العين تبحث عن آثارها الباقيات، فإذا عزت الرؤية تكفل الخيال باستعادة مسلسل الصور الحزينة: من هنا انكفأنا، ومن هنا ”تقدموا”. شتان بين من يتراجع بظهره، ومن يقتحم ومدافع دباباته تتقدمه.
للتاريخ محطات كثيرة هنا يتصادم فيها الخروج من مصر مع الدخول إلى مصر. ومع أن أبرز المحطات ”دينية” الطابع، فإن الوقائع المروجة ”عسكرية” يتجاوز فيها ”يهوه” الإسرائيلي ”الله” المسيحي المسلم المصري.
جبل الطور. كليم الله. الوصايا، و”الشعب” الذي رفض أن يؤمن أو أن يصدق إلا إذا نزل ”الله” لخدمته وكشف نفسه لهم.
دير سانت كاترين الذي يخرج إليك كأنما من حلم أو من قلب الآذان وينتصب أمامك بمبانيه الباهتة الألوان الخارقة الحضور، كتعويذة، أو كقصيدة صوفية أو كعبق من البخور وأصداء الرنين الخافت والمتصل لأجراس العالم الآخر.
الرمل والصمت والسهوب والهضاب والتلال المتدرجة والشجيرات الصحراوية وقليل من الطيور، كلها يختلف عما ألفت، في ألوانه وفي أصواته وفي عاداته التي تمتزج فيها الدهشة بشيء من الفضول بينما يتضاءل الخوف الغريزي.
والبحر الأحمر هادئ كبركة بيتية، داكن الزرقة موحش الجنبات، فكل شواطئه صحارى، وإن كانت يد العمران قد ابتدأت تمتد من خليجه العميق عند العقبة إلى ما حولها على الضفتين.
الذاكرة أسبق من العين، فما إن لمحنا اسم ”شرم الشيخ” على لافتة حتى تداعت الذكريات غزيرة وموجعة.
التفتنا نستنطق الرمل والهضاب والطريق الاسفلتية التي تتلوى على حد الحد بين الباقي والعارض، بين الثابت والمتحول، بين الوافد والراسخ، بين الحرب المستعادة مرات والسلام الذي لم يحن أوانه بعد.
السلام… ها هو ”يطير” من فوقنا، ويمخر العباب أمامنا، وتمرق بنا سياراته عجلى، ونلمح جنوده بالخوذ البيض وأجهزة الاتصال الحديثة والمرسلات الطويلة.
السلام جيد الحراسة هنا. لكأنه في الإقامة الجبرية. والحراسة تشمل البر والبحر والجو، والجنود أعاجم يرطنون بلغاتهم التي تتقاطع ”فتتوحد” في الإنكليزية. إنها القوات متعددة الجنسية المكلفة بحماية السلام من الجيش المصري، الممنوع من التواجد في أرضه، وعلى امتداد سيناء. الأمن الداخلي للسلام الخارجي مسؤولية الشرطة، والهجانة من حرس الحدود المتخصصين في مكافحة المهربين من رجال البدو المستعدين لبيع خبراتهم لمن يدفع… وكثيراً ما دفع الإسرائيلي لتمرير شحنات المخدرات (الحشيشة خصوصاً) إلى الضفة الأخرى من قناة السويس.
السلام يسوح، يتشمّس ليكتسب اللون البرونزي الساحر.
السلام يسبح، يتريض، يأكل جيداً، يتقاضى مرتبات عالية. السلام ينام قرير العين هنا، لا أحد يعكّر صفوه وهو يستظل العلم الأميركي.
سيناء مصرية، لكن الحرب إسرائيلية، والسلام أممي مثله مثل السياح.
شرم الشيخ تحت الطريق.
ما أكبر الاسم ما أصغر القرية.
ما أكبر التاريخ ما أضأل الجغرافيا، خصوصاً هنا حيث الجغرافيا مهد لفصول عديدة في التاريخ.
كل شيء للسياحة. كل شيء للآتين عبر البحر أو بالطائرات.
تكاد تفتقد أي أثر لمصر التي تعرفها. اللغة سياحية، الثياب سياحية، الأسعار سياحية، البيرة سياحية، السكاير سياحية، الرمل سياحي، الشعب المرجانية سياحية.
رائحة إسرائيل نفاذة، إنها هنا عبر السياحة.
