من الطريف أن رئيس الجمهورية اللبنانية هو الوحيد من بين المسؤولين العرب القادر والمؤهل والمقبولة زيارته لمختلف العواصم العربية.. وهكذا فقد استقبلته، خلال الأسابيع الماضية، أربع عواصم عربية هي الرياض والدوحة ثم القاهرة وعمان ..
لم يعد قادة الأنظمة العربية “أحراراً” في حركتهم، تماماً مثل رعاياهم. هناك عواصم، محرمة زيارتها، بغض النظر عن البعد او القرب.. أما رئيس لبنان الجديد فهو خارج قائمة الممنوعين من الدخول !
صار لكل دولة عربية تقريباً سور من الحديد لا يفتح إلا أمام المرضي عنهم من الملوك والرؤساء وصولاً إلى الوزراء. أما المواطنون، أو الرعايا، فخارج البحث!
ارتفعت أسوار من الجفاء، بل العداء، بين العواصم العربية حتى تلك التي كانت الأقرب إلى بعضها البعض، يدفع ثمنها أهل البلاد قبل قياداتها، في الاقتصاد كما في السياسة، في الأمن الوطني كما في مواجهة العدو الإسرائيلي.
صارت واشنطن اقرب إلى القاهرة من دمشق أو الجزائر فضلاً عن المغرب، وصارت تل أبيب، عاصمة الكيان الإسرائيلي اقرب إلى الدوحة من بغداد أو بيروت.. أما صنعاء فقد جعلتها الرياض هدفاً ثابتاً لطيرانــــها الحربي ولمدفعيتها بعيدة المدى، وعزلتها عن الأخ والصديق في انتظار أن يموت أهلها بالجوع أو البرد أو المرض إن لم يذهب بهم الجوع!
عزل أهل الذهب، اسود أو ابيض، أنفسهم في قفص مقفل لا يشاركهم فيه إلا السادة من الأميركيين وأغنياء الأوروبيين ومعهم السماسرة ومرتبو الصفقات المريبة. وزيارة الرئيس اللبناني هي استثناء ولا ينقض القاعدة!
فهل نستغرب، بعد هذا كله، أن يهون شأن العرب على أعدائهم وخصومهم، وأن ينكرهم أصدقاؤهم الذين تخلوا هم عنهم بلا وداع؟!
إن العرب يقاتلون العرب، إن العرب يقتلون العرب… فكيف تبقى لهم قضية مقدسة، وكيف يمكن أن ينتبه العالم لحقوقهم في فلسطين طالما يهدر حكامهم كرامة أوطانهم ويستدعون الجيوش الأجنبية لحماية أنظمة البطش ونهب الثروات الوطنية؟
*****
هذه حال “العرب” اليوم: حوّل الحكام شعوبهم إلى قبائل مصطرعة. يغضب حاكم من حاكم آخر فيفرض حظراً على شعبه في السفر لزيارة “أهله” في البلد الذي كان “شقيقاً” فصار”خصماً” بغير تبرير أو تفسير.
على سبيل المثال لا الحصر: لم يعرف اليمنيون، حتى هذه اللحظة، سبب الحرب السعودية – الخليجية عليهم، وهي حرب تُدمر العمران وأسباب الحياة في البلاد التي إبتنت الحضارة الأولى في التاريخ الإنـــــساني، والتي كان أهلها رجال الفتح العربي- الإسلامي لسائر البلاد، وصولاً إلى الأندلس التي فُتحت بعمامة مقاتل يمني.
ولم يعرف العراقيون، الذين دمر بلادهم الطاغية صدام حسين لماذا يتواطأ عليهم “أهلهم” من حكام دول النفط والغاز، فيشعلون في ارض الرافدين نار الفتنة ويمنعون عليهم إعادة توحيد بلادهم المدمرة وعودتها إلى لعب دورها الذي لا غنى عنه في بناء الغد العربي الأفضل.
أما السوريون الذين أسهموا في نجدة إخوتهم في مختلف الأقطار العربية، بالرجال والسلاح والدعم المعنوي، في المعارك التي خاضوها لتحرير أوطانهم، الجزائر مثالاً، والذين بذلوا دماءهم رخيصة من اجل فلسطين كلما دعا النفير إلى قتال محتليها الصهاينة، فقاتلوا على أرضها ضد “المستوطنين الغزاة”، ثم ضد “الدولة” التي أقامها التواطؤ الدولي على الأمة العربية وحقها في التحرر بعنوان فلسطين..
…أما هؤلاء السوريون الذين قدموا عرق الجباه والزنود في بناء العديد من بلاد أشقائهم العرب، في السعودية وسائر أنحاء الخليج، كما في لبنان، وأسهموا في تعليم اللغة العربية لإخوتهم الجزائريين ولأجيال من المغتربين في مختلف أرجاء أميركا اللاتينية الخ.
أما هؤلاء السوريون فهم يُقتلون، يومياً، ومنذ سنوات، برصاص “أشقاء” عرب، يتنكرون لهم وينكرون عليهم عروبتهم ويقاتلونهم ودينهم تحت رايات “داعش” و”النصرة”، باسم الديمقراطية كأنما الإرهاب هو طريقها، وباسم الإسلام والدين منهم براء، ويدمرون في البلاد ذات التاريخ رواسي الحضارة القائمة فوق أرضهم شهادة على الــــسبق إلــــى التمـــدن والتقدم، خصوصاً وأنهم كانوا رجال الفتح الإسلامي الذي نشروا الدين الحنيف في أربع رياح الأرض.
*******
في هذا الوقت بالذات، ومن دون سابق إنذار، وبعدما تلقى الرئيس الأميركي الجديد ترامب سيلاً من الاتصالات وبرقيات التهاني والتبريك من القادة العرب، ملوكاً وأمراء ومشايخ ورؤساء، نجده يفتح ذراعيه مرحباً بصديقه رئيس الحكومة الإسرائيلية نتنياهو ويبلغه انه لم يعد متمسكاً بحل الدولتين للمسألة الفلسطينية!
هكذا وبكل بساطة، وبصراحة تداني حدود الوقاحة يجاهر الرئيس الأميركي، الذي يعلن شعبه – من الشارع – رفضه لشرعية انتخابه، إسقاطه حقوق الشعب الفلسطيني في أرضه التي كانت أرضه على امتداد التاريخ، وإضفاءه “الشرعية” على الاحتلال الإسرائيلي بقوة القهر لهذا الشعب المجاهد وحقه في أرضه المقدسة.
إن هذا الموقف الذي يشكل تحدياً للإرادة الدولية التي كرست الحد الأدنى من حقوق الشعب الفلسطيني في أرضه، إنما يمثل استهانة بل إهانة للعرب، ملوكاً ورؤساء وأمراء ومشايخ ورعايا.
كذلك فان هذا الموقف يشكل تحقيراً للإدارة الأميركية، ويظهرها وكأنها حكومة لدولة تافهة تصدر قراراتها بإملاء خارجي، ولا تراعي مصالحها الوطنية، فضلاً عن كونها لا تقيم اعتباراً – ولو بالحد الأدنى – لاثنين وعشرين دولة عربية (قابلة للزيادة!!) ولعشرات من الدول الإسلامية مضيعة القيمة والقرار، وكذلك لعشرات من الدول في اميركا اللاتينية وفي اوروبا ممن سبق لها أن أقرت حقوق الشعب الفلسطيني في بعض أرضه… بل أنها قد اعترفت بمنظمة التحرير الفلسطينية، ثم “بالسلطة الفلسطينية” كممثلة شرعية للشعب الفلسطيني وحقه في إقامة دولته على “بعض” أرضه.
ومع أن الرئيس الأميركي قد وجد من ينبهه إلى الخطأ الجسيم الذي ارتكبه، تجاه الرئاسة الأميركية أولاً، وقبل الأمم المتحدة وقراراتها، وقبل الدول العربية والمصالح الأميركية فيها، قد عاد فحاول التخفيف من وقـــع تصريحاته المعادية لشعب فلسطين وقضيتها، وللعرب عموماً، والدول المتعاطفة مع هذه القضية العادلة، وفيها أصدقاء ناصحون، وهكذا عاد فاستذكر القرارات الدولية ذات الصلة .. وبالتأكيد فإن الملك الأردني عبد الله بن الحسين لم يجد خلال اللقاء القصير مع ترامب في المعبر المؤدي إلى قاعة الاحتفالات في البيت الأبيض، لأنه أصر على اللقاء برغم إبلاغه أن برنامج ترامب مزدحم ولا يتسع للقاء في المكتب البيضاوي، لم يجد ما يكفي من الشجاعة للاعتراض على التصريحات الرعناء … لكن المؤكد أن “عقلاء” في الإدارة أو حتى في الكونغرس قد نصحوا ترامب فعدل في آرائه، قليلاً بما قد يهدئ الغضبة العالمية عليه .
*******
… وإذا كان قادة الدول العربية على هذه الحالة من فقدان القيمة والاعتبار، يحكمون شعوبهم بالحديد والنار، ويوالون الأجنبي على بلادهم، ويتواطأ بعضهم ضد البعض الآخر ولو مع العدو الإسرائيلي…
فهل نستغرب أن يستهين بهم ترامب، وأن يُهين شعوبهم ودماء آلاف آلاف الشهداء الذين بذلوا دماءهم رخيصة على ارض فلسطين من اجل منع جيش الحركة الصهيونية من احتلالها بالتواطؤ مع الغرب والشرق؟
إن ترامب الذي يؤكد كل يوم رعونته وجهله بالتاريخ واحتقاره لشعب الولايات المتحدة ذاته، الذي لا يتعب من إعلان رفضه له، هو الحليف النموذجي لأسوأ نماذج العنصرية الصهيونية نتنياهو..
مع ذلك فهو قد اضطر، نتيجة ضغط داخلي أساساً، وخارجي بالتأكيد إلى محاولة تصحيح الخطأ الفاحش، والتخفيف من جنونه المتعصب لاسترضاء نتنياهو .
.. وفي انتظار عودة العرب إلى وعيهم سنشهد المزيد من المآسي المهينة.
*******
مع ذلك فإن رئيس جمهورية لبنان يدعى إلى زيارة الدول العربية الأخرى ويلقى الترحيب، كأي “رئيس أجنبي” .. مع أنه يتحدث اللغة العربية بطلاقة جنرال متقاعد بعد “حربين” في الداخل وعليه، ومن موقع قائد الجيش ورئيس لحكومة عسكرية رفض نصف وزرائها الستة قبول الاشتراك فيها .. وانتهى “منفياً” لخمس عشرة سنة قبل أن يعود فيستقبل استقبال الفاتــحين، ويكــرس “زعيماً” لطائفــة عظــمى، هي – بالمصادفة – طائفة رئيس الجمهورية في بلد الثماني عشرة طائفة .. بعد ضم الأقباط والأشوريين والكلدان والسريان وسائر المنفيين والهاربين من القتل في مختلف أرجاء المشرق العربي، الذي كان ذات يوم موئل جيش الفتح، وكان هؤلاء جميعاً بين جنوده المؤمنين.
ينشر بالتزامن مع جريدة الشروق