يقول لك ”سائح” مصري بإنكليزية مقعرة: الإسرائيليون هم من اكتشفوا القيمة السياحية لهذه المنطقة، فأنشأوا فيها أول فندق وأول مشروع لقرية سياحية وجاؤوا بالمستثمرين الأجانب الذين يشترون الشمس والرمل ولون البرونز.
إنه يريد أن ينسى الحرب وإنها هي التي منعت التفكير السياحي، من قبل.
صارت الحرب حكاية لا يذكرها ولا يرددها إلا العجائز.
وصار السلام سياحة تدر ما يكفل أغماض العينين عن الماضي والمستقبل.
السياحة من مواليد رأس المال ومثله: لا وطن لها ولا قومية ولا رائحة. لا عيب فيها ولا حساب على ضروراتها التي تبيع المحظورات.
لكن ذلك العجوز الذي يحرس البحر والشمس ورمل الصحراء لا يبدي إعجاباً كبيراً بالسياحة والسياح، ثم إنه لم ينسَ السياسة بعد:
أترى هذا الخليج؟! كنت أقطعه بجمالي إلى هناك حيث يخيّم الضباب الآن فيخفي معالم ينبع، السعودية. لم يكن أحد يعترضني أو يسألني عن هويتي. صار الخليج ثلاثة دول تفصل بينها الدماء منذ أن جاء هؤلاء اليهود.
كنا فقراء، لكن أرضنا كانت لنا.
في الحرب جاء الإسرائيليون فتغير كل شيء. سلامتك يا مصر. سلامتك يا المحروسة. هل تريد كوز ذرة مشوية يا أستاذ؟! الجوع يذل يا أستاذ.
عندما عدنا إلى السيارة سعى إليَّ هامساً ليقول:
إذا شئت أن تشتري بعض الحاجيات فتجنب هذا المحل الكبير، يقولون إن لليهود شراكة فيه. اشتر من أي محل آخر. اشتر من أي مصري. المصري عربي والنبي عربي، واليهود قاتلوا الرسول. عسل يا ذره!
* * *
من شرم الشيخ إلى نويبع تنبت في قلب الرمل قرى سياحية وفنادق ومقاهٍ ومسابح ومحال تجارية تبيع كل ما يحتاجه السياح.
الكل مصريون. قد يرطنون، وقد يخففون من ”مصريتهم” بجانبها الحربي، لكنهم مصريون. يميزون ”الإسرائيلي” من بين ألف سائح، فينتبهون إلى كل كلمة يقولونها، وإلى كل حركة تصدر عنه. تحس بالتعليمات ثقيلة الحضور، تلغي أي مساحة للود والإلفة. المصلحة تحكم.
في الفندق الذي دخل التاريخ في طابا كان الموظفون يتصرفون وقد تخففوا من المرح الذي اشتهر عن المصريين. وكانوا يدققون في زبائنهم:
نعرف أن كثيرين منهم قد يكونون فلسطينيين لا إسرائيليين. ونعرف أن كثيراً من الإسرائيليين يتحدثون العربية حتى نظنهم فلسطينيين. لكنهم هنا زبائن.
وقاطعه زميله: لا مجال للخداع، ان رائحتهم تسبقهم.
تجلس غارقاً في أفكارك والشجون، تتأمل التحولات في الأمكنة والأزمنة والوجوه. الأيام تمر، والمستغرب أو المستهجن يكتسب تدريجياً صورة المألوف.
تمشي في الطريق إلى نهايته. عند المنعطف تصرخ بك اللافتة: قف الحدود!
تمسك الأسلاك الشائكة بخناق البحر والشمس والرمل، وترتفع فوق التلة المطلة على الطريق أكشاك الحراسة من الجانبين وبينهما بحر آخر من الغربة المصفحة بالدم.
لا أحد يشبه الآخر.
والصمت يلف كل شيء: الجبل والصحراء والبحر والأسلاك الشائكة.
والصمت يختزن الحزن وأطياف الشهداء، وبعض الذل، والشعور بالانكسار.
“لا شيء تمّ كما أردنا. والسياحة لا تبني الأوطان”.
الصحراء تتمرد على محاولات التدجين، والشعب المرجانية في البحر ترسم حدوداً من طبيعة أخرى، والسياح يأتون ويذهبون، والبحر يظل ”أحمر”